ديلما روسيف ونهاية يسار إعادة توزيع الثروة في البرازيل
2016-5-22

ضياء حسني
* .

هاهي رئيسة البرازيل ديلما روسيف تشهد مدة رئاستها الثانية والتي بدأت منذ عام 2014 تنتزع منها قبل نهايتها، بعد أن صوت 55 عضو من 81 عضوا بالكونجرس البرازيلي في 12 مايو 2016، على تعليق رئاستها لمدة ستة أشهر، تمثُل خلالها أمام لجنة تحقيق من أعضاء الكونجرس البرازيلي، وهي اللجنة التي عليها أن تقرر رحيلها نهائيا من رئاسة البرازيل أو تثبيتها في موقعها حتى نهاية مدتها في عام 2018. وربما يكون الأمر الأرجح وفقا لعديد من المراقبين ترك السيدة ديلما روسيف منصب الرئاسة للأبد، بعد أن قضت عامان وسبعة أشهر من مدة رئاستها الثانية البالغة أربع سنوات. وقد تم خلع السيدة روسيف من منصبها ليس بسبب ارتكابها جريمة، ولكن لكونها قامت بتزييف بيانات ميزانية الدولة من أجل إخفاء العجز الحقيقي فيها، وقامت بالاستدانة من البنوك بغرض سد العجز والاستمرار في برامج الحكومة الاجتماعية لصالح الطبقات الأكثر فقرا، وهو إجراء تقوم به العديد من الحكومات في العالم، بما فيها دول تعتبر من الدول المتقدمة اقتصاديا. ويعكس هذا القرار الوضع السياسي في البرازيل الذي تسيطر عليه طبقات سياسية منغمسة في الفساد سواء كانت من اليمين أو من اليسار. فقد كان من المنطقي الدعوة لانتخابات مبكرة لحل تلك الأزمة بشكل لائق ديموقراطيا، لكن هذا لن يحدث قبل 2018، في مجتمع سياسي تسيطر عليه ظاهرة التشرذم الحزبي. فهناك أكثر من 30 حزبا يمثلون الناخبين داخل الكونجرس، وهو ما يجبر اليمين واليسار على التعاون سويا من أجل دعم الحكومات، وغالبا ما يحدث ذلك من خلال تركيبات ضعيفة وهشة، وبالتالي يواجه النظام السياسي والتشريعي البرازيلي أزمة كامنة باستمرار تجعل منه بطة عرجاء، وهي ظاهرة معروفة منذ زمن طويل، ولكن أزمة ديلما روسيف سلطت عليها الضوء لتبدو بشكل ظاهر وأوضح. ومن جانبها وصفت ديلما روسيف ما حدث بأنه "كوميديا قضائية فجة"، فالأمر في نظرها لا يعدو كونه مؤامرة مدبرة من قبل خصومها السياسيين بغرض الالتفاف على قرار صناديق الانتخابات، والوصول للحكم بدون تصويت. كما أعلنت أنها ستكافح لأخر لحظة لفضح تلك المؤامرة التي رسمت من أجل إزاحتها من منصبها، مضيفة بأن "النضال من أجل الديموقراطية لا نهاية له". وتجيء تنحية ديلما روسيف عن منصبها ربما لتعلن نهاية حكم استمر ثلاثة عشر عاما سيطر خلالها حزب العمال على منصب الرئاسة، واتسمت هذه الفترة بمرحلة ذهبية في تاريخ البرازيل خلال رئاسة الرئيس لويز أناسيو لولا دي سيلفيا (2003-2010). فالبرازيل تدين له بالكثير، وبالتحديد البرازيليين الأكثر فقرا، ولكن الرئيسة ديلما روسيف لم تنجح في المزج بين سياسة اجتماعية مماثلة لتلك التي انتهجها لولا دي سيلفيا، والسيطرة على عجز موازنة للدولة، في ظل تراجع النمو في الاقتصاد البرازيلي نتيجة لتراجع أسعار المواد الخام، والزراعية منها بالتحديد. فالأزمة السياسية التي تشهدها البرازيل تأتي مصاحبة لأزمة اقتصادية خانقة. إذ تشهد البلد كسادا لم تعرفه منذ نحو قرن من الزمن، والاستثمارات تقارب الصفر، ومعدلات الاستهلاك في ركود، وهو ما يؤثر بشكل مستمر على المستثمرين والمستهلكين في الاقتصاد البرازيلي. وسياسيا يرجع البعض هزيمة ديلما بتراجع الإنجيليين عن تأييدها في معركة خلعها من منصب الرئيس، والمقصود بالإنجيليين هم أعضاء الحزب الاشتراكي المسيحي، وحدوث تقارب بينهم وبين حزب نائب الرئيسة ديلما، ميشيل تامر، والذي تولى السلطة بعدها (حزب الحركة الديمقراطية البرازيلية). فعندما أدرك الانجيليين اتجاه الريح رغبوا في الالتحاق بالسلطة من جديد، من أجل استمرارهم في سياستهم التبشيرية، فتقاربوا مع نائب الرئيسة وحزبه على أمل الحصول على مقاعد وزارية في الحكومة الجديدة، فقد ترك حزبي الانجيليين السلطة تباعا، أحدهما في أغسطس 2015، والثاني في 16 مارس الماضي، ودونهما لا يستطيع الرئيس ميشيل تامر الحكم في فترة ولايته القادمة. نهاية حلم حزب الشعب جاء وصول لولا دي سيلفيا إلى سدة الحكم في البرازيل، بتوليه منصب رئيس الجمهورية بعد عدة محاولات سابقة لخوض الانتخابات الرئيسية (1989-1994-1998)، ليحيي أمل الطبقات الشعبية، التي طالما ساندته، في مستوى حياة أفضل للمواطن البرازيلي الفقير. وبعد خوف الطبقات المسيطرة على الاقتصاد من وصول اليسار للحكم، نجحت سياسات لولا دي سيلفيا في إقناعهم بأنه يمكن له أن يساعد الطبقات الفقيرة دون أن يضر بمصالح الطبقات الغنية، فكما كان يحل ضيفا على التجمع في "بورتو أليجري" من أجل تحسين المستوى الاجتماعي للطبقات الفقيرة في العالم، كان يحل ضيفا كذلك على منتدى "دايفوس" حيث أكبر تجمع لأغنياء العالم. وقد أطلق لولا في عهده برنامج (الصفر جوع) والذي أعلن من خلاله حق كل برازيلي في الحصول على ثلاث وجبات يوميا، وكانت سياسة (منحة العائلة) هي سلاحه لمواجهة الفقر، ومساعدة الفقراء في الصعود من قاع المجتمع، حيث منحت المساعدات لربات الأسرة من السيدات وتم ربط ذلك بانتظام أولادهم في الدراسة وعدم تسربهم من التعليم. وقد نجحت برامج لولا الاجتماعية في خفض من هم تحت خط الفقر الوطني من 24.9% من مجمل السكان في عام 2003 إلى 9.0% في عام 2012، وذلك وفقا لبيانات البنك الدولي. هذا بالإضافة لانخفاض معدلات الأمية ووفيات الأطفال، واقتراب التشغيل من المستوى الكامل، ورفع الحد الأدنى للأجور، كما تم التوسع في منح القروض للأسر، ووجد الأقليات من السود، وذوي الأصول الهندية، وأبناء الطبقات الفقيرة أماكن لهم في الجامعات، بفضل المنح الدراسية، وسياسات الحصص في القبول بالجامعات، كذلك تم تخفيض الضرائب على مواد البناء، مما مكن الكثيرين من الطبقات الفقيرة والقاطنين في عشش الصفيح، من بناء أسقف وحوائط اسمنتية. لكن حزب العمال الحاكم الذي لم يكن يريد أن يتسبب في رعب الطبقات المسيطرة، لم يقترب من الشركات الكبرى المتحكمة في الزراعة ولم يرغب في تطبيق سياسات إصلاح زراعي وتحديد ملكية، ومع توسع حجم الطبقات الوسطى زادت الواردات الاستهلاكية وزاد حجم الضغط على ميزان المدفوعات، وبالرغم من النجاح الاقتصادي المتحقق ألا أن ذلك شكل عقبة مع تراجع النشاط وانخفاض الطلب على المواد الأولية، أحد أهم الموارد للاقتصاد البرازيلي في ظل حكم الحزب. وكان أبناء الطبقات الفقيرة يتمتعون بنظام رعاية من قبل الدولة من أجل التعليم وبالذات الجامعي، حتى أن هناك جامعة تم أنشاءها من قبل الدولة من أجل تعليم الفقراء والسود، لكن المنحة التي كانت تمنح لهم لم تكن تسمح لهم بالسكن بالقرب من الجامعة، وكان معظمهم يقضي من أربع ساعات إلي ست ساعات في المواصلات، لذا عندما رفعت ديلما روسيف أسعار الموصلات العامة تظاهر ضدها جميع أبناء المدن بمن فيهم المؤيدين لحزب العمال. عندما تكون فقيرا داخل المدن وتفتح لك أبواب الأمل بالاندماج في مجتمع المدينة عبر الحصول على سكن وعمل وتعليم لأبنائك، تتحول في حقيقة الأمر إلى مواطن أكثر هشاشة في مواجهة الازمات الاقتصادية، أكثر مما سبق عندما كنت من المهمشين القاطنين في عشش الصفيح بلا عمل، لا تحتاج لموصلات للذهاب للعمل، ولا تحتاج لعمل دائم من أجل دفع نفقاتك الثابتة، لذا كان هناك الكثيرين ممن أيدوا حزب العمال البرازيلي، لم يخرجوا بالتأكيد في المظاهرات من أجل تنحية ديلما روسيف عن السلطة، ولكنهم أيضا لم يخرجوا في مظاهرات للدفاع عنها. فهي بالنسبة لهم رمز لحياة التقشف التي مست قوتهم اليومي، ورمزا للتراجع الاقتصادي، ورمز للفساد. لكن الفساد من الواضح أنه أمر يخص حزب العمال نفسه، بموقفه البرجماتي الرامي للاستمرار في السلطة بأي ثمن، وهذا وضح من فضيحة شراء أصوات النواب في الكونجرس البرازيلي في عام 2005، والتي ألقت الضوء على أن الحزب هو جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية العفنة في البرازيل، وبدلا من أن يستغل الحزب تلك الواقعة في إيضاح مدى الفساد الذي ضرب بجذوره داخل النظام السياسي البرازيلي، مر مرور الكرام عليها وظل النظام السياسي كما هو دون أي محاولات للتعديل أو التطوير، إلى أن أسقط هذا النظام السياسي ديلما روسيف والحزب وألقاهما خارج السلطة. وجاءت فضيحة شركة "بتروبراس" البترولية في 2014 لتؤكد أن يمين ويسار البرازيل ينهلان من نفس نبع الفساد. من جانب آخر ومع ارتفاع مستوى معيشة البرازيليين، تضررت الطبقات المتوسطة من المهنيين والتجار المتوسطين من مشاهدة ممن كانوا "ملح الأرض"، من عمال وعاملات المنازل يزاحمونهم في سلاسل المحلات التجارية، بل وحتى تمر بجانبهم سيارات يركبها شباب من السود، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك الطبقات من أشد الطبقات عنصرية في البرازيل. وجاءت القوانين الاقتصادية برفع الحد الأدنى للأجور لتزيد غضب تلك الطبقات التي كانت تشغل العاملات في المنازل وسائقي السيارات بأرخص الأسعار وبدون ساعات عمل محددة، فطالبوا بإلغاء سياسات المنح والمساعدات الحكومية، وكان سكان هذه الأحياء الراقية هم أول من خرج في المظاهرات ضاربين على أوعيتهم المنزلية ضد ديلما روسيف. وقد أجادت المعارضة اليمينية استغلال الأزمة الاقتصادية لتطيح بحزب العمال الذي تحول إلى حزب يضم فاسدين مثله مثل أحزاب اليمين التي عانى منها البرازيليين عبر العصور، وكان حزب العمال قد عمل على ارضاء الرأسمالية العالمية بتطبيق ما يسمى بـ "توافق واشنطن" ببنوده على أن يوزع منح على الفقراء، في اقتصاد اعتمد بشكل كبير على تصدير المواد الأولية، فجاءت الأزمة العالمية لينهار صرحه ويتهاوى، فهو لم يرض اليمين، في الوقت الذي أنفض الكثير من أفراد الشعب عنه، وكانت ديلما روسيف هي مجرد تجسيد لما وصل إليه الحزب من صلف وبعد عن الجماهير.


رابط دائم: