تشير خبرة الخلافات التاريخية الممتدة والثورات الشعبية المفاجئة والصراعات الداخلية المسلحة والأزمات السياسية المستعصية والقضايا الاقتصادية والمجتمعية الضاغطة في الشرق الأوسط إلى غياب رأس المال السياسي Political Capital، العاكس لفجوة الثقة Trust Gap بين الأطراف الداخلية وبعضها أو بين الأطراف المحلية والقوى الإقليمية أو بين العناصر المحلية من جانب والقوى الدولية من جانب آخر، بحيث تبلورت التباينات بين الطرفين شيئاً فشيئاً، إلى أن تصل إلى حد التناقض، مما يؤدي إلى ظهور الأزمات وتصاعد التوترات وتجدد الاحتقانات.
ومن ثم، فإن التفاعلات المتأزمة في ظل حالة السيولة السياسية بالإقليم لا يمكن فهمها إلا في إطار فاعلين يطغى عليهم الشعور بعدم الثقة أو على الأقل تدنى منسوب الثقة. ووفقاً لما يطرحه د.فرنسيس فوكاياما في مؤلفه الشهير "الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار"، فإن الثقة تعد شرطاً رئيسياً لإيجاد مجتمع اقتصادي سياسي متماسك، ومن خلال الثقة، يمكن تقليص ما يطلق عليه الاقتصاديون "تكاليف المعاملات أو عقد الصفقات التجارية"، أي تكاليف التفاوض والإرغام والإكراه والتي تمثل مصدراً للنزاع وعدم الاستقرار.
وبلغة الاقتصاد، تشمل تكاليف المعاملات: العثور على المشتري أو البائع المناسب، والتفاوض على العقد، والتقيد بالأنظمة الحكومية، وتنفيذ بنود ذلك العقد في حال نشوب نزاع، وحدوث نوع من الغش. وتصبح كل صفقة من الصفقات أسهل إذا توافرت الثقة بين الأطراف، إذ تقل الحاجة إلى تحديد الأشياء (أو مطالبات الأطراف) في عقود مطولة، وتقل الحاجة إلى التحوط من الحالات الطارئة غير المتوقعة، ويقل عدد النزاعات والحاجة إلى التقاضي في حال نشوئها. فالتوصل إلى الاتفاقات أو التسويات، وقبلها تنفيذ التعهدات تعززها الفعالية السياسية والاقتصادية للثقة.
شواهد دالة
بالفرضية المعاكسة، برزت جملة من الشواهد التي تعبر عن فجوة الثقة بين الأطراف المختلفة المنخرطة في أزمات الشرق الأوسط، خلال عام 2025، وذلك على النحو التالي:
1- معضلة التوصل إلى اتفاق لإنهاء حرب غزة الخامسة: يظل التحدي الأساسي الذي يواجه الجهود المبذولة لتسهيل التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس مرتبطاً بفجوة الثقة بين الطرفين، التي تعكسها خبرات سابقة، إذ أن المؤشرات الفعلية تعكس رغبة إسرائيل في الوصول لاتفاق تحرير الأسرى والرهائن الإسرائيليين، سواء الأحياء أو رفات الموتى، في حين تتطلع حركة حماس إلى اتفاق يسمح بالانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ودخول المساعدات الإنسانية بشكل يواكب "المجاعة" الحالية ووضع نهاية للحرب. ولا توجد مؤشرات فعلية بقرب التوصل لاتفاق حتى 28 يوليو 2025 رغم المفاوضات الجارية في الدوحة.
2-إشكالية التوافق بين القيادة السياسية وجهاز الشاباك في إسرائيل: قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بيان بتاريخ 16 مارس 2025، إنه "خلال مثل هذه الحرب التي نواجهها، يجب أن تكون هناك ثقة كاملة بين رئيس الوزراء ورئيس جهاز الشاباك رونين بار، ولكن للأسف، الوضع هو عكس ذلك تماماً، ليس لديّ مثل هذه الثقة، لديّ انعدام ثقة مستمر في رئيس الشاباك، وازداد ذلك مع مرور الوقت". وتجدر الإشارة إلى أن نتنياهو عمل منذ أشهر على محاولة إقالة بار سعياً منه لإلقاء اللوم في إخفاقات 7 أكتوبر 2023 على القيادة الأمنية، بدلاً من القيادة السياسية، ونجح نتنياهو بالفعل في الإطاحة به من منصبه.
3-مطالبة طهران بترميم الثقة في علاقاتها بدول الخليج: على الرغم من التحول في علاقات دول الخليج بإيران، خلال العامين الماضين، إلا أن هناك رواسب لازالت باقية، إذ ذكر المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات د.أنور قرقاش، في تغريدة على حسابه الرسمي في منصة "إكس" بتاريخ 28 يونيو 2025: "وقفت دول الخليج ضد الحرب الإسرائيلية على إيران وقفة قوية ومؤثرة، وسعت في كافة المنابر الدولية لخفض التصعيد ودعت لحلّ القضايا العالقة، وعلى رأسها الملف النووي، عبر المسار السياسي". وأضاف: "ورغم ذلك، جاء الاستهداف الإيراني لسيادة دولة قطر الشقيقة، وهو استهداف يطالنا جميعاً". وتابع: "اليوم، ونحن نطوي صفحة الحرب، تبقى طهران مطالبة بترميم الثقة مع محيطها الخليجي، بعدما تضررت بفعل هذا الاعتداء".
4-سعى لبنان لاستعادة ثقة الدول العربية: تبذل الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام جهوداً مضنية من أجل تغيير قواعد اللعبة السياسية في الداخل ونزع متدرج لسلاح حزب الله وتعزيز سيادة وسيطرة الجيش وقوات الأمن واستقلال القضاء، حيث ذكر سلام في لقاء خاص مع "سكاي نيوز عربية" بتاريخ 26 مايو 2025: "الأشقاء العرب وأصدقاؤنا في العالم كانوا قد فقدوا ثقتهم بلبنان، ونعمل ليل نهار على استعادة ثقة العرب بلبنان، متأمل في أن العرب سيعودون إلى لبنان كما عاد لبنان إليهم، بدعم الأشقاء العرب وأصدقائنا في العالم سنكون أقدر على النجاح".
وأشار إلى أن "لبنان سيكون أرضاً جاذبة للاستثمارات العربية، والعمل جار على توفير الشروط التي تسمح بعودة التصدير للسعودية". وقال سلام في موضع آخر: "لن نسكت عن بقاء أي سلاح خارج سلطة الدولة". وعبّر عن ثقته بأن "أكثرية الشعب اللبناني تقف إلى جانبنا، قوتي باستعادة ثقة الناس بالدولة ومشروعي إعادة بناء الدولة، ما يهمنا هو ثقة الناس وليس إرضاء الحاشية، أدرك أن هناك مصالح متجذرة ونحن نقوم بمواجهتها". وتابع: "نحن نسعى لأن نضع البلاد على سكة جديدة، لا يمكن أن أتوقع إلى أين سنصل ولكننا بالتأكيد في طريق جديد".
5- دعوة حوثية لإعادة الثقة بين صنعاء وبرنامج الأغذية العالمي: تحرص القيادات الحوثية على استمالة الدعم الموجه من بعض المؤسسات الإغاثية والإنسانية لتخفيف حدة الأزمات التي يواجهها اليمنيون في مناطق سيطرة الميلشيا. وفي هذا السياق، تسلم وزير خارجية الحوثيين جمال عامر، في 30 يونيو 2025، رسالة من القائم بأعمال الممثل المقيم لبرنامج الأغذية العالمي، باي ثابا، تؤكد على التحضير لاستئناف برنامج المساعدات الغذائية الطارئة الذي توقف خلال الأشهر الأخيرة، ودعا عامر إلى أن تكون هذه الخطوة مقدمة لإعادة الثقة بين الحكومة والبرنامج على أن يتبعها خطوات عملية جادة.
6-انسحاب قوى سياسية عراقية من الانتخابات البرلمانية المقبلة: عادت ظاهرة مقاطعة الانتخابات البرلمانية (من المقرر إجراؤها في 11 نوفمبر 2025) إلى الساحة الداخلية العراقية، حيث تبنى هذا النهج قوى حزبية وتيارات سياسية مختلفة، أبرزها "تحالف النصر" و"التيار الصدري"، وتيار "الخط الوطني"، التابع لرئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي وحزب "توازن"، فضلاً عن مجموعة من الشخصيات المستقلة الوازنة، ما يؤشر إلى تصاعد أزمة ثقة متنامية في نزاهة العملية الانتخابية وجدواها، إذ تتزايد اتهامات بشراء الأصوات واستغلال مؤسسات الدولة لمصلحة قوى بعينها.
7- استمرار فجوة الثقة المتبادلة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني: على الرغم من إعلان حزب العمال الكردستاني، في 2 يوليو 2025، عن بدء إجراءات تسليم سلاحه في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، ومحاولة تسوية مشكلاته مع تركيا، إلا أن هناك جملة من الإشكاليات التي تعترض هذا الإجراء لبناء الثقة بين الطرفين، أبرزها استمرار العمليات العسكرية التركية، وضخامة البنى التحتية العسكرية للحزب وخريطة انتشار عناصره، والموقف المتشدد للجناح القومي اليميني الأكثر تطرفاً والمعروف بـ"جناح قنديل" داخل الحزب الكردستاني لتسوية المشكلات مع الحكومة التركية، وتأثير التيار القومي في تركيا الرافض للتسوية مع الكردستاني.
8- إدماح قوات "قسد" في بنية الجيش السوري: أبرمت مليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، في 10 مارس 2025، اتفاقاً مع حكومة دمشق، تضمن دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز. ومع ذلك، يظل هناك مجموعة من الإشكاليات التي تعبر عن عدم تجاوز أزمة "عدم الثقة" بين الطرفين، وأبرزها مدى الفجوة في موقف الطرفين، حيث تصر حكومة دمشق على الدولة المركزية القابضة على السلطة في حين تطالب "قسد" بنمط من الحكم الفيدرالي، وهو ما قد يتصاعد بعد أحداث السويداء.
9- فقدان الليبيين الثقة في الطبقة السياسية الحالية: وهو ما عبّرت عنه المبعوثة الأممية إلى ليبيا، هانا تيتة، خلال لقائها مع عدد من عمداء البلديات وأعيان مناطق غرب البلاد بتاريخ 3 يونيو 2025، بالقول أن "الشعب الليبي فقد الثقة في الطبقة أو النخبة السياسية الحالية". لذا، اتفق المشاركون في هذا اللقاء على جملة من المطالب، تتنوع بين الدعوة إلى حل كافة الأجسام السياسية، بما فيها حكومة الوحدة الوطنية، أو تشكيل حكومة جديدة تُمنح الثقة من البرلمان، أو حكومة تتولى التمهيد لإجراء الانتخابات.
10- فجوة الثقة بين أطراف الصراع في السودان: لا تزال فجوة الثقة تتسع مع استمرار الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما يجعل التوصل إلى حل سلمي أمراً صعباً. يشمل هذا الفجوة عدم ثقة الأطراف المتصارعة في نوايا بعضها البعض، بالإضافة إلى عدم ثقة المدنيين في كلا الطرفين وقدرتهما على حماية المدنيين وتلبية احتياجاتهم. علاوة على عدم ثقة بعض الأطراف الدولية والقوى الإقليمية بأحد طرفي الصراع، وفقاً لمدى مصلحتها عبر مساندتها لأى منهما خلال العامين السابقين. وبالتالي، لا يمكن التكهن بموعد انتهاء الحرب، لاسيما في ظل استمرار قدرة الطرفين على مواصلة المواجهة المسلحة وعدم الوصول إلى حالة الإنهاك.
إجراءات الثقة
خلاصة القول، إن السؤال الذي ينبغي أن يطرح لتجاوز موجة الصراعات والأزمات والمشكلات في الشرق الأوسط سواء داخل الدول أو بينها، هو ماهية الإجراءات العملية لإبداء حسن النوايا تجاه الأطراف الأخرى في المجتمع، وفقاً للنهج المرحلي، على نحو يؤدي إلى الانتقال من انهيار الثقة إلى ضعف الثقة إلى استعادة الثقة إلى بناء الثقة إلى تمتين الثقة بين أطراف الأزمة. لكن هذا التحول لا يمكن ضمان الوصول إليه في مرحلة تبدو قريبة إلا بإدراك لحظة الإنضاج، التي يستشعر خلالها مختلف الأطراف حجم الأضرار التي تكبدوها، وأن تكلفة التسوية والسلم أقل بكثير من تكلفة الصراع والحرب.