مُقدمة
تمثل التهديدات القادمة من الحدود الغربية لمصر عبر ليبيا واحدة من مصادر التهديد الآخذة في التصاعد للمصالح الوطنية المصرية لاسيما أن ليبيا تمر مثل باقي دول الربيع العربي بمرحلة "ما بعد الثورة" ، وهي المرحلة التي تشهد حالة من عدم الاستقرار والتغير العشوائي على الأصعدة السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية. ومع اقتراب دخول الثورة الليبية عامها الرابع منذ تمكن الثوار من إنهاء نظام القذافي، بدأت الأزمة السياسية في ليبيا تزداد تعقيداً على الصعيدين المحلي والإقليمي. فلم تتمكن السلطات التي تعاقبت على حكم ليبيا منذ انهيار نظام القذافي من وضع ليبيا على طريق الاستقرار السياسي، بل ظلت هناك مجموعة من المشكلات الجوهرية التي راحت تزداد تعقيداً مع مرور الوقت، حتى بدأت عواقبها في تشكيل تهديدات إقليمية لدول جوار ليبيا. وبالرغم من استمرار الوضع الداخلي في ليبيا على ما هو عليه، بل وازدياده سوءاً على الأصعدة المختلفة يوماً بعد يوم، إلا أن القلق المصري والإقليمي والدولي من الوضع في ليبيا بدأ يتزايد، خاصة في تأثير هذا الوضع على الدول المجاورة لها وعلى الوضع الإقليمي في شمال غرب إفريقيا بشكل عام. فمن ناحية هناك مشكلة أمن الحدود، والتي تشكل ضلعاً أساسياً في التهديدات الأمنية لدول الجوار، سواء تعلق الأمر بتهريب السلاح أو تسهيل دخول المخدرات أو المساعدة في الهجرة غير الشرعية والاتجار في البشر. ومن ناحية أخرى هناك تخوف من تحول ليبيا إلى بؤرة داعمة ومساندة للتهديدات الأمنية التي تواجه دول الجوار، كالتنظيمات الإرهابية الجديدة في دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة أنصار بيت المقدس في مصر، والتخوف العام من الربط الإقليمي بين هذه التنظيمات وبين تنظيم "داعش" في كل من سوريا والعراق، هذا بالطبع إضافة للمتمردين من الطوارق في كل من مالي والنيجر. وباتت الاشتباكات في الآونة الأخيرة بين الميليشيات الليبية تمثل تهديداً دولياً وإقليمياً جديداً، خاصة فيما يتعلق بالاعتماد على البترول الوارد من ليبيا، حيث دقت الاشتباكات الأخيرة ناقوس الخطر فيما يتعلق بقدرة ليبيا على الاستمرار في تصدير النفط. ومن ثم، بات من المتوقع أن يشهد الموقف في ليبيا تحركات على المستويين الإقليمي والدولي بهدف التعامل مع المتغيرات على أرض الواقع ومع تطور طبيعة التهديد الذي يشكله الصراع السياسي الحالي في ليبيا. الأزمة الليبية كتهديد إقليمي ودولي عندما بدأت الاشتباكات بين الثوار وقوات القذافي في مدينة بنغازي في فبراير 2011، لم يكن واضحاً إلى أين تتجه الأحداث في ليبيا. إذ كانت ليبيا من الداخل تحت قبضة معمر القذافي الذي كان قد تخطى الأربعون عاماً حاكما منفردا لليبيا، ولم تعرف ليبيا على مدي سنوات حكم القذافي التنظيم السياسي أو الحراك السياسي المؤسسي أو غير المؤسسي، كما لم تكن هناك نخبة سياسية فاعلة من المعارضين سوى تلك التي عُرفت آنذاك بمعارضة المهجر، وهي معارضة غير منظمة اتخذت من دول أوروبا معقلاً لها في أغلب الأحيان. وبالتالي، لم يكن من السهل تحديد ماهية "الثوار" في ليبيا، ولم يكن يجمعهم في ذلك الوقت سوى العداء لمعمر القذافي ونظامه. ولم يختلف الوضع كثيراً على المستوى الإقليمي خاصة فيما يتعلق بمدى وضوح الرؤية المستقبلية للأوضاع في ليبيا. فمن ناحية، كانت كل من مصر وتونس، وهما من أكثر دول الجوار أهمية بالنسبة لليبيا، تمران بمرحلة تحول سياسي بعد ثورة 14 يناير في تونس، وثورة 25 يناير في مصر، ومن ناحية أخرى، كانت باقي دول الجوار كالجزائر والسودان مشغولة بالتعامل مع آثار التحول السياسي في مصر وتونس، والعواقب والانعكاسات التي قد يحملها هذا التحول على هذه الدول من الداخل. ولذا، لم تكن دول الجوار تتعامل مع الأحداث في ليبيا أو تنظر للأحداث هناك بذات النظرة التي تتبناها هذه الدول اليوم. وعلى مستوى المنظمات الإقليمية، لم تتعدى مواقف كل من جامعة الدول العربية أو الاتحاد الأفريقي مرحلة إصدار البيانات التي تشجب العنف المستخدم من قبل الدولة في التعامل مع التظاهرات، وتطالب الدولة في ليبيا بمحاولة التوصل لحلول سلمية تحتوي الغضب الشعبي الذي تعبر عنه هذه التظاهرات، وإن كان الاتحاد الأفريقي أكثر تحفظاً في بياناته التي تدين أو تشجب عنف الدولة في ليبيا نظراً للمصالح التي كانت تربط عدد كبير من القادة الأفارقة بمعمر القذافي . أما على المستوى الدولي، فكان المجتمع الدولي حريصاً على التواجد في الأزمة الليبية نظراً لما تمثله ليبيا من أهمية لمصالح بعض الدول الأوروبية على وجه الخصوص، ولما يمثله القذافي من تهديد نظراً لكونه حاكم لا يمكن الوثوق بتصرفاته. وكانت فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية هما أكثر الدول ضلوعاً في الأزمة الليبية من حيث المواقف الدبلوماسية أو التدخل العسكري بعد أن أجاز مجلس الأمن التدخل الدولي من خلال فرض الحظر الجوي على ليبيا والذي نظمة قرار مجاس الأمن رقم 1973. ولعل أحد فوائد هذا العرض السريع للمواقف الإقليمية والدولية في بدايات الثورة الليبية هو توضيح ليس فقط كيف تحولت مواقف الدول، وتحركاتها، وبواعث تلك التحركات، بل أيضاً توضيح كيف تحول الوضع الداخلي في ليبيا حتى بات يشكل تهديداً مختلفاً عن ذلك الذي كان موجوداً في بدايات الثورة. ففي الأعوام الأولي من الثورة كانت العلاقة الحدودية هي المكون الرئيسي للتهديد القادم من ليبيا بالنسبة لدول الجوار، وكانت التحركات التي تؤخذ، تؤخذ على هذا المستوى، فلم يكن من مصر وتونس خلال الفترة الأولي من الثورة سوى تشديد الرقابة على الحدود وربما تغيير السياسة الأمنية للمنافذ البرية بين ليبيا وكل من مصر وتونس. ولكن التطورات السياسية والعسكرية التي حدثت في ليبيا، والنمط الذي تطورت به طبيعة الاحتجاجات، وطبيعة الدولة التي تركها القذافي والتي لها علاقة وثيقة بانتشار الأسلحة بهذا الشكل في ليبيا، والتطور الإيديولوجي الذي انعكس على التنظيم السياسي والعسكري، كل هذه العوامل جعلت الأوضاع في ليبيا تشكل تهديداً إقليمياً مختلفًا. هذا بالطبع بالإضافة للتطورات السياسية في دول الجوار، والكيفية التي ساهمت بها هذه التطورات في خلق تهديدات جديدة أو تعميق التهديدات القديمة. فعلى سبيل المثال، أدت التطورات السياسية في مصر إلى دخول الدولة المصرية في حرب مع الإرهاب، والذي اتخذ شكل تنظيمات أشبه بالميليشيات، وهو ما قاد إلى ظهور بعد جديد في الأزمة الليبية وهو إمكانية استخدام الوضع الجيو-سياسي في ليبيا لإنتاج ميليشيات جهادية، أو تنظيمات سياسية أو عسكرية تتخذ من العنف منهجاً لها. ومن ثم، بات من المهم إدراك كيف تطور التهديد القادم من ليبيا قبل الشروع في فهم التحولات التي حدثت في المواقف الإقليمية والدولية، وقبل الشروع أيضاً في تقديم مقترحات أو تصورات للتحرك في ظل الواقع السياسي الحالي الموجود في ليبيا. التحركات الإقليمية أ-دول الجوار كما ذكرنا من قبل، لم تخل دول جوار ليبيا من التوترات السياسية على مدار الأعوام الثلاث الماضية، ولهذا كانت الأزمة الليبية ملفاً سياسياً وديبلوماسياً، ثم مع مرور الوقت وحدوث تطورات سياسية داخل ليبيا وفي دول الجوار، تحولت الأزمة الليبية إلى ملف أمني ضمن ملفات أخرى كثيرة. ومع تطور التهديد القادم من ليبيا في الفترة الأخيرة، بدأت دول الجوار تبحث إمكانية العمل الجماعي للتعامل مع الموقف في ليبيا. ولعل الباعث الرئيسي لهذا التحرك كان تطور حرب الميليشيات في ليبيا، وعدم تمكن عدد من الفصائل السياسية الليبية، فضلاً عن الكيان الشرعي للدولة، من التواجد في ظل النزاع العسكري القائم بين الميليشيات المتصارعة، وهو ما راح يهدد دول الجوار أكثر من ذي قبل. وظهرت بوادر هذا العمل الجماعي في الجزائر في مايو الماضي عندما بادرت الجزائر بعقد اجتماع لوزراء خارجية الدول المجاورة لليبيا على هامش الاجتماعات الوزارية لحركة عدم الانحياز، ثم جاء الاجتماع الثاني في غينيا في نهاية شهر يونيو الماضي على هامش أعمال القمة الأفريقية. وفي سياق التعامل مع الأوضاع غير المستقرة في ليبيا، والتي بدأت في تشكيل تهديدات إقليمية تتزامن مع سائر المشكلات السياسية والأمنية على الصعيد الإقليمي، عقدت دول جوار ليبيا الاجتماع الثالث لوزراء الخارجية في مدينة الحمامات في تونس حضره وزراء خارجية (أو ممثلين عنهم) كل من تونس، والجزائر، ومصر، والسودان، وتشاد، والنيجر، وممثلين عن جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي . وكالعادة، جاءت الدعوة لهذا الاجتماع لمواجهة الخطر الإقليمي الناجم عن عدم استقرار الأوضاع في ليبيا، ووقف عمليات العنف التي تهدد وحدة التراب الليبي وسلامة المواطنين. وكعادة الدول المجاورة لليبيا في السنوات الثلاث الماضية، لم تختلف النتيجة النهائية لهذا الاجتماع عن الاجتماعات المشابهة التي سبقته. وجاء البيان الختامي للاجتماع حافلا بالديباجة السياسية المعتادة، كالتأكيد على ضرورة احترام وحدة ليبيا وسيادتها وسلامتها الترابية، ووقف كافة العمليات العسكرية التي تقوم بها الميليشيات المختلفة، ودعوة كافة الأطراف السياسية في ليبيا إلى حل خلافاتها عبر الحوار وانتهاج مسار توافقي. كما نص البيان الختامي للاجتماع على ضرورة مساهمة دول جوار ليبيا في الاجتماعات والمؤتمرات التي تتناول الشأن الليبي، ودعم كافة الجهود الهادفة إلى توفير أفضل الظروف لعقد مؤتمر الحوار الوطني الليبي ومساندة المبادرات العربية والأفريقية المتعلقة بهذا الشأن. وبالرغم من البلاغة التي تميزت بها الحلول المطروحة في البيان الختامي للاجتماع، إلا أنها لم تتعد كونها عبارات غير فعالة لا تُترجم إلى مواقف سياسية مؤثرة، أو لحلول فعلية للمشكلات التي عُقد من أجلها الاجتماع في المقام الأول. ولم تكن الديباجة السياسية المعتادة هي النتيجة الوحيدة التي انتهى إليها هذا الاجتماع، ففي محاولة للتغيير، اتفق وزراء الخارجية المجتمعون على وضع خطة عملية للمساهمة في حل الأزمة الليبية. حيث تقرر تشكيل فريقي عمل برئاسة وزير الشئون الخارجية التونسي، أحدهما أمني على مستوى الخبراء الأمنيين تتولى الجزائر تنسيق أعماله، والثاني سياسي على مستوى كبار الموظفين وتتولى مصر تنسيق أعماله. والهدف من تشكيل فريقي العمل هذه المرة هو تمكين دول الجوار من التدخل بشكل فعلى، من خلال آليات الحوار، في الأزمة الليبية سعياً لإيجاد حل لها، أو سعياً للتعامل المباشر مع التهديدات الناجمة عن الأزمة السياسية في ليبيا. وفي نفس السياق التأمت منذ أيام قليلة الحلقة الرابعة في هذه السلسلة من التشاورات السياسية لدول جوار ليبيا، وذلك بعقد الاجتماع الرابع بالقاهرة. وجاء الاجتماع الرابع ببعض النتائج الواعدة كالمبادرة المصرية الجزائرية لحل الأزمة السياسية في ليبيا، ومخاطبة المجتمع الدولي للتنسيق بين التحركات الإقليمية والدولية من ناحية، وبين وحدة واستقلالية الأراضي الليبية ورفض التدخل الأجنبي فيها من ناحية أخرى. وقد جاء اجتماع القاهرة الأخير لدول جوار ليبيا بحقيقة جديدة عن التحرك الإقليمي فيما يخص الأزمة الليبية، وهي حرص دول الجوار على التحرك الجمعي والاتفاق على وجود مصلحة مشتركة لهذه الدول في التعامل مع الأزمة في ليبيا. فبالرغم من تنوع التهديدات القادمة من ليبيا لدول الجوار، باتت هناك مصلحة مشتركة في مواجهة التهديد الأمني الذي تعدى العلاقة الحدودية والمصالح الأحادية. وحدث ذلك مع تحول مواجهة التهديد الأمني القادم من ليبيا إلى مصلحة إقليمية مشتركة تحتاج إلى التنسيق بين دول الجوار والفاعلين المختلفون في القضية الليبية، سواء على المستوى الدولي أو في الداخل الليبي، وهو الشق الأهم في هذه المعادلة. فقد انتهى مؤتمر القاهرة إلى ضرورة الربط بين الداخل الليبي وبين التحركات الإقليمية التي يجب أن تكون بوابة عبور لأي تدخلات دولية فيما بعد. ب-المنظمات الإقليمية أما على مستوى المنظمات الإقليمية، فلا يوجد سوى منظمتان رئيسيتان من الممكن اعتبارهما من الفاعلين الرئيسين في الأزمة الليبية، وهما جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي. وعلى مدار السنوات الأربع الماضية منذ اندلاع الثورة ضد القذافي في مدينة بنغازي في فبراير 2011، كان لكل من الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي مواقف مختلفة إزاء الأحداث في ليبيا، وكان لكل منهما دوافع وبواعث مختلفة توضح طبيعة الموقف المُتخذ. فجامعة الدول العربية كان لها موقف واضح ضد تصرفات القذافي ونظامه، فكانت رافضة للعنف الشديد الذي تعامل به النظام الليبي مع التظاهرات، وكانت أيضاً داعمة لحق الشعب الليبي في الاحتجاج وفي التظاهر، ولعل البيان الصادر عن مجلس الجامعة في 22 فبراير 2011 خير دليل على هذا الموقف، فقد تضمن البيان القرارات التالية: 1- التنديد بالجرائم المرتكبة ضد التظاهرات والاحتجاجات الشعبية السلمية الجارية في العديد من المدن الليبية والعاصمة طرابلس، والتي تتناقل أخبارها وكالات الأنباء العربية والدولية. والتعبير عن استنكاره الشديد لأعمال العنف ضد المدنيين والتي لا يمكن قبولها أو تبريرها، وبصفة خاصة، تجنيد مرتزقة أجانب واستخدام الرصاص الحي والأسلحة الثقيلة وغيرها في مواجهة المتظاهرين، والتي تشكل انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. 2- الدعوة إلى الوقف الفوري لأعمال العنف بكافة أشكاله والاحتكام إلى الحوار الوطني، والاستجابة إلى المطالب المشروعة للشعب الليبي، واحترام حقه في حرية التظاهر والتعبير عن الرأي، وذلك حقناً للدماء وحفاظاً على وحدة الأراضي الليبية والسلم الأهلي، وبما يضمن سلامة وأمن المواطنين الليبيين. 3- مطالبة السلطات الليبية برفع الحظر المفروض على وسائل الإعلام وكذلك فتح وسائل الاتصالات وشبكات الهاتف، وتأمين وصول المساعدات والإغاثة الطبية العاجلة للجرحى والمصابين. 4- رفض الاتهامات الليبية الخطيرة حول مشاركة بعض رعايا الدول العربية المقيمين في ليبيا في أعمال العنف ضد الليبيين والدعوة إلى تشكيل لجنة عربية مستقلة لتقصي الحقائق حول هذه الاتهامات والأحداث الجارية في ليبيا، ومناشدة السلطات الليبية توفير الحماية اللازمة لكافة رعايا الدول العربية والأجانب المقيمين على أرض الجماهيرية وتسهيل الخروج الآمن لمن يرغب منهم في ذلك. 5- التأكيد على أن تحقيق تطلعات الشعوب العربية ومطالبها وآمالها في الحرية والإصلاح والتطوير والتغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية هو أمر مشروع وحق يجب احترامه وكفالة ممارسته بالأسلوب السلمي، وبما يحفظ الحريات الأساسية للمواطنين ووحدة الأوطان وسيادتها والسلم الأهلي والوفاق الوطني في الدول العربية. 6- دعوة الدول الأعضاء والدول الصديقة والمنظمات الدولية وهيئات المجتمع المدني العربية والدولية إلى تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة للشعب الليبي ومساندته في هذه الفترة الحرجة من تاريخه. 7- توجيه تحية إكبار وإجلال لشهداء التظاهرات والاحتجاجات الشعبية السلمية الليبية والتعبير عن أبلغ مشاعر الأسى والأسف لسقوط مئات الضحايا الأبرياء وآلاف الجرحى والمصابين، إضافة إلى ما وقع من خسائر فادحة في المنشآت والممتلكات الليبية العامة والخاصة. 8- وقف مشاركة وفود حكومة الجماهيرية العربية الليبية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة إلى حين إقدام السلطات الليبية على الاستجابة للمطالبات المذكورة أعلاه، وبما يضمن تحقيق أمن الشعب الليبي واستقراره. 9- رفع توصية إلى الاجتماع القادم يوم 2 مارس 2011 لمجلس الجامعة على المستوى الوزاري للنظر في مدى التزام الجماهيرية الليبية بأحكام ميثاق الجامعة العربية طبقاً للمواد المتعلقة بالعضوية والتزاماتها. وبعد ذلك بأيام قليلة، بادرت جامعة الدول العربية بالتقدم إلى مجلس الأمن الدولي بضرورة الإسراع إلى فرض منطقة حظر جوي على ليبيا، وبالرغم من الجدل الدائر حول موقف الجامعة العربية من تدخل المجتمع الدولي في ليبيا، وخاصة التدخل العسكري الذي قام به حلف الناتو، كان هناك توجهاً واضحاً داخل مجلس الجامعة ضد معمر القذافي ونظامه وما ارتكبه من أفعال استدعت التدخل الفوري لوقفها. ومنذ سقوط معمر القذافي، لم يختلف موقف جامعة الدول العربية إزاء ليبيا، فكانت الجامعة دائماً مساندة لكل السلطات الانتقالية التي توالت على حكم ليبيا، وداعمة لكل الكيانات الشرعية للدولة الليبية، ورافضة لكل أشكال العنف وكل دعوات التقسيم. وبالرغم من هذا الموقف الداعم للثورة الليبية منذ أيامها الأولى، لم تتعد مواقف جامعة الدول العربية حيز البيانات والتصريحات الدبلوماسية، فلم يكن للجامعة دور يذكر على المستوى العملي، كما لم يكن لها تواجد في الصراع الداخلي بين الفصائل السياسية المختلفة في ليبيا. وبشكل عام، فشلت جامعة الدول العربية على مدار السنوات الماضية في وضع القضية الليبية في المكانة التي تستحقها كقضية تهدد أمن الإقليم وتشكل خطراً على العالم العربي ككل، وتهدد سلامة آلاف المواطنين داخل ليبيا وفي الدول التي تجاورها. أما الاتحاد الأفريقي، فلم تتغير مواقفه تجاه الثورة الليبية منذ اندلاعها وحتى الآن، ولم يكن له دور يُذكر على المستوى العملي سواء في مرحلة ما قبل سقوط القذافي أو في المراحل المختلفة التي تلت سقوط القذافي وشهدت صراعات سياسية أو عسكرية بين الفاعلين المختلفين في الأزمة الليبية. ولكن مما لا شك فيه، أن الاتحاد الأفريقي كان أكثر نشاطا في المرحلة التي سبقت سقوط القذافي، وخاصة في بدايات الثورة وأثناء عمل المجتمع الدولي على تحديد شكل التدخل في ليبيا لوقف أعمال العنف والإبادة التي كان يمارسها معمر القذافي ونظامه ضد المدنيين في ليبيا. كان حجم الاهتمام الموجه لليبيا وما يحدث فيها من توتر كاشفاً عن أهميتها للاتحاد، وفاضحاً لأولويات أجندة الاتحاد غير الموضوعية في التعامل مع أحداث القارة، خاصة في ظل المقارنة بين الاهتمام بمصر وتونس والاهتمام بليبيا. فقد أصدر الاتحاد الأفريقي بياناً بشأن ليبيا أدان فيه أعمال العنف في البلاد بعد أسبوع من اندلاع الثورة، وبعد ما يقرب من شهر من بدء الأحداث (12 مارس 2011) اتخذ مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد موقفا برفض التدخل العسكري الدولي في ليبيا، وأعلن عن تشكيل لجنة من خمسة رؤساء أفارقة للتشاور مع جميع الأطراف في ليبيا بشأن الأزمة. وعقد الاتحاد قمة طارئة في أديس أبابا في 25 مارس 2011 نتج عنها خارطة طريق لحل الأزمة سياسياً، ثم جاءت القمة السابعة عشر في غينيا الاستوائية في يوليو 2011 لتبحث سبل الوصول لحل للأزمة في ليبيا. وبالرغم من كل هذا الاهتمام والنشاط الرامي لحل الأزمة، لم تتضمن بيانات الاتحاد الأفريقي بشأن ليبيا واجتماعاته حول ما يجري بها من أحداث أية إدانة لمعمر القذافي وما يرتكبه من جرائم بحق شعبه كان العالم أجمع شاهد عليها. فعلى سبيل المثال، وضع البيان الصادر عن القمة الاستثنائية بأديس ابابا في 25 مارس 2011 خمسة خطوات في سياق خارطة الطريق لحل الأزمة، شملت: حماية المدنيين ووقف الأعمال العدائية، وتوصيل المساعدات الإنسانية للسكان المضارين سواء كانوا ليبيين أو من العمالة الأجنبية وخاصة الأفريقية، وبدء حوار سياسي بين الأطراف في ليبيا للتوصل لتوافق حول سبل إنهاء الأزمة، والبدء في مرحلة انتقالية شاملة، وتطبيق إصلاحات سياسية لتلبية متطلبات الشعب الليبي. وبالنظر لبنود الحل السياسي الذي طرحه الاتحاد الأفريقي وتبناه ودافع عنه مراراً وتكراراً، نجد أنه شديد التحيز لمعمر القذافي وشديد الحرص على عدم إدانته؛ فالبند الأول من خارطة الطريق طالب بوقف الأعمال العدائية ولكنه لم يوجه مطالبته لجهة محددة، مما يعني أن الاتحاد الأفريقي ساوى في النهاية بين ما يفعله القذافي من عدوان وجرائم وما ينتهجه الثوار من عنف دفاعاً عن أنفسهم ورداً على التصعيد العنيف الذي بدأ به القذافي منذ اليوم الأول للثورة. بمعنى آخر، فقد ساوى الاتحاد بين القوة المنظمة التي تتحرك تحت لواء الدولة وبين تشكيلات الثوار الدفاعية (آنذاك) التي تبلورت كرد فعل لعنف الأجهزة الأمنية الليبية. ثم تطرقت الخارطة بعد ذلك لبدء حوار سياسي بين الأطراف المتنازعة في ليبيا، أي بين معمر القذافي والثوار، دون النظر لموقف معمر القذافي غير المعترف بمشروعية مطالب الثوار، بل غير المعترف بكون الثوار مواطنون ليبيون يتمتعون بحقوق، فالقذافي ظل حتى النفس الأخير ينظر للثورة على أنها مؤامرة على حكمه ومدبرة من قبل مجموعة من البلطجية والمدمنون و"الجرذان" على حد تعبيره. فإذا كان أحد الأطراف لا يعترف بوجود الطرف الآخر، فكيف يمكن إذًا إقامة حوار سياسي في إطار السعي لحل الأزمة؟ وكشفت الثورة الليبية بالتأكيد عن أكثر من خلل داخل آلية اتخاذ القرار في الاتحاد الأفريقي، حيث كان واضحا أن الاتحاد أكثر حرصاً على الحفاظ على معمر القذافي كحليف وممول للمنظمة من أداء الدور المناط بالاتحاد اداؤه كمنظمة سياسية إقليمية ملتزمة بمبادئ وبروتوكولات. بل ووضع الاتحاد الأفريقي كل هذه المبادئ في خدمة المصالح السياسية لقادة الاتحاد، وهو ما قلل من مصداقية الاتحاد كفاعل إقليمي في مرحلة ما بعد سقوط القذافي. وبالتالي، لم يكن للاتحاد الأفريقي دور يذكر في الأزمة الليبية منذ سقوط القذافي في أغسطس 2011. 4- التحركات على المستوى الدولي كان المجتمع الدولي حريصاً على التواجد في الأزمة الليبية منذ أيامها الأولى وإلى الآن، وبالرغم من الأشكال المختلفة التي اتخذها هذا التواجد سواء على مستوى الفاعلين (دول أو منظمات) أو على مستوى ماهية التدخل (عسكري أو سياسي)، كان ومازال هذا التواجد مدفوع دائما بمجموعة من المصالح السياسية، والاقتصادية، والأمنية التي طالما تحكمت في شكل التحرك الدولي فيما يخص ليبيا. في البداية كانت الردود الدولية على ما يجري في ليبيا خجولة ومترددة إلى حد كبير، وذلك على الأرجح خوفاً من تأزم العلاقة مع النظام الليبي إن استطاع إعادة السيطرة على الوضع، ولكن بعد ارتفاع عدد الضحايا والتعتيم الإعلامي من قبل السلطات الليبية أدانت (في 20/2/2011 م) بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة قمع السلطات الليبية للمحتجين المطالبين بالديمقراطية، وحثتها على بدء الحوار معهم وتنفيذ إصلاحات. في المقابل هددت ليبيا بوقف التعاون في مجال الهجرة غير الشرعية إذا شجعت أوروبا الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية. وبالرغم من تخوف الغرب من تأييد الثوار في ليبيا خوفاً من استمرار القذافي في الحكم، إلا أن المواقف الرسمية لأغلب الدول الفاعلة كانت ضد معمر القذافي من منطلق إنساني، وكانت مواقف دول مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة كلها تندد بالتعامل العنيف وغير الإنساني مع المتظاهرين، وتطالب القذافي بوقف العنف والعمل على حل سياسي يضع مطالب المحتجين من الشعب في الحسبان. ولكن سرعان ما بدأت التحولات على أرض الواقع تصبح ضد القذافي، وبدأت التنظيمات العسكرية المسلحة للثوار تتصدى لكتائب القذافي حتى أدرك الغرب أن مصالحه في ليبيا باتت مهددة بتصرفات القذافي، ولذا كانت الحملة الدولية المطالبة بالتدخل العسكري في ليبيا، والتي قادتها كل من فرنسا والولايات المتحدة بالإضافة للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو الذي قام بالتدخل العسكري من خلال تطبيق قرار الحظر الجوي وفقاً للقرار رقم 1973 الصادر عن مجلس الأمن. ومنذ انتهاء عملية “فجر أوديسا” في أغسطس 2011 بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 2016 بوقف منطقة الحظر الجوي فوق ليبيا ، لم يتدخل المجتمع الدولي عسكرياً في ليبيا، وظلت التساؤلات معلقة إلى الآن حول ما إذا كان انسحاب المجتمع الدولي من المشهد الليبي قرار في مصلحة الشعب الليبي أم ضدها. وفي الواقع، لا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة للمجتمع الدولي عن الوضع بالنسبة لدول الجوار، فالتهديد القادم من ليبيا قد تغير ليصبح مؤثراً على مصالح المجتمع الدولي بذات التأثير الذي أحدثه تغير هذا التهديد على دول الجوار والفاعلين الإقليميين. وتظل مصالح المجتمع الدولي في ليبيا ثابتة، وإن تغيرت بعض الشيء مع تغير مفهوم الإرهاب خاصة على المستوى اللوجستي، ولكن يظل تدفق النفط الليبي، والعمل على الحد من الهجرة غير الشرعية، ومحاربة الإرهاب، وبناء نظام سياسي في ليبيا يضمن للغرب مصالحه هي النقاط الأساسية التي تمثل مصالح المجتمع الدولي في ليبيا، والتي يسعى المجتمع الدولي لتأمينها على مستوى الدول أو المنظمات. ويبقى التدخل الدولي في ليبيا مرهوناً بحجم التهديد لهذه المصالح، ولهذا كانت التطورات الأخيرة في ليبيا والتي بدأت بالسجال العسكري بين ميليشيات مصراته وميليشيات الزنتان في طرابلس بعد فشل التنسيق السياسي بين التيار الإسلامي والتيار الوطني المدعوم بعدد من القبائل بمثابة ناقوس خطر للمجتمع الدولي الذي بدأ يشعر بتعاظم التهديد لمصالحه. ولهذا كانت التحركات الأخيرة التي تضمنت تعيين مبعوث للأمم المتحدة في ليبيا، وصدور قرارات جديدة من مجلس الأمن بشأن ليبيا، وأيضاً بدء التنسيق بين المجتمع الدولي والفاعلين الإقليميين والذي تجلى في بدء التحضير للمؤتمر الذي سوف يُعقد في إسبانيا بين دول جوار ليبيا ودول جنوب أوروبا في الشهر القادم. التحرك المصري في الأزمة الليبية بالرغم من اشتراك دول الجوار والمجتمع الدولي في مواجهة التهديدات القادمة من ليبيا، تواجه مصر عدد أكبر من التهديدات بسبب استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي في ليبيا. فهناك أزمة الميليشيات التي عجزت كل السلطات التي تولت حكم ليبيا من التعامل معها، فإذا كان هناك اهتمام عالمي بما يحدث في الجزء الغربي من ليبيا نظرا لقرب هذا الجزء من أوروبا، وهو الاهتمام الذي بدا واضحا بعد سيطرة الميليشيات على مطار طرابلس، وهو الحادث الذي رأته الدول الأوروبية كإنذار صريح بضرورة السيطرة على الوضع الأمني المنفلت في ليبيا والذي بات يقترب من أوروبا ومن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وبنفس المنطق، فإن ما يحدث في الجزء الشرقي من ليبيا يشكل تهديداً استراتيجيا لا يمكن السكوت عليه، ولعل الحادث المؤسف في الفرافرة كان بمثابة ناقوس خطر لا يمكن تجاهله. وهذه ليست دعوة للتقليل من أهمية وحدة التراب الليبي أو الاهتمام بالجزء الشرقي من ليبيا دون النظر للتهديدات التي تواجه ليبيا ككل، ولكن الواقع السياسي والاستراتيجي يحتم على مصر التعامل مع الخلل الأمني والسياسي في الشرق الليبي بشكل مستقل. فيجب أن يكون هناك حوار مع الأطراف الفاعلة في المنطقة الشرقية من ليبيا، سواء كانت هذه الأطراف ميليشيات عسكرية، أو تنظيمات وكيانات سياسية، فالدولة الليبية نفسها هي أول المتحاورين مع الميليشيات نظراً لاستحالة إغفال دورهم في تحديد الواقع السياسي الليبي. وبالتالي يجب أن تدرك مصر أنها أمام ملفان في الأزمة الليبية، ملف التهديدات الإقليمية والتي تشترك مصر مع سائر دول الجوار في التعامل معه، وملف المنطقة الشرقية في ليبيا، والتي بات الخلل الأمني فيها يشكل خطراً داهماً على مصر.
رابط دائم: