اهتزت جنبات ميدان التحرير يوم 20 أبريل واهتزت معها ربوع مصر كلها بهتافات أكثر من مليون مصري منددين بحكم العسكر وما تسبب فيه من إراقة دماء، وبث فتن، وقمع حريات، وتلاعب بالقانون، وتهرب من المسئولية، وكذب بين على الشعب. جاء المشهد في الميدان مهيباً ليذكر شعب مصر بيناير 2011 عندما كان الشعب بطوائفه السياسية وغير السياسية على قلب رجل واحد ضد حكم حسني مبارك.
أتت مليونية 20 أبريل لتضع، أمام ضمير المواطنين، قبل أن تضع أمام الدولة عدد من القضايا التي لا يمكن إغفالها أو السكوت عنها لما تمثله من حجر أساس في إعادة بناء مصر خلال المرحلة المقبلة، وجاء على رأس هذه القضايا ترشح رموز ومسئولي النظام السابق، ولجنة إعداد الدستور، ونزاهة وشفافية الانتخابات الرئاسية، وإلغاء المحاكمات العسكرية، وإقالة الحكومة، وبالطبع أتى كل ذلك تحت مطلب أعم وأشمل وهو إنهاء حكم العسكر وتسليم السلطة وعودة الجيش إلى ثكناته دون تأجيل أو مماطلة. ولكن بعيداً عن الهتافات والشعارات المعلنة، جاءت مليونية 20 أبريل لتطرح على الساحة تساؤلات أكثر أهمية، ولا يقل تأثيراً على مستقبل مصر عن سائر القضايا المطروحة: هل فتحت مليونية 20 أبريل الباب لعودة التوافق بين التيارات الإسلامية والمدنية؟ هل لنا أن نتوقع فرز تحالف ثوري جديد يجمع التيارات الإسلامية مع التيارات الليبرالية واليسارية والقومية على أرضية مشتركة بعد مشهد الجمعة الماضية؟ ذهب البعض إلى أن إعادة فرز هذا التحالف يُعد من أهم مكتسبات 20 أبريل، ولكن الإجابة على هذا السؤال محكومة بعدد من العوامل التي يجب أن تؤخذ في الحسبان.
العامل الأول يتعلق بدوافع الطرفين الإسلامي والمدني في التوجه إلى الشارع؛ فالتيار الإسلامي توجه للشارع بعد الشعور بأن مكتسباته التي عمل من أجلها خلال الفترة الماضية منذ فبراير 2011 باتت مهددة. كما أن المكتسبات التي يتطلع لتحقيقيها هذا التيار باتت تواجه تهديدا مماثلا. فالتيار الإسلامي يتجه للشارع لسببين رئيسين، أولهما حسابات الانتخابات الرئاسية، وثانيهما الرد على أي محاولات من جانب الدولة لإقصاء أغلبيته في عملية صناعة القرار، سواء جاء هذا الإقصاء في صورة قوانين تصدرها الدولة دون المشاورة مع التيار الإسلامي، أو في صورة حوار سياسي تقيمه الدولة مع قوى سياسية لا تتضمن التيار الإسلامي. عند حدوث أي من الحالتين، تتوجه القوى الإسلامية للشارع أولاً لوضع المزيد من الضغوط على الدولة من خلال قدرة التيار الإسلامي التعبوية، وثانياً لإعادة ارتداء عباءة الثورة وسد الفجوة بين التيار الإسلامي والشارع بعد أن تم استيعاب هذا التيار بكل طوائفه في العملية السياسية المؤسسية التي تمت برعاية الدولة، بل واستخدامه كذريعة لشرعية المرحلة الانتقالية بعد كل خطأ يرتكبه المجلس العسكري. فعندما زاد الخلاف بين التيار الإسلامي والمجلس العسكري بعد التلويح بحل البرلمان، ورفض إقالة الحكومة، والتدخل في تشكيل لجنة الدستور، واستبعاد كل من خيرت الشاطر وحازم أبو إسماعيل، باتت مصالح التيار الإسلامي الحالية والمستقبلية مهددة، ولذا لجأ كعادته للشارع وللحشد الجماهيري. والحشد الجماهيري على أرضية من المصالح الشخصية التي تخص مكتسبات تيار واحد يختلف كثيراً عن الحشد الجماهيري لقضايا وطنية تخص عموم الشعب، فالتيار الإسلامي في النهاية يسعى لقرار من المجلس العسكري يرعى مصالحه ولا يهددها، يحافظ على البرلمان الحالي الذي أكد التيار الإسلامي كثيراً أن الشرعية له وليست للميدان، ويضمن عدم مساواة التيار الإسلامي ذو الأغلبية بسائر التيارات في لجنة الدستور.
بمعنـى آخر، فإن التيار الإسلامي غالبا ما يحشد جماهيره انتظاراً لاستجابة الدولة لمطالبه دون الطعن على شرعية الدولة والمرحلة الانتقالية وما تم فيها من إجراءات سياسية وإقرار قوانين معيبة صبت كلها في مصلحة التيار الإسلامي، وفي هذا الدافع ما يتنافى مع دوافع القوى المدنية التي توجهت للميدان في 20 أبريل.
أما القوى المدنية (خاصة غير المؤسسية منها)، فإن موقفها يتسم بدرجة أكبر من الثبات، ولم يشهد تغيرا مع تغير المصالح وتبدل هيكل الفرصة السياسية. كما أن طبيعة علاقة هذه القوى مع الدولة تختلف كثيراً عن علاقة التيار الإسلامي بالدولة، فالقوى المدنية لا تمارس الحشد الجماهيري بهدف إجبار الدولة على الاستجابة لمطالبها، فهذه المرحلة انتهت بعد أحداث مجلس الوزراء، حيث كان آخر اعتصام يهدف للضغط على الدولة لإصدار قرار سياسي بإقالة كمال الجنزوري. لكن منذ يناير 2012 فإن الحشد الجماهيري للقوى المدنية يتم على أرضية من القضايا الوطنية بهدف رفع الوعي والحفاظ على الزخم الثوري في الشارع، دون انتظار رد فعل من الدولة متمثلة في المجلس العسكري.
بمعنى آخر، فإن القوى المدنية تمارس الحشد الجماهيري على أساس رفض شرعية المجلس العسكري والمرحلة الانتقالية، وتنظر للحشد الجماهيري والتعبئة على أنهما غاية لرفع الوعي السياسي والحس الوطني واكتساب مؤيدين جدد للثورة، أما التيار الإسلامي فيتعامل مع الشارع كوسيلة ضغط على المجلس العسكري ليس أكثر. هذا التباين في الدوافع وراء التوجه للشارع يُعد أول العوامل التي تجعل من إعادة بناء التحالف بين القوى المدنية والإسلامية مهمة يصعب تحقيقها حتى بعد مليونية توجه فيها التياران لميدان التحرير. العامل الثاني يتعلق بالقيادة؛ فالتيار الإسلامي في النهاية تيار مؤسسي له قيادة محددة لديها آليات صناعة قرار، وهيكل تنظيمي كفيل باحتواء هذا القرار وتفعيله. وعلى الجانب الآخر، تنقسم التيارات المدنية إلى تنظيمات مؤسسية وغير مؤسسية، حيث تحظى التنظيمات المؤسسية منها (الأحزاب) بقيادات محددة ولكنها لا تمتلك القدرة التعبوية، في حين أن التنظيمات غير المؤسسية لا تعرف آليات اتخاذ القرار المؤسسي ولكنها تتمتع بقدرة تعبوية عالية.
القيادة المؤسسية في النهاية تكون أميل للتحالف مع الدولة والانخراط في الفرصة السياسية المـؤسسية، كما أنها أكثر قدرة على إقامة تحالفات سياسية مع قوى مؤسسية أخرى، ولذلك نرى أن إعادة بناء التحالف المدني-الإسلامي محكوم برؤية قيادات التيار الإسلامي للمكاسب التي يمكنه الحصول عليها كنتاج لهذا التحالف، والمصالح التي قد تتعرض للتهديد من جراء إعادة بناؤه. هذه الرؤية لا تتبناها التيارات المدنية غير المؤسسية التي ترى أن رؤية القيادات ليست بالضرورة هى الأصح، كما أنها تنظر للمناورات السياسية على تنطلي على الكثير من الانتهازية والتضحية بالمبادئ والقيم. بمعنى آخر، يشكل الاختلاف في طبيعة القيادة اختلافاً أكبر في رؤية العمل السياسي، فالتيار الإسلامي بات ينظر للعمل السياسي نظرة من أعلى لأسفل، في حين أن التيارات المدنية غير المؤسسية تنظر للعمل السياسي بنظرة من أسفل لأعلى، وفي الاختلاف بين النظرتين ما يكفي لإعاقة إعادة بناء التحالف بين التيارين. في النهاية، نرى أن التحالف الحقيقي الذي قد ينتج عن مليونية 20 أبريل هو تحالف إسلامي- إسلامي يتم بين قطبي التيار الإسلامي: الاخوان المسلمون والسلفيون؛ فنهج العمل السياسي وطبيعة العلاقة مع الدولة، وتوازن المصالح بين القطبين يصب في الخانة ذاتها، ولن يكون تحالف القوى الإسلامية مع التيارات المدنية أكثر من حلقة وصل بين التيار الإسلامي والشارع الذي فقده الإسلاميون بعد توافقهم مع المجلس العسكري وإعلاءهم للبرلمان على حساب الشارع.
رابط دائم: