أعلن الاتحاد الأوروبي في منتصف أكتوبر الجاري (2025) عن "ميثاق المتوسط"، الذي يتضمن الأطر العامة لتعاون الاتحاد مع دول جنوب المتوسط خلال الفترة المقبلة في ثلاثة مجالات رئيسية هي التنمية البشرية، والاقتصاد والاستدامة، والأمن والهجرة والجاهزية للأزمات، على أن يتم وضع خطط العمل التنفيذية له منتصف نوفمبر القادم من خلال مشاورات ثنائية مع دول المنطقة.
وخلال القمة بين مصر والاتحاد الأوروبي التي انعقدت منذ أيام، أعلنت مصر دعمها لهذا الميثاق الجديد لما يوفره من آفاق لتعزيز الشراكة مع الاتحاد في التصدي للتحديات المشتركة، وما سيترتب على ذلك من دعم الأمن والسلام في منطقة المتوسط.
ويناقش هذا المقال بشكل رئيسي أهمية ميثاق المتوسط من حيث ما يتيحه من فرص للتعاون بين مصر والاتحاد الأوروبي في تعزيز أمن المتوسط والتصدي لأهم التهديدات الأمنية في هذه المنطقة. إذ يمثل هذا الميثاق وما تضمنه من أولويات منعطفاً مهماً في علاقات الاتحاد الأوروبي ليس مع مصر فقط ولكن أيضاً مع دول شمال أفريقيا على وجه العموم.
فمن ناحية، عمل الاتحاد على مدار أشهر على عقد جلسات تشاورية متعددة في دول المنطقة ضمت ممثلي الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمؤسسات الاقتصادية والثقافية ومراكز الفكر والأبحاث من أجل الاستماع إلى أولويات المنطقة واحتياجاتها.
ومن ناحية ثانية، يسعى الاتحاد من خلال هذه الوثيقة إلى توجيه رسالة سياسية لدول المنطقة مفادها أنه قد تعلم من الإخفاقات التي لحقت بمبادراته السابقة في المتوسط والتي كانت مبنية على افتراضات مسبقة وتصورات أوروبية لأمن المنطقة أكثر منها تصورات "متوسطية"، حيث تكرر كثيراً خلال تلك الفترة حديث قيادات المنطقة عن أن الاتحاد لا يستمع لاحتياجات المنطقة ويسعى لفرض رؤيته عليها.
ومن ناحية ثالثة، رغم أن الميثاق معني بمنطقة المتوسط، إلا أنه يسعى لتوطيد التعاون بين الاتحاد ودول شمال أفريقيا ودول الخليج والشرق الأوسط، مع إمكانية توسيع الأطر التعاونية لتشمل تركيا وغرب البلقان ودول أفريقيا جنوب الصحراء، والاهتمام بهذه الدول ناتج عن حقيقة تنامي تأثيرها في مجمل القضايا الأمنية في المتوسط.
الميثاق وأمن المتوسط
تستجيب المجالات التي يتضمنها الميثاق الجديد بشكل مترابط للقضايا الأمنية التي تؤثر سلبياً على أمن المتوسط بشكل كبير، ويأتي على رأسها الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين، والأزمات الناتجة عن الصراعات المسلحة والكوارث الطبيعية بكل ما لها من آثار أمنية، فضلاً عن أمن الطاقة والأمن البيئي.
ففيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين، يتعرض الأمن الأوروبي منذ سنوات لتهديدات متنوعة بسبب موجات متتالية لتهريب المهاجرين تنطلق من المتوسط وتتداخل في حالات عدة مع شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود. فوفق بيانات المنظمة الدولية للهجرة، وصل بين عامي 2021 و2023 إلى أوروبا عبر البحر المتوسط 627,329 شخصاً، في حين فَقَد 10,155 شخصاً حياتهم أو فُقِدوا بشكل مأساوي أثناء محاولة الوصول للاتحاد خلال الفترة نفسها. وخلال عام 2023، وصل 208,909 مهاجراً إلى أوروبا عن طريق المتوسط، وفُقِد حوالي 3,812 شخصاً أثناء محاولة الوصول لأراضي الاتحاد. وخلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 2025، بلغ عدد من عبروا المتوسط لأوروبا بشكل غير شرعي حوالي 119,543 شخصاً في حين فَقَد 668 شخصاً حياتهم أثناء محاولة العبور.[1]
وفي هذا الصدد، يولي الميثاق الجديد اهتماماً بتطوير التعليم العالي والتعليم الفني، وبناء المهارات وتحسين فرص العمل، بما يتضمنه ذلك من تمكين الشباب والمجتمع المدني، ودعم السفر والسياحة بأنواعها المختلفة. كما يحوي الميثاق مبادرات ذات صلة بتعزيز استدامة اقتصادات المنطقة من خلال ربطها بالتقنيات الحديثة وتعزيز قدرتها على التجارة مع السوق الأوروبية والاهتمام بمسرعات الأعمال والشركات الناشئة بكل ما يحمله ذلك من فرص متعددة لخلق الوظائف على المستويين الوطني والأوروبي.
ومثل هذا التنوع في المبادرات من شأنه أن يخلق مسارات بديلة للهجرة الشرعية من جنوب المتوسط إلى داخل الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تحسينه مهارات وكفاءات من يرغبون في الهجرة من جنوب المتوسط إلى دول الاتحاد لأسباب اقتصادية واجتماعية.
كما يسعى الميثاق للعمل مع دول المنطقة من أجل تطوير مدخل شامل لإدارة قضية الهجرة لا يشمل فقط تفكيك شبكات تهريب المهاجرين، وتقديم الدعم لدول المنطقة من أجل خفض معدلات الهجرة غير الشرعية، وتعزيز التعاون في عمليات إعادة المهاجرين غير الشرعيين، لكن يتسع أيضاً ليشمل تشجيع المسارات الشرعية للهجرة.
ومن ناحية ثانية، يولي الميثاق اهتماماً ببناء قدرات دول المتوسط في مواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية بكل تأثيراتها السلبية على الأمن الإنساني والأمن الوطني لدول المنطقة، حيث تعرضت بعض دول المنطقة خلال العامين الماضيين لعديد من الزلازل والحرائق والسيول والتي كشفت عن غياب آلية إقليمية لمساعدة تلك الدول في الاستجابة لتلك الأزمات وتقليل تداعياتها السلبية. وفي هذا الصدد، يطرح الميثاق مبادرة تتعلق بتعزيز جاهزية دول المنطقة في التصدي للكوارث والأزمات، من المتصور أن تكون مُكمِّلة لمبادرات مماثلة موجودة في إطار الاتحاد من أجل المتوسط وفي إطار الاتحاد الأوروبي.
ومن ناحية أخرى، يتضمن الميثاق اهتماماً بأمن الطاقة والأمن البيئي والأمن الغذائي لدول المنطقة، ويطرح مبادرة الطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة (T-MED)، فضلاً عن مبادرة أخرى تتعلق بالشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الحديثة والنظيفة وتطبيقاتها في القطاع الزراعي سعياً لتحقيق الأمن الغذائي والتصدي للآثار السلبية الناتجة عن التغيرات المناخية المتطرفة، فضلاً عن التضخم في أسعار الحبوب الرئيسية، ومثل هذا التوجه يمثل استجابة لاهتمام دول جنوب المتوسط منذ الحرب الروسية –الأوكرانية بتوسيع استثماراتها الوطنية لتحقيق الأمن الغذائي وتقليل اعتمادها على استيراد الحبوب الرئيسية من الخارج.
التعاون الأمني مع مصر
قد تكون إحدى النتائج المهمة لأطر الشراكة المتعددة التي جمعت مصر والاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية، وآخرها اتفاق الشراكة الاستراتيجية، هو خلقها قنوات لتبادل وجهات النظر على نحو أحدث تقارباً بين التصورات الأوروبية والمصرية حول أولويات الأمن في المتوسط، كما أنها كشفت عن القدرات الخاصة بمصر في التعامل مع الطابع المعقد للقضايا الأمنية المؤثرة على أمن المتوسط والتي يواجه الاتحاد الأوروبي مشاكل عدة في إدارتها.
ففيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية، تنفذ مصر حالياً الرؤية الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية، والتي ترمي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف منها تفكيك شبكات تهريب المهاجرين، ورفع الوعي العام بقضية الهجرة غير الشرعية، ودعم التنمية كأساس لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وتوفير البدائل الإيجابية لفرص العمل ودعم مسارات الهجرة الشرعية، وحماية الفئات الأكثر عرضة لمخاطر الهجرة غير الشرعية، واستثمار التعاون الدولي لخدمة القضية وتعزيز التعاون الإقليمي.
وفي هذا الإطار، نجحت مصر من خلال تكثيف عمليات ضبط الحدود والتعاون الإقليمي والدولي في منع عمليات التهريب عبر السواحل المصرية على المتوسط، حيث لم تعد هناك أي قوارب تهريب تنطلق من السواحل المصرية باتجاه دول الاتحاد، وذلك فضلاً عن تعزيزها التعاون مع الشركاء الأوروبيين في دعم قدرات حرس الحدود عن طريق التعاون المثمر مع "فرونتكس" التي تنفذ عديداً من البرامج التعاونية والتدريبية التي تدمج مراقبة وتأمين الحدود البحرية بالتكنولوجيا الحديثة مثل الدرونز ونظم معالجة البيانات من أجل مكافحة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط.
وكذلك تتعاون مصر مع الاتحاد الأوروبي في بناء قدرات الشباب المصري ليتماشى مع احتياجات سوق العمل الأوروبي على نحو يسمح بتطوير مسارات شرعية للهجرة. وتعد هذه تجربة مهمة يمكن أن تتبادلها مصر مع عديد من دول شمال أفريقيا المشمولة بالميثاق الجديد في إطار مبادرة الميثاق المعنية بمكافحة الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط.
وبالنسبة لبناء القدرات في مجال الأزمات والكوارث، تمارس مصر منذ جائحة كورونا بشكل ملحوظ دوراً إغاثياً وإنسانياً لمساعدة الدول التي تمر بأزمات ناتجة عن الصراعات المسلحة أو عن الكوارث الطبيعية، ومن ذلك مثلاً تقديمها المساعدات الإغاثية للشعب الليبي براً وبحراً بعد تعرضه لإعصار وسيول في 2023 شملت أدوية ومستلزمات طبية وعربات إسعاف ومعدات هندسية وأطقم بحث وإنقاذ و90 طن من المواد الغذائية.[2] كما قدمت دعماً للمغرب بعد تعرضها لزلزال في العام نفسه تمثل في توفير خيم وأغطية وأدوات نظافة وأدوية و100 طن من المواد الغذائية.[3] وقدمت مصر أيضاً مساعدات لسوريا وتركيا بعد تعرضهما للزلزال في فبراير 2023 من خلال طائرات محملة بمساعدات طبية عاجلة، كما أرسلت فريقاً إغاثياً وطبياً مصرياً إلى سوريا.[4]
يضاف إلى ذلك الدعم المستمر الذي تقدمه مصر للشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ حرب 7 أكتوبر 2023، من خلال قوافل المساعدات التي تحمل أطناناً من الأغذية والمياه والأدوية وأجهزة طبية ووقود وسيارات إسعاف ومواد غذائية مخصصة للأطفال وملابس وغيرها. فضلاً عن تبني مصر عديداً من الإجراءات لتنظيم دخول الأطفال الفلسطينيين للحصول على الرعاية الطبية اللازمة في المستشفيات المصرية مع تقديم عدة تسهيلات بالنسبة للأطفال حديثي الولادة الذين يمرون بظروف صحية حرجة والذين لا يحملون أوراقاً ثبوتية.
بالإضافة إلى ذلك، تحرص مصر على الاستفادة من الأطر الأوروبية المعنية بالأزمات والكوارث ومنها الأطر الخاصة بالاتحاد من أجل المتوسط وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي والتي تسهم في رفع القدرات الخاصة بالاستجابة للأزمات والكوارث وتبادل الخبرات مع الدول الأعضاء فيها.
كل هذه الجهود تجعل مصر في وضعية متفردة لأن تكون مساهماً فعَّالاً في المبادرة التي يطرحها الميثاق الجديد والمتعلقة بتعزيز الجاهزية والمرونة في التصدي للأزمات في المتوسط، سواء من حيث إطلاق آليات تنسيق محدودة مع دول المتوسط في الاستجابة للأزمات، أو من حيث تبادل الخبرات وبناء القدرات والتدريب والاستفادة من أي برامج تدريبية ذات صلة بدمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الأعمال الإغاثية وإدارة تداعيات الأزمات والكوارث الطبيعية.
أما بالنسبة لأمن الطاقة والأمن الغذائي والبيئي، فقد حققت مصر من خلال تعاونها مع الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الماضية تقدماً في وضع أطر وطنية متعددة تهتم بالانتقال للاقتصاد الأخضر بكل ما يتضمنه ذلك من التوسع في الاعتماد على الطاقة المتجددة والنظيفة وتشجيع القطاع الخاص على التوسع في الابتكارات التكنولوجية النظيفة والتي يمكن تطبيقها في القطاع الزراعي على وجه التحديد خاصة فيما يتعلق بالتنبؤ بالآفات والتغيرات المناخية التي قد تضر بالمحاصيل الزراعية الاستراتيجية. إلى جانب ذلك، أبرمت مصر عديداً من الاتفاقيات مع الشركاء الدوليين من أجل التحول إلى مركز لإنتاج الطاقة الخضراء والهيدروجين الأخضر ليتم تصديرها عبر الحدود خلال السنوات المقبلة.
مثل هذا التفاعل بين مصر والاتحاد الأوروبي يمهد لفرص جيدة للتعاون في إطار الميثاق الجديد، لاسيما وأنه أصبح هناك وضوح في أولويات مصر المتعلقة بالانتقال للاقتصاد الأخضر، فضلاً عن أنه يفتح مساحات جيدة للقطاع الخاص للتوسع في تصدير المنتجات للسوق الأوروبية كلما التزم بالاعتبارات البيئية الخاصة بالاتحاد الأوروبي وبمعدلات الانبعاث الكربوني في مجمل عملياته وأنشطته الاقتصادية.
يمكن القول إن الميثاق الجديد يخلق كثيراً من مساحات التعاون الوثيق بين مصر والاتحاد الأوروبي في منطقة المتوسط لترتقي بالشراكة القائمة حالياً إلى مساحات أوسع تستند إلى المسئولية المشتركة وتقاسم الأعباء، كما أنه يؤسس لإنشاء منصة للتواصل البناء بين مصر وباقي دول جنوب المتوسط والاتحاد الأوروبي تسمح بتبادل وجهات النظر وتقريب التصورات حول فرص العمل الجماعي المحدود من أجل تعزيز الأمن في المتوسط.
[1] Global Data Institute Displacement Tracking Matrix (DTM), Migration Flow to Europe -Arrivals, IOM, 22 Oct 2025: https://2u.pw/4ZX52i