العراق: جدل الفتاوى يشعل الأزمة !
2014-6-22

كرم سعيد
* باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

لم يكن فرار القوات الأمنية والعسكرية العراقية، وانسحابها في الموصل ونينوي وصلاح الدين وديالي وغيرها من مناطق شمال العراق وحدها التي زادت من ضبابية المشهد العراقي، إذ دخلت الفتاوى السياسية على خط الأزمة التي تعيشها البلاد منذ رحيل صدام حسين، وتصاعد الانقسام المذهبي الحاد. وجاء تصاعد نفوذ "داعش" التي باتت تشكل شوكة في خاصرة العراق، في سياق تغيير التوازنات الإقليمية وسيولة السلطة المركزية في عدد من دول المنطقة بفعل ضغوطات الربيع العربي من جهة، والصراع السوري من جهة أخرى. داعش وجدل الداخل العراقي جاء توقيت سقوط الموصل وتصاعد نجم داعش في لحظة حرجة للمالكي الذي كان يريد تعضيد ولايته الثالثة فضلا عن كونها تتزامن مع تراجع زخم المرجعية الشيعية الذي كشفته مناخات التصويت لمصلحة المالكي وبالمخالفة لدعاوى وتوجهات المرجعية. بالإضافة لما سبق فإن نجاحات تنظيم داعش تتزامن مع حالة التوتر بين القوى السنية والكردية من جهة وتيار المالكي الذي أدخل البلاد في نفق مظلم بعد تهميشه القوى السَّنية ومماطلته في تنفيذ وعود الإصلاح بالمناطق الكردية، وهو الأمر الذي ساهم في تأجيج الاحتقانات المذهبية التي ربما عزفت داعش على أوتارها بنجاح. وسط هذه البيئة المشوهة والمعقدة، كان طبيعيا أن تلجأ القوى السياسية إلى إعادة التوظيف السياسي للفتوى تبعا لحالة الانقسام الإيديولوجي والسياسي، لتتحول إلى هوس في العراق، فما أن تصدر فتوى بضرورة مقاومة داعش إلا وتلاحقها أخرى مضادة لها، تحت ضغط الاعتبارات السياسية في تناقض يكشف عمق الأزمة التي يعانيها العراق. انتصارات داعش وسيل الفتاوى السياسية مع نجاحات حققتها داعش في السيطرة على شمال العراق وانسحاب الجنود وعناصر الشرطة من مواقعها بشكل دراماتيكي، تحولت الفتاوى السياسية المتعارضة والمتقاطعة إلى سيل لا ينقطع، فما بين فتاوى شيعية داعمة لحمل السلاح والدفاع عن الوطن في مواجهة المسلحين المتشددين، وكان بارزاً، هنا، فتوى الشيخ عبد المهدي الكربلائي ممثل آية الله العظمي على السيستاني أعلى مرجعية شيعية في العراق، والتي دعا فيها العراقيين إلى حمل السلاح للدفاع عن وطنهم ومقاتلة الإرهابيين، باعتبار ذلك من موجبات فقه "الجهاد الكفائي". في سياق متصل اعتبر مفتى صور وجبل لبنان الشيخ حسن عبدالله، أن ظاهرة الدولة العنصرية الداعشية التي تحكم بظواهر الدين الإسلامي، طعنة لرسالة الإسلام السمحة، وأكد أن أعمالها تصب في خانة عنصرية الدولة اليهودية. واستجابة لهذه الفتاوى توافد الآلاف العراقيين على مراكز التطوع التي فتحتها الحكومة العراقية في العاصمة بغداد؛ من أجل تجنيد مدنيين لقتال داعش. على الضفة الأخرى من النهر جرى تطويع النصوص والأحكام الدينية من قبل مرجعيات سنية لتبرير سلوك تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" إزاء السلطة العراقية، حيث اعتبرت هيئة علماء المسلمين في العراق مسلحي داعش "ثوار وأبطال". وقالت الهيئة في بيان لها “إن الهدف المعلن من قبل الثوار هو الوصول إلى بغداد، وهذا من حقهم، لأن النظام الحاكم في بغداد هو مصدر الظلم والإجرام بحق الشعب". ولم يكن بيان علماء العراق قاصرا على هذا فحسب، فأكد على أن "نصر الثوار سيغيظ أصحاب المشاريع التي أضرّت بالعراق على مدى السنوات الماضية، والذين سيجتمعون على الكيد لهم وبشتى الوسائل، وتواطؤ العديد من وسائل الإعلام منذ اللحظة الأولى للثورة يهدف إلى شيطنة الثورة وتشويه صورتها"، داعيًا المقاتلين إلى كسب الحاضنة الشعبية، والتأكيد لأبناء الشعب أن الثورة قامت من أجلهم ورفع الظلم عنهم، "كخطوة أساسية لتحقيق مكاسب الثورة. والأرجح أن هذه الفتوى لاقت صدى إيجابي لدى عراقيين كثيرين، فسكان الموصل الذين تركوا المدينة بعد سقوطها قالوا على لسان البعض لـ "بي بي سي" البريطانية و "سي إن إن" الأمريكية، إنهم لم يهربوا خوفا من داعش بل خوفا من قصف طيران المالكي. من جهته حمل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الشيخ القرضاوي، حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المسؤولية عما وصل إليه العراق، وندد بالفتاوى الطائفية، التي تدعو إلى قتال العراقيين بعضهم لبعض. واعتبر القرضاوي أنه لا يمكن أن يفسر ما حدث للعراق أنه من فعل فصيل إسلامي معين أبدا، بل هو ثورة عارمة للسنة في جميع محافظاتها. وأضاف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في بيانه " أن هذه الثورة ليست ضد الشيعة أبدًا، وإنما هي لأجل استرداد حقوقهم المشروعة، وأكبر دليل على ذلك أنه لم يقتل شيعيا مدنيا واحدا، ولم تهاجم المناطق الشيعية". بدورها طالبت كتل سنية عراقية بتوضيح مفهوم "الجهاد الكفائي"، واعتبرت أن الدعوة التي أطلقتها المرجعية الشيعية ضد الإرهاب هي جهاد واضح وصريح ضد أبناء السنة. فتاوى على الحياد وسط ضجيج الفتاوى والفتاوى المضادة التي زادت من سخونة السوق العراقية المعقدة والمتشابكة بطبيعتها، صدرت فتاوى أخرى في المنطقة الرمادية، فمثلا وصف الشيخ رافع الرفاعي مفتي الديار العراقية ما يجري في العراق بعملية "تحرير الشعب العراقي، خصوصا السنة، ورفع الظلم الذي لحق بهم من جيش المالكي" إلا أن الرافعي رفض الاعتراف بتنظيم داعش ووصفه بالإرهابي. وعلى نفس المنوال اعتبر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر ما يجري على الساحة العراقية هو حرب طائفية. ولم يكن الصدر وحده في هذا الاتجاه، إذ أكد العلامة اللبناني السيد على الأمين أن إصدار الفتاوى بالتعبئة العسكرية يساهم في تأجيج النزاعات، ويلقي عليها الصبغة الطائفية والمذهبية، وأضاف أن "دور المرجعية الدينية يحتّم عليها الدعوة إلى وقف سفك الدماء، والعمل على جمع كلمة المسلمين وإبعاد الفتن عنهم، والدعوة إلى الإصلاح بعيداً عن العنف والسلاح". الانتخابات وسلاح الفتاوى لم يكن انخراط العراقيين في العمل السياسي المباشر في أجواء أكثر انفتاحا إذا ما قورنت بالعهد الصدامي كافيا لكبح جماح الفتاوى السياسية التي أطلت من وراء ستار في الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت في أبريل الماضي، وانتهت بحصد المالكي أكثرية برلمانية. وظهرت الفتاوى الانتخابية في العراق مع اتساع البون بين القوى الشيعية، فالعلاقة بين المالكي وأبناء عمومته الصدر والحكيم وصلت إلى الذروة، خصوصا بعد اتهام المالكي لهم بـقتل العراقيين وتشكيل محاكم شرعية والمشاركة في الفتنة الطائفية بينما اتهم الصدر المالكي باستجداء أمريكا والسعي لديها لدعمه للبقاء في السلطة لولاية ثالثة. ولم يكن انهيار التحالف الشيعي في الانتخابات البرلمانية الماضية هو الأول من نوعه، فهذا هو الثاني بعد أن تنافس "الإخوة في المذهب" كخصوم في انتخابات مجالس المحافظات في إبريل 2013، والتي انتهت بتصدر ائتلاف المالكي لنتائج الانتخابات المحلية. وإزاء حالة الاحتقان هذه تصاعدت الفتاوى الشيعية التي تدعو إلى عدم جواز التصويت لحزب الدعوة بقيادة المالكي، وشهدت بغداد قبيل الاستحقاق البرلماني الماضي لافتات تذكر بعدم التصويت للمالكي تلبية لنداء المرجعيات الشيعية التي أفتت بالتغيير". ومع رغبة المالكي في تفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحاته السياسية تم الدفع بمصممي الفتوى التي حرمت التصويت لمن يريد إجهاض العملية السياسية في العراق. العراق: حدود تأثير الفتوى الأرجح أن الفتاوى السياسية إزاء الصراع القائم في العراق قد تجد غايتها لعدة اعتبارات أولها تنامي النعرات المذهبية والطائفية التي باتت العنوان الأبرز في المشهد العراقي. وثانيهما تصاعد حالة الاستقطاب السيسي والمجتمعي، ودخول المناخ في العراق مرحلة الشحن، ووصول الوضع السياسي إلى ذروة التأزم، وكان بارزا هنا، انقسام المكون الشيعي على نفسه في الانتخابات البرلمانية الماضية ومن قبلها الانتخابات المحلية ناهيك عن خلاف سياسي لا تخطئه عين بين القوي السياسية المدنية الصاعدة في العراق والتيارات الدينية التي تمسك بمفاصل المشهد. وثانيهما خسارة حزب الدعوة بقيادة المالكي جانب كبير من صدقيته وقوته، فقد نالت معارك المالكي مع تيار الصدر والحكيم تارة ومع القوى السنية تارة أخرى من صورته الذهنية بل وضعته في كثير من الأحيان تحت ضغط القوى الشيعية والليبرالية الصاعدة. ويرتبط الاعتبار الرابع باستجابة قطاع واسع من العراقيين لهذه الفتاوى، وبدا ذلك فيتوافد مئات العراقيين على مراكز التطوع التي فتحتها الحكومة العراقية في العاصمة بغداد؛ من أجل تجنيد مدنيين لقتال تنظيم دولة العراق والشام "داعش". على الضفة الأخرى من النهر انضم لمقاتلي داعش فئات سنية أخرى من بينهم أعضاء سابقون من حزب البعث الذي كان صدام حسين يتزعمه وكذلك شخصيات من العشائر العراقية تشارك الاقلية السنية شعورها بالغضب مما ترى أنه ظلم لها من جانب حكومة رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي. في هذا السياق العام تجد هذه الفتاوى قيمتها، وقد يكون لها تأثيرها في ـاكيد المؤكد وهو أن الصراع في العراق طائفي. خلاصة القول اليوم العراق أمام مخاطر لا يمكن السكوت عنها، إذ أن تفاقمها قد يجر المنطقة برمتها إلى أزمات غير مسبوقة، ويفتح الباب واسعا أمام تنامي الحركات الراديكالية. إلى جانب ذلك فإن الفتاوى السياسية تشكل خطرا آخر لا حدود له، وما تصدره المرجعيات العراقية الشيعية والسَّنية، يشرع الأبواب أمام شبح الاقتتال الطائفي الذي يطل منذ سقوط صدام حسين على العراقيين. لذلك فان الفتاوى السياسية المغلفة بطابع ديني ربما تدفع البلاد في اتجاه أكثر ظلامية، فالعراق الذي يملك أكثر من ثمانين قناة فضائية لا تلتزم بمهنية ولا قانون ولا معايير، وإنما تعلى من نعرتها الطائفية يبدو معرضا لأكبر عملية تحرش سياسي في تاريخه الحديث من قوى طائفية لا تعرف قيمة البلد اذلي تعيشه ومن متشددين لا يعرفون عن الدين وتعاليمه إلا قشوره السطحية ناهيك عن طغمة نخب طفيلية لا تعبأ بالبلاد ومستقبلها. هكذا وجد التشابك الذي أحدثته النعرات الطائفية والتوجهات السياسية المذهبية التي تسود العراق منذ العام 2003 تربة خصبة لتنامي الفتاوى والفتاوى السياسية المضادة في العراق بعيداً عن المصالح العليا للبلاد. كما كشفت الفتاوى السياسية عن أن العراق عادة من جديد إلى نقطة الصفر، خصوصا أن الأطراف المذهبية السنية ربما تجد فيما حدث فرصة كبري لتصفية حساباتها مع التيار الشيعي الذي حرمها السلطة والنفوذ وحتى حقوقها المجتمعية والإنسانية طوال السنوات الإثنتي عشر الماضية.


رابط دائم: