مصر والاتحاد الأوروبي: ميثاق البحر المتوسط يضع قواعد جديدة للشراكة
2025-10-22

د. أحمد قنديل
* رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

 

في لحظات التحول الكبرى من التاريخ، كثيراً ما تعيد الجغرافيا تشكيل السياسة، وتفرض خطوطها على خرائط القوة والمصلحة. هكذا يبدو المشهد اليوم في البحر المتوسط، الذي يعود مجدداً إلى قلب الحسابات الأوروبية من خلال ما أُعلن عنه مؤخراً باسم "ميثاق البحر المتوسط" Pact for the Mediterranean، وهو الإطار الجديد الذي تتبناه المفوضية الأوروبية لإعادة صياغة علاقاتها مع الدول الواقعة جنوب وشرق هذا البحر، وفي مقدمتها مصر.

ويعبر هذا الميثاق الجديد، الذي سيتم طرحه للاعتماد السياسي في نوفمبر 2025، بالتزامن مع الذكرى الثلاثين لعملية برشلونة، عن تحول سياسي أعمق في الرؤية الأوروبية للعالم العربي، وتحديداً في مرحلة ما بعد الحروب، والأزمات، والتحولات المناخية والجيوسياسية التي أعادت توزيع موازين النفوذ والقدرة عبر العالم.

من برشلونة إلى بروكسل.. تحولات في الرؤية

قبل ثلاثين عاماً، وفي عام 1995، أطلق الاتحاد الأوروبي عملية برشلونة التي بشرت حينها بشراكة أورومتوسطية كبرى، تجمع بين ضفتي البحر على أساس من القيم المشتركة، واحترام الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان.

وكانت هذه العملية وليدة مرحلة من التفاؤل الدولي، عقب انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، وقيام النظام الدولي الأحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، حيث ساد الاعتقاد بأن العالم يسير نحو "نهاية التاريخ" وفق أطروحات الليبرالية المنتصرة.

لكن السنوات التالية أثبتت أن البحر المتوسط لا يعيش على الوعود الطويلة. فالتوترات السياسية، واحتلال العراق، وفشل عملية السلام، ثم تفجر ثورات الربيع العربي وما أعقبها من فوضى واضطراب، غيرت وجه المنطقة، وأجبرت أوروبا على إعادة النظر في طموحاتها القديمة.

وهكذا بدأ التحول الأوروبي من "الشراكة المثالية" إلى "الواقعية السياسية"، ومن الحديث عن "القيم المشتركة" إلى البحث عن "المصالح المشتركة".

ميثاق المتوسط.. عودة إلى الواقعية

جاء "ميثاق البحر المتوسط" الجديد، الذي كشفت عنه المفوضية الأوروبية في 16 أكتوبر 2025، وسيتم تحويل المبادرات المقترحة فيه إلى خطة عمل تنفيذية في الربع الأول من عام 2026، انعكاساً لهذه الواقعية الأوروبية الصاعدة. إذ لم يعد الحديث عن تصدير الديمقراطية أو دعم التحولات السياسية هدفاً مركزياً للسياسة الأوروبية، كما كان في العقدين الماضيين، بل حل محل ذلك منطق المصالح المتبادلة والتعامل مع "العالم كما هو"، على حد تعبير رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، التي قالت مؤخراً أمام سفراء الاتحاد: "يجب على أوروبا أن تتعامل مع العالم كما هو، وأن تتخذ قراراتها ليس بدافع العاطفة أو الحنين إلى عالم مضى، بل من خلال حساب مدروس لما هو في مصلحتنا في العالم القائم اليوم".

بهذا المنطق، يعيد الاتحاد الأوروبي رسم مقاربته للجنوب. فالميثاق الجديد لا يسعى إلى تغيير الأنظمة أو فرض نماذج سياسية بعينها، بل يركز على تحقيق الاستقرار، وتأمين مصادر الطاقة، ومكافحة الهجرة غير النظامية، وتعزيز التجارة والاستثمار. إنه، باختصار، مشروع لإدارة المخاطر، لا لتغيير الواقع.

ركائز الميثاق الثلاث: الإنسان، والاقتصاد، والأمن

يقوم الميثاق الجديد على ثلاث ركائز مترابطة: الإنسان، والاقتصاد، والأمن، وهي في جوهرها رؤية سياسية شاملة لخلق فضاء متوسطي أكثر توازناً وعدلاً.

في ركيزة "الإنسان"، يحاول الاتحاد الأوروبي أن يستعيد روح المتوسط القديمة، حيث التبادل الثقافي كان لغة مشتركة قبل أن تفرقها الحدود والسياسات. وتتركز المبادرات الجديدة، في هذا الإطار، على دعم الشباب والتعليم والبحث العلمي، وبناء شبكات تواصل بين الأجيال الجديدة شمالاً وجنوباً، في محاولة لإعادة نسج خيوط الثقة التي انقطعت بفعل الصراعات والهجرة والريبة المتبادلة. كما سيتم إطلاق جامعة البحر الأبيض المتوسط كمشروع رائد يربط الطلاب من مختلف دول البحر المتوسط، وتوسيع برامج التعليم الفني والتدريب المهني، بالإضافة إلى دعم التراث الثقافي والفنانين، وتعزيز السياحة المستدامة.

أما المحور الاقتصادي، فهو الأعمق أثراً. ويتضمن تحديث العلاقات التجارية والاستثمارية، وتعزيز مشروعات الطاقة النظيفة، ومرونة المياه، والاقتصاد الأزرق والزراعة، والربط الرقمي والنقل. كما سيتم إطلاق مبادرة T-MED للطاقة المتجددة والتكنولوجيات النظيفة ومبادرة StartUp4Med لدعم الابتكار وريادة الأعمال، فضلاً عن تعزيز سلاسل التوريد في مجالات الصحة والزراعة والموارد الحيوية.

وهذه المرة لا يتحدث الأوروبيون عن "مساعدات" بل عن تنمية خضراء مشتركة. يريدون مصر شريكاً في التحول الأخضر، لا مجرد متلقٍ للتمويل. وفي المقابل، ترى القاهرة في أوروبا سوقاً وتكنولوجيا وفرصة للتكامل الصناعي. وهنا، ينبغي الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي يربط ميثاقه الجديد بسياسات الكربون الجديدة، ويعي أن نجاحه يتطلب دعم دول الجنوب للتحول إلى صناعات صديقة للبيئة. وهكذا، يجد الطرفان نفسيهما أمام معادلة مصالح متبادلة: أوروبا بحاجة إلى الطاقة النظيفة القادمة من الجنوب، ومصر بحاجة إلى استثمارات وتكنولوجيا تمكنها من قيادة هذا التحول في الإقليم.

الركيزة الثالثة هي الأمن، لكن ليس بمعناه العسكري فقط. ففي الميثاق الجديد، يتحدث الأوروبيون عن الأمن الإنساني: الأمن الغذائي والمائي والمناخي، بوصفها مفاتيح الاستقرار الحقيقي. وسيتم إنشاء منتدى إقليمي يجمع الاتحاد الأوروبي ودول جنوب البحر المتوسط لمناقشة قضايا الأمن والسلام، مع التركيز على مكافحة تهريب المهاجرين وتعزيز إدارة الحدود. وفي هذا السياق، يبدو أن الأوروبيين قد تعلموا، عبر أزمات متتالية، أن الهجرة لا تحل بالحد من الهجرة غير النظامية وإقامة الأسوار حول حدودهم، بل بالتنمية، خاصة مع وجود إدراك مشترك بأن أمن أوروبا يبدأ من استقرار جوارها الجنوبي، وأن التعامل مع قضايا النزوح غير النظامي يتطلب معالجة جذرية للأسباب الاقتصادية والبيئية، وليس فقط حلولاً أمنية.

جنوب المتوسط ليس واحداً

من ناحية أخرى، يتبنى الميثاق الجديد مقاربة عملية مختلفة عن تلك التي ميزت عملية برشلونة وسياسة الجوار الأوروبية. فبدلاً من وضع كل دول الجنوب في إطار واحد، يقوم المشروع على مقاربات ثنائية. أي اتفاقات ثنائية خاصة بكل دولة على حدة، تتناسب مع ظروفها ومصالحها وأولوياتها.

وقد ظهر ذلك بوضوح في ما أطلق عليه "الشراكات الاستراتيجية" التي بدأ الاتحاد الأوروبي توقيعها مؤخراً مع مصر وتونس والأردن، والتي تمثل، على الأرجح، نماذج مبكرة لما سيكون عليه ميثاق المتوسط في صورته الكاملة.

أما على المستوى الهيكلي، فإن الميثاق يفصل بين دول جنوب المتوسط ودول شرق أوروبا وجنوب القوقاز التي كانت مجتمعة سابقاً تحت مظلة سياسة الجوار الأوروبية. وربما يكون الهدف من هذا الفصل هو التعامل مع كل منطقة وفق أولوياتها المختلفة: فشرق أوروبا هو فضاء للتنافس الجيوسياسي مع روسيا، بينما جنوب المتوسط هو مجال لتأمين حدود الاتحاد ومصادر طاقته وممراته التجارية.

تحولات أوروبا والعالم

لا يمكن فهم "ميثاق البحر المتوسط" الجديد خارج السياق الدولي الأوسع. فالعالم يشهد اليوم تراجعاً نسبياً للهيمنة الغربية في ظل صعود قوى جديدة كالصين وروسيا والهند، وتحول مراكز الثقل الاقتصادي نحو آسيا والجنوب العالمي. وفي هذا السياق، لم تعد أوروبا – ولا حتى الولايات المتحدة – قادرة على التحكم في مخرجات السياسة الدولية أو على فرض رؤاها عبر المؤسسات متعددة الأطراف.

يضاف إلى ذلك الانقسام المتزايد داخل الكتلة الغربية نفسها، سواء حول قضايا التجارة والبيئة، أو حول طبيعة العلاقة مع الصين وروسيا، أو حتى حول مفهوم السيادة الأوروبية ذاته.

وقد فاقمت الحرب الروسية – الأوكرانية من هذه الانقسامات، إذ أعادت عسكرة السياسة الأوروبية، ودفعت دول الاتحاد إلى البحث المحموم عن بدائل للطاقة الروسية، وهو ما جعل جنوب المتوسط، وفي مقدمته مصر، يعود إلى صدارة الاهتمام الأوروبي كمصدر محتمل للطاقة الآمنة والمستدامة.

وإلى جانب ذلك، تواجه أوروبا تحديات داخلية متزايدة، مثل تصاعد اليمين الشعبوي، وتراجع ثقة المواطنين في الاتحاد الأوروبي، وخروج بريطانيا من عضويته، فضلاً عن الإرهاق الاقتصادي الناتج عن جائحة كورونا والحرب الروسية الاوكرانية المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات.

كل ذلك جعل من الواقعية والبراجماتية خياراً سياسياً اضطرارياً بالنسبة لصناع القرار الأوروبي في بروكسل، وليس مجرد توجه فكري.

مصر في قلب الميثاق

تحتل مصر موقع القلب في "ميثاق البحر المتوسط" الجديد، ليس فقط لمكانتها الجغرافية التي تربط بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، ولكن لأنها تمثل نموذجاً للاستقرار في منطقة تعصف بها الاضطرابات. وتقدر بروكسل أن الشراكة مع القاهرة هي مفتاح الأمن الإقليمي في مجالات الطاقة والهجرة ومكافحة الإرهاب.

ومن هنا، جاء التركيز الأوروبي على دعم مصر في مشروعات التحول الأخضر، والطاقة المتجددة، وتعزيز الصناعات منخفضة الكربون بما يتوافق مع التشريعات الأوروبية الجديدة، خاصة وأن هذا من شأنه أيضاً المساهمة في نجاح الاتحاد الأوروبي في تحقيق أهداف المناخ والطاقة النظيفة.

وفي المقابل، ترى القاهرة في الميثاق الجديد فرصة لتوسيع مجالات التعاون الاقتصادي والتقني، وجذب الاستثمارات الأوروبية في قطاعات الطاقة النظيفة، والبنية التحتية، والتكنولوجيا، والزراعة الذكية.

من قيم برشلونة إلى حسابات بروكسل

إذا كان إعلان برشلونة عام 1995 قد قام على "قيم" السلام والازدهار المشترك، فإن "ميثاق البحر المتوسط" لعام 2025 يقوم على حسابات "المصلحة" و"الاستقرار". فقد تراجعت اللغة المثالية لصالح واقعية ترى أن الشعوب لا تغيرها المشروطية السياسية، بل المصالح المادية والسياسية المشتركة.

ومن جهة ثانية، أثبتت التجربة أن مسار برشلونة فشل في تحقيق أهدافه الكبرى. فلم يتحقق السلام بين العرب وإسرائيل، ولم تبن منطقة ازدهار مشترك. بل إن العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة ولبنان وسوريا والعراق جعل من فكرة "حل الدولتين" نفسها مهددة بالزوال.

ولذلك، لم يعد من الممكن للاتحاد الأوروبي أن يستمر في خطاب مثالي يتجاهل الواقع.

الميثاق الجديد هو إعلان واقعي بنهاية مرحلة وبداية أخرى؛ مرحلة تقوم على مبدأ "إدارة المخاطر" بدلاً من "تصدير القيم"، وعلى السعي إلى بناء شراكات اقتصادية وأمنية محددة بدلاً من الطموحات السياسية الواسعة.

من المتوسط الجغرافي إلى المتوسط الاستراتيجي

على أية حال، يمكن القول إن "ميثاق البحر المتوسط"  ليس مجرد وثيقة جديدة من وثائق الاتحاد الأوروبي، بل هو خريطة سياسية لمرحلة قادمة تعترف بأن العالم تغير، وأن القوة لم تعد حكراً على الغرب، وأن المصالح المشتركة هي التي تصنع التحالفات لا الشعارات "الزائفة".

وفي قلب هذه التحولات، تبقى مصر، بثقلها الحضاري والسياسي، شريكاً لا غنى عنه بالنسبة للأوروبيين في معادلة البحر المتوسط الجديد. فهي التي تربط الشرق بالغرب، والجنوب بالشمال، وتملك من الرصيد التاريخي والقدرة الاستراتيجية ما يجعلها لاعباً فاعلاً في إعادة تعريف "هوية" البحر المتوسط، وما إذا كان بحراً للفصل بين القارات أم جسراً للتعاون بينها.

"ميثاق البحر المتوسط"، الذي أصدرته المفوضية الأوروبية مؤخراً، يقدم إجابته الخاصة، ومصر بدورها تملك أن تجعل هذه الإجابة واقعاً، حين توازن بين ضرورات الاستقرار ومتطلبات التنمية، وبين منطق المصالح وموقعها الطبيعي كقوة إقليمية محورية. ولكي يكون ذلك واقعاً، يجب أن تتعامل القاهرة مع هذا الميثاق بحكمة ورؤية واضحة، من خلال تحديد أولوياتها، وتعزيز قدراتها التنفيذية، خاصة في المجالات الحيوية، مثل الطاقة والمياة والغذاء ومواجهة تغير المناخ والتجارة الدولية.


رابط دائم: