تركيا: ما بعد صعود يلدريم !
2016-5-24

كرم سعيد
* باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

من بين سبعة مؤتمرات عامة واستثنائية عقدها حزب العدالة والتنمية التركي منذ تأسيسه في العام 2002، يبدو المؤتمر الاستثنائي الذي عُقد في 22 مايو الجاري الأهم في تاريخه.

وكان الرئيس أردوغان بطل الإجراءات والسياسات الكبرى التي اتخذتها مؤتمرات الحزب منذ تأسيسه في العام 2002. ورغم غياب الرئيس عن المؤتمر، لكنه كان حاضرا بقوة، إذ وقف مندوبو الحزب، خلال تلاوة مندوب كلمته، والتي أكد فيه رغبته في صوغ دستور جديد وتصحيح نظام إداري مشوه، وأضاف "قد تكون روابطي القانونية بالحزب انقطعت، يوم أديت القسم الدستوري رئيساً، لكن روابط القلب لم ولن تنقطع أبداً".

نتائج تقليدية:

انتهى المؤتمر بخروج أحمد داود أوغلو من تركيبة الحكم، وصعود على بن يلدريم وزير النقل لرئاسة الحزب، باعتباره مرشحًا وحيدًا، بموجب اجتماع عقدته لجنة الإدارة المركزية بـ"العدالة والتنمية". ويلدريم، وهو من مؤسسي الحزب وذراع الرئيس التي دفعت مشاريع ضخمة للبنية التحتية، حصل على شبه إجماع لدي مندوبي الحزب، فقد نال 1405 صوتاً من إجمالي 1470 كما صوت جميع أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب والبالغ عددهم 50 عضواً لمصلحته. وكانت التعديلات الأخيرة في الهيكل التنظيمي للحزب قد استبعدت كل الموالين لرئيس الوزراء السابق داود أوغلو، وحتى تلك التي يجمعها ود مع الرئيس السابق عبدالله جول في إطار سياسية إقصاء المخالفين للقصر.

فعلى سبيل المثال تم استبعاد نائب رئيس الوزراء نعمان كورطمولمش، ونائب رئيس الوزراء مسئول الملف الكردي يالتشن أكدوغان، والنائبين السابقين لرئيس الوزراء محمد على شاهين وجميل شيشيك. هذا التوجه المهم في السياسة التركية يساعد أردوغان على تعزيز موقعه ونفوذه الرئاسي من دون اعتراض فعال من الحكومة، ويمهد الطريق أمام تحويل صيغة نظام الحكم ليصبح منصب رئيس الجمهورية، الذي فاز به في أغسطس الماضي هو المركز التنفيذي الأول في البلاد بدلا من رئيس الوزراء.

وقد أثارت سياسات العدالة والتنمية التي تكرس سلطوية أردوغان غضب المعارضة، وكان بارزاً، هنا، تصريحات رئيس حزب "الشعب الجمهوري في مايو الجاري كمال كليجدار، الذي قال أنه بتغيير الدستور والانتقال للنظام الرئاسي "سيتكلم شخص وتسكت تركيا" مضيفاً "مثل هذا النظام الرئاسي لا يمكن لكم تحقيقه من دون إراقة دماء".

يلدريم يكرس نهج أردوغان:

كانت بوادر خلاف بقيت تحت السطح لمدة طويلة بين الرئيس أردوغان وداود أوغلو في ملفات عدة منها صعود المقربين من الرئيس إلى مراكز قيادية في الحزب والحكومة كصهره بيرات البيراق وزير الطاقة ونائب رئيس الحكومة ياسين أكدوغان فضلا عن احتدام الجدل بشأن تسوية المشكلة الكردية، ورفض أوغلو عسكرة الأزمة فضلا عن انتقاده احتجاز صحفيين وممثلين عن المجتمع المدني.

وكان داود أوغلو قد اختلف مع الرئيس أيضا بشأن تمرير النظام الرئاسي، وقال إن ليس هناك حاجة للتسرع في حملة القصر لإنشاء نظام رئاسي في تركيا. ودخل المناخ مرحلة الشحن مع تنظيم حملة مجهولة المصدر على شبكات التواصل الاجتماعي تصف أوغلو بـ "الخائن" الذي يتآمر على بلاده. وانطلقت هذه الحملة مباشرة بعد تجميد يد أوغلو في عملية اختيار ممثلي حزب العدالة والتنمية في أقاليم ومحافظة الدولة. والواقع أن قضايا الداخل لم تكن وحدها التي فاقمت الأزمة بين أردوغان ورئيس وزرائه، فقد دخلت أزمة اللاجئين بدورها على الخط، ففي الوقت الذي نجح أوغلو في هندسة اتفاق مع أوروبا يمنح الأتراك إضافة إلى 6 مليارات يورو مساعدات مالية، تأشيرات لدخول دول منطقة شنغن في الاتحاد الأوروبي (دول الاتحاد ما عدا: بريطانيا وايرلندا وبلغاريا وكرواتيا وقبرص ورومانيا).

وقد هدد أردوغان بإفشال الاتفاق حال عدم تمريره قبل يونيو القادم، بينما ينتظر القرار بعد توصية المفوضية الأوروبية موافقة البرلمان الأوروبي والدول الأعضاء في شينغن، والتي ربما تأخذ وقتا لتجاوز تداعياته. على النقيض من أوغلو أعلن يلدريم عشية تنصيبه بالسير على نهج ساكن القصر الأبيض، والسعي إلى تحقيق حلمه في تحويل النظام إلى نظام رئاسي. وفي أولى تصريحاته وصف يلدريم ساكن القصر الأبيض بأنه "رجل الشعب ومهندس تركيا"، وأضاف "قلنا دوما بفخر إننا رفاق رجب طيب أردوغان، وإننا نتقاسم مصيرا مشتركاً وشغفاً مشتركاً. السيد الرئيس نعدكم بأن شغفكم سيكون شغفنا، وقضيتكم ستكون قضيتنا، ومساركم مسارنا".

تداعيات صعود يلدريم:

ظل الأداء السياسي لحزب العدالة والتنمية باهتاً طوال الشهور العشرين الماضية بفعل تدخلات مؤسسة الرئاسة في جدول أعماله وتوجهاته. لكن برغم حالة القلق والتوتر التي باتت السمة الأبرز بين قياداته تمكن الحزب من الحفاظ على وجوده في الصدارة. الفضل يعود إلى تراجع أحزاب المعارضة في الشارع التركي، وبخاصة حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، كما أن المنافع الفردية والانجاز الاقتصادي، وليس تحليل السياسات أو القناعات الإيديولوجية كانت هي الحاكم لعملية التصويت لمصلحة الحزب. غير أن حال التراجع والخصام بين مكونات الحزب لم تعد تخطئها عين، وكشف عنها خطاب أوغلوا الوداعي في المؤتمر الاستثنائي، حيث أكد على أن استقالته لم تكن "خياره" وتحدث عن "تضحيته بالمنصب خشية انقسام الحزب".

الانقسام الحزبي دفع رئيس بلدية أنقرة "مليح غوكجك" للدفاع عن الحزب، فقال "إنّ ما يشاع في بعض وسائل الإعلام المعادية لحزب العدالة والتنمية، من أنباء حول نشوب خصام بين أعضائه عارية عن الصحة"، وأضاف "أنّ أعراف العدالة والتنمية خالية من الخصومات". المهم أنه باستقالة أوغلو وصعود يلدريم ستكون ثمة تداعيات على المشهد التركي أولها تمتع رئيس الدولة بالحرية المطلقة في إدارة شئون الدولة من دون معارضة. ويعتقد كثيرون أن أردوغان قطع الآن شوطاً بعيداً نحو تحقيق حلمه بصعود يلدريم الذي شدد في المؤتمر على "أولية إضفاء شرعية على الوضع القائم، لإنهاء الارتباك من خلال تغيير الدستور" وأضاف "رئيسنا يحمل مسئولية شعبنا، والدستور الجديد سيكون من أجل نظام رئاسي تنفيذي".

وثانيهما إنهاء النظام السياسي ذو الرأسين الذي عاشته تركيا منذ صعود أوغلو إلى سدة رئاسة الوزراء في العام 2014، إذ بات بمقدور الرئيس التدخل في اختيارات أعضاء الحكومة، ولذا يرشح صعود صهره بيرات البيراق إلى منصب وزير الاقتصاد، وهو الموقع الأهم داخل الحكومة. خلف ما سبق فأن صعود يلدريم يسهل مأمورية تعديل الدستور، خصوصا أن المهمة الرئيسية لرئيس الحكومة الجديد ستكون مشروع التغيير الدستوري لتحويل صيغة الحكم إلى رئاسية. على صعيد ذي شأن ليس من المتوقع حدوث تغيير في سياسات القصر بشأن الأزمة الكردية، إذ أكد يلدريم أن مكافحة الإرهاب ستستمر ضد منظمة حزب العمال الكردستاني.

وبينما كان أوغلو يحرص على عودة المسار التفاوضي، ويعارض ملاحقة النواب الأكراد، لم يبد يلدريم اعتراضاً على مصادقة البرلمان على تعديل دستوري يرفع الحصانة عن النواب الملاحقين قضائيا، وهو ما يمهد لمحاكمة ممثلي حزب الشعوب الديمقراطية بتهمة تصريحات اعُتبرت دعما لـ "حزب العمال الكردستاني" المحظور فضلا عن 51 من نواب حزب الشعب الجمهوري يواجهون ملاحقات قضائية. في المقابل، وحيث أن تداعيات صعود يلدريم تلامس قضايا داخلية، فإن تبعاتها ستنتقل إلى الخارج، إذ لا يتوقع حدوث تغيير تدريجي في السياسة الخارجية للحكومة الجديدة، باتجاه جمود العلاقة مع أوروبا، خاصة في ظل غياب أوغلو الذي كان وجها مقبولا لدي الاتحاد الأوروبي وواشنطن. وكانت المستشارة الألمانية قد صرحت يوم 22 مايو الجاري عشية حضورها القمة الإنسانية في تركيا أن "بعض التطورات في تركيا تشكل مصدر قلق شديد"، وأكدت امتعاض دول الاتحاد من رفع الحصانة عن نواب معارضين في البرلمان التركي.

كما يرجح استمرار التوتر مع القاهرة وبعض دول الخليج ناهيك عن استمرار فرص التعاون والشراكة مع قطر والسعودية مقابل استمرار الارتباك مع روسيا، خاصة أن أردوغان هو صاحب القول الفصل في توجهات السياسية الخارجية.

ما بعد يلدريم:

مستقبل العدالة والتنمية بالرغم من أن حزب العدالة والتنمية مازال يمثل وعاء لملايين المواطنين الأتراك، ونجح في جذب قطاعات سياسية واجتماعية متعددة بين صفوفه إلا أن ثمة العديد من الأسباب التي تقف وراء تصاعد حالة الاحتقان داخل الحزب، والتي يرجح أن تصل مبلغاً بعد الإطاحة بقطاع معتبر من الإصلاحيين من المراكز القيادية، وصعود الموالاة إلى سدة الحزب. أولها البنية المؤسسية للحزب، فالحزب منذ نشأته وإلى الآن يعبر عن تحالف واسع، ويضم طيفا من التيارات المختلفة داخله من إسلاميين وليبراليين وصوفيين إضافة إلى قطاع من البيروقراطية التركية والتكنوقراط، والذين انضموا للحزب في السنوات الأخيرة لضمان مصالحهم الاقتصادية.

غير أن هذه التركيبة بدأت في التآكل تدريجياً مع إقصاء كل المخالفين لتوجهات الرئيس، وبخاصة من قياداته التاريخية. وثانيهما إصرار أردوغان على تحويل مجرى النظام من برلماني إلى رئاسي، رغم تحفظات قطاع معتبر من قادة العدالة والتنمية، وفي الصدارة منهم المُقال داود أوغلو. ويطمح أردوغان إلى إعادة صياغة الدستور الموضوع منذ ثمانينات القرن الماضي لتمرير النظام الرئاسي من جهة، ومن جهة أخرى التخلص من نفوذ الجنرالات الذين عادوا للواجهة مجدداً برغم التدابير والإجراءات التي اتخذتها حكومات العدالة والتنمية منذ العام 2002، إلا أنها لم تنجح في إضعاف الجيش أو حلحلة صورته الذهنية عند الأتراك.

وكان رئيس الأركان الجنرال أكار قد رفض قبل نحو شهرين تعليمات رئاسية بتصفية كل من يُشتبه في انتمائه إلى جماعة جولن، خشية خروج الأمر عن السيطرة، إذ يعتبر أن الجيش لم يتعاف بعد أزمة طرد مئات من ضباطه، بتهم ملفقة، ما أحدث فراغاً وظيفياً في قيادة سلاح البحرية. في سياق متصل ساهمت كاريزما أردوغان وقوة شخصيته، في بسط نفوذه على سياسات الحزب، وتجلى ذلك في تمرير خارطة المرشحين لمجلس الشعب 2015، وهو الأمر الذي ساهم في تنحية قطاع يعتد به من قيادات الحرس القديم داخل الحزب مقابل ترشح نواب موالين تماما له من الوجوه الجديدة التي قد لا تعارض خياراته السياسية. وراء ذلك مثلت فضائح الفساد بجوار الأزمة الاقتصادية تحدياً أخر ساهم في تصاعد التوتر داخل الحزب، ففي الوقت الذي فقدت الليرة ما يقرب من 30% من قوتها الشرائية وارتفع مؤشر البطالة إلى نحو 11,2% تظل حكومة الحزب عاجزة عن تجاوز هذه المحنة ورافضة في الوقت ذاته الاستماع لنصائح بعض قادة الحزب المناهضين لتوجهات الحكومة الاقتصادية، والذين دعوا إلى تقديم المتورطين إلى القضاء ومحاكمتهم علنياً ليكونوا عبرة لغيرهم، وهو الأمر الذي رفضه أردوغان جملة وتفصيلاً، واتهام دعاوى الفساد بالزيف والرغبة في الانتقام من نجاحاته.

خلاصة القول أن حزب العدالة والتنمية برغم إمساك الموالين للرئيس بمفاصله وأعصابه الحساسة إلا أن الحزب يعيش على صفيح ساخن، ورغم أن المؤتمر الاستثنائي للحزب حسم المشهد لمصلحة خيارات أردوغان مؤقتاً إلا أن ثمة سيناريوات قد يشهدها الحزب في الفترة المقبلة منها حدوث انتفاضة داخل الحزب، تعتمد في قوامها على القادة التاريخيين والآباء المؤسسين للحزب، وتنتهي بعمل حاجز فاصل بين الحزب والسلطة التنفيذية، وبالتالي إنهاء حالة الانقسام والعودة إلى تقاليد الحزب.

وثانيهما استنساخ تجربة حزب الوطن الأم في ثمانينات القرن الماضي، فعلى غرار "تورجوت أوزال" يكون "أردوغان" ممسكاً بتلابيب المشهد، وعلى نهج "مسعود يلماظ" يكون يلدريم رئيسا للوزراء مطيعاً لمؤسسة الرئاسة. وهذا السيناريو هو الأقرب في ظل رغبة أردوغان في تركيز الصلاحيات في يد رئيس الدولة.

السيناريو الثالث هو اتجاه بعض القادة التاريخيين والمؤسسين الذين لديهم أرضية معتبرة في الشارع التركي مثل عبدالله جول وبولنت أرينج وعلى بابا جان إلى تأسيس تجربة حزبية مماثلة ولكن وفق اشتراطات ديمقراطية حقيقة.


رابط دائم: