تمر إسرائيل بحالة من اللا يقين بشأن البقاء والقابلية للاستمرار كنموذج حكم وكدولة. تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حول ما يدعيه بالحرب على عدة جبهات من أجل ضمان وجود الكيان/ الدولة، والتي يكررها مسئولون عسكريون وسياسيون وإعلاميون متطرفون، تعكس شعوراً جارفاً داخلياً مملوءاً بالخوف والقلق بأن النهاية باتت قريبة. على الصعيد المجتمعي، تسود نغمة تشاؤمية عنوانها الرئيسي تراجع الديمقراطية وصعود الاستبداد وتسلط الحكومة اليمينية المتطرفة على مؤسسات الدولة الأخرى، ما يعنى انحرافاً عن التقاليد التي طالما كانت لديهم محل فخر وتباهٍ ولكنها لم تعد كذلك الآن.
سياسيون معارضون يدعون إلى العصيان المدني لإجبار الحكومة على قبول الانتخابات المبكرة بهدف التخلص منها عبر الانتخابات إن تقررت. المظاهرات التي تخرج بالآلاف على مدى العامين المنصرمين، ما قبل "طوفان الأقصى" وما بعده، تطالب الحكومة بتغيير السياسات والمواقف بشأن خطة التعديلات القضائية، ثم وقف الحرب في قطاع غزة، والمطالبة بصفقة لتبادل الأسرى سريعاً قبل أن يقتل الجيش الإسرائيلي ما بقى منهم على قيد الحياة. قرارات رئيس الحكومة بالتخلص من المسئولين الذين يراهم يقفون ضد مصالحه الذاتية وتشبثه بالسلطة، كما هو الحال مع رونين بار رئيس جهاز الأمن العام "الشاباك"، الذي أقرت الحكومة عزله بينما جمدت المحكمة العليا القرار، وعزل المستشارة القضائية غالى بهاراف ميارا بسبب اعتراضاتها القانونية على الكثير من القرارات الحكومية، كلها تطورات تجسد بدورها حالة تخلخل في الأداء المؤسسي ما بين المستوى السياسي التنفيذي ومختلف المؤسسات الأخرى، فضلاً عن حالة رفض مجتمعي يتصاعد بين يوم وآخر، لكنه حتى اللحظة لا يؤدى إلى شيء ملموس يوقف حالة التخلخل هذه، ما يرفع من مستوى الإحباط المجتمعي العام، نظراً لأن الحكومة ورئيسها، وفقاً لمحللين إسرائيليين وأمريكيين، لا يعيرون اهتماماً بمطالب الشعب، ويسخرون منها، ويصرون على التمسك بعكسها لاعتبارات شخصية بالدرجة الأولى.
أولاً: "تحدى المؤسسية" في جيش الاحتلال
في ظل هذه البيئة النفسية الجماعية، اندفع مئات الضباط والجنود في أسلحة متعددة، الجوية والبحرية والاستخبارات والأمن العام، والطيران المدني وبعض الأطباء المدنيين، منهم من في الخدمة الفعلية الدائمة ومنهم من في خدمة الاحتياط، ومنهم المتقاعدون، جميعهم يطالبون بوقف الحرب، وأولوية تحرير الأسرى لدى حماس أياً كان الثمن، بما فيه وقف الحرب، ومحاسبة المسئولين عن الإخفاقات الميدانية المتكررة التي أدت إلى نجاح حركة حماس تنفيذ خطتها المعنونة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023. وهى الاحتجاجات التي وصفها نتنياهو بأنها خيانة، وتثير الفوضى، ومدفوعة من الخارج دون أن يقدم الدليل، في مناورة مشهودة لتجاهل الدلالات الرئيسية لتلك الاحتجاجات، والالتفاف عليها.
خطورة احتجاجات العسكريين أنها تتصادم مع التقاليد والنظم الواجبة النفاذ بدون أي اعتراض، وهي التقاليد المعمول بها في المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخبارية في كل البلدان، والتي يُعد الخروج عليها نوعاً من التمرد والعصيان يتعرض أصحابه للعقوبات القاسية في الأيام العادية، ويرتفع مستوى العقوبة أثناء الحرب. وثمة أبعاد متداخلة لهذا التطور المثير الذي لم تشهده إسرائيل من قبل؛ ويفتح كثيراً من الملفات الخاصة بسيرورة الدولة وحالة التشوش التي تطغى على المجتمع ككل. نشير إلى بعضها على النحو التالي:
- الشرعية المفقودة للحرب: تجسد الاحتجاجات شعوراً لدى العسكريين، وهم القائمون أساساً على تدمير القطاع وقتل سكانه بدم بارد، بأن ما يقوم به جيش الاحتلال لم يعد له أية ضرورة عسكرية، فقد تم تدمير القطاع بالفعل وقتل آلاف الفلسطينيين من الأطفال والنساء والشيوخ، وإصابة مئات الآلاف، بأكثر أنواع القنابل الأمريكية فتكاً وتدميراً، فضلاً عن نهج تجويع الفلسطينيين عن بكرة أبيهم، ومنع كل وسائل الحياة عنهم، ومع ذلك لم يتحقق ما يتمسك به نتنياهو والمتطرفون حوله من أهداف الحرب، كتحرير الأسرى بالقوة، والقضاء الشامل على حركة حماس، واستعادة الردع المفقود، والتي يتم تكرارها صباحاً ومساءً كمبرر لمزيد من القتل والتجويع والانتقام لإشباع رغبة شريرة لا أكثر ولا أقل، فضلاً عن إفشال أي جهد للمحاسبة الواجبة، وتأجيل محاكمات فساد رئيس الحكومة، دون أدنى اكتراث لمصير الأسرى الإسرائيليين أنفسهم، الأحياء والأموات معاً.
ذكرت صحيفة "هآرتس" في تقرير لها بتاريخ ١٦ أبريل ٢٠٢٥ عن أزمة العصيان لدى جيش الاحتلال أن الجيش ينتابه "شيء من البلبلة إزاء إدارة الحرب في غزة. فهو يعرف أن الحرب باتت بلا هدف، وغدت حرباً لمجرد الحرب، لأن هذا ما تقتضيه مصلحة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو". ووفقاً لمصادر رفيعة في الجيش وأجهزة الاستخبارات ووحدة الأسرى والمفقودين، فإن الحرب على غزة وفقاً للصحيفة "لا تشمل أهدافاً واضحة وقابلة للتحقيق، وتشكل خطراً شديداً على المخطوفين، وتُخلّد وحسب الأسباب التي لا تزال تجعل الحرب مستمرة منذ سنة ونصف السنة".
عرائض التململ من الحرب التي بلا هدف واضح، وضعت قيادة الجيش، لاسيما رئيس الأركان الجديد إيال زامير، أمام إشكالية التعامل مع هؤلاء المعترضين، فإن تم إقصائهم سينخفض عدد المطلوب استدعاؤهم للاستمرار في القتل والتدمير أو ما يصفونه بالكفاءة العملياتية، وإن تم التغاضي عنهم فإن روح التمرد سوف تتسع، وفى كلا الأمرين، هناك وضع شائك، يمكن وصفه بالترهل المؤسسي الذي يتناقض مع كل المعايير التي تعمل على أساسها الجيوش.
غياب شرعية القتال تكشف بدورها حدود ما يدعيه جيش الاحتلال بالانتصار على حماس، وثمة رؤى صمتت لمدة عام ونصف ولكنها صدمت من حجم الخداع الذي يمارسه المستوى السياسي، والقادة العسكريون الذين يخضعون لرغبات المستوى السياسي بلا ذرة من عقل، فالحرب في غزة، حسب أورى مسغاف، هآرتس، 17 أبريل 2025، هي: "الأكثر فشلاً في إسرائيل. حاولوا تسميتها "السيوف الحديدية"، ونتنياهو دفع بقوة لتسميتها "حرب النهضة". ولكن هذه الحرب ستذكر كـ "حرب 7 أكتوبر"، على اسم يومها الأول، الذي تعرضت فيه إسرائيل للهزيمة العسكرية الأكبر والأكثر إهانة في تاريخها. لقد أدرك رئيس الأركان زامير، بتأخير مؤسف، أنه عُين في المنصب على يد مستوى سياسي فاسد، يتوقع منه تحريك حرب سياسية مخادعة، والتضحية بالمخطوفين والجنود لصالح احتلال القطاع وإدارته بحكم عسكري. هذه حرب لا إجماع حولها، ولا يوجد جنود بما في الكفاية".
مثل هذه الآراء التي بدأت تفصح عن نفسها في مقام النقد اللاذع للحرب على القطاع، وإن أتت متأخرة، تفتقر إلى الاعتراف الواضح بالذنب تجاه القيم الأخلاقية والإنسانية بشكل عام، وتجاه الضحايا الفلسطينيين بشكل خاص، ومع ذلك تعكس حالة الانفصام السياسي في إسرائيل، وكيف أثر طوفان الأقصى، ليس فقط على نظرية الردع الإسرائيلية، وإنما أيضاً على فقدان القواسم المشتركة بين القوى السياسية والفكرية في الكيان، وهذا في حد ذاته أحد مكونات التداعي المجتمعي، والذي فجر جدل العصيان المدني، كما ستتم الإشارة إليه لاحقاً.
- اعتراضات بلا أخلاق: أحد الأبعاد واجبة التأمل، تتعلق بالبعد الأخلاقي والإنساني في عرائض التمرد والرفض، ففي كل العرائض كان التركيز على أولوية تحرير الأسرى لدى حماس، والحفاظ على حياة الجنود الإسرائيليين المفترض أنهم يحتلون القطاع ويعيثون فيه فساداً ما بعد فساد، وبعض العرائض وجدت إشارات عابرة للحفاظ على الأبرياء دون تحديد من هم هؤلاء الأبرياء المقصودين. هنا تتجلى النزعة اللا إنسانية لدى كل هؤلاء المعترضين، وتجاهلهم التام لمصير هؤلاء الذين يتم قتلهم وتدمير حياتهم في كل ساعة، وهم الفلسطينيون.
هذه المفارقة بين الاعتراض وعدم شرعية الحرب وبين فقدان الطابع الأخلاقي والإنساني وصفها جدعون ليفي في مقال نشرته هآرتس في 17 أبريل ٢٠٢٥، تحت عنوان ساخر، وهو: "نظرية الأخلاق لدى الإسرائيليين: ليس في قطاع غزة سوى 59 إنساناً". ووفقاً له، فإن كل رسائل الاحتجاج ضد الحرب تستحق التقدير؛ جميع هذه الرسائل جاءت متأخرة، وجبانة. إرسالها قد يولد انطباعاً بأن 59 شخصاً فقط يعانون الآن في قطاع غزة، وكأنه لا أحد حولهم، وكأنه لا يوجد 50 ألف قتيل أو عشرات آلاف الأطفال الأيتام والمصابين بالصدمة والمعاقين، أو 2 مليون نازح معوزين لكل شيء. يستطرد ليفي قائلاً: "حسب الرسائل، المخطوفون هم فقط ضحايا الحرب. ومن يقرأ الرسائل الشجاعة، يقرأ نظرية الأخلاق الإسرائيلية المشوهة والانتقائية، حتى في أوساط أفضل الأشخاص. الأمر الفظيع الموجود بين السطور، أنه إذا تم تحرير المخطوفين (فقط إذا تم عزل نتنياهو)، حينئذ يمكن مواصلة سفك الدماء في القطاع بدون عائق. لأن الحرب حرب عادلة في نهاية المطاف". وفى "الوقت الذي يفرح فيه كثيرون من هذه الرسائل، ثمة إصابة بالصدمة لعدم وجود أي رسالة تطالب بإنهاء الحرب في المقام الأول بسبب كونها جريمة ضد الإنسانية"، وفقاً لليفي.
- انقلاب عسكري محتمل: ربط بعض المحللين الإسرائيليين، والأمريكيين أيضاً، بين هذه الاحتجاجات، سواء التي اندلعت قبل طوفان الأقصى بسبب خطة تغول الحكومة على استقلالية القضاء، وتلك التي اندلعت وما زالت، وتدعو لوقف الحرب وتحرير الأسرى عبر صفقة مع حماس. هذا البعد تحديداً أثار جدلاً حول من له السلطة على الآخر؛ هل الجيش له السلطة على المستوى السياسي أم العكس؛ أي أن المستوى السياسي هو صاحب السلطة على الجيش وعلى كل المؤسسات الأمنية والعسكرية. ما صرح به نتنياهو من انتقادات لقيادات الجيش ووصفها بالفاشلة، وقوله إن الدولة لها جيش وليس الجيش له دولة، جسد خطورة ما يجرى، صحيح جاء الأمر بنفي أي إمكانية لحدوث انقلاب في "كيان ديمقراطي" كإسرائيل، حسب وصفه، لكنه أيضاً أفصح أن الاحتمال مطروح في أروقة الحكم للجدل والنقاش ولو نظرياً، مصحوباً بقدر من التخوف والقلق من أن تتغير المعادلات في لحظة عابرة، ويحدث التغيير القسري في المستوى السياسي على نحو غير مسبوق.
المدافعون عن احتمال الانزلاق إلى حرب أهلية يستندون إلى اتساع الشرخ بين الحكومة وبين فئات عريضة في المجتمع، وهو شرخ يزداد اتساعاً مع استمرار الحرب الفاشلة واللا أخلاقية التي يصر عليها المستوى السياسي، بالرغم من كل الضغوط الشعبية والمطالبات التي ينادي فيها رموز سياسية وعسكرية بوقف الحرب. فقد حذر رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية الأسبق، أهارون باراك، من أن "إسرائيل قد تصل إلى مرحلة الحرب الأهلية بسبب تفاقم الانقسامات الداخلية"، مؤكداً ضرورة منع "استبداد الأغلبية". ووصف إيهود باراك، رئيس الوزراء الأسبق، الأمر بأن "المشكلة الأكبر التي تواجه المجتمع الإسرائيلي اليوم هي الانقسام العميق بين الإسرائيليين أنفسهم، وهو ما أسميه الجبهة الثامنة، وهذا الانقسام يتفاقم وقد ينتهي كما ينتهي القطار الخارج عن القضبان، بالانحدار إلى الهاوية وحدوث حرب أهلية"، والتي وصفها بحرب الأخوة التي ستطيح بكل شيء. زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد أمام إحدى المظاهرات الحاشدة في تل أبيب، قال: "إن حكومة بنيامين نتنياهو فعلت كل ما في وسعها لبدء حرب أهلية وعلينا ألا نسمح بهذا"، داعياً إلى سلسلة من الإضرابات في الاقتصاد والكنيست والسلطات المحلية والجامعات والمدارس لمنع "تدمير الديمقراطية"، حسب وصفه. القيادي في حزب "معسكر الدولة" والرئيس الأسبق لأركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت صرح للقناة 12 الإسرائيلية بأن "نتنياهو يتحدى دولة إسرائيل الديمقراطية. يجب اتخاذ خطوات لم تُتخذ من قبل، منها إغلاق الاقتصاد الإسرائيلي لأسابيع وإخراج الجماهير إلى الشوارع".
أما الرافضون لاحتمال الوقوع في فخ حرب أهلية، يرون الجدل حول مفهوم الحرب الأهلية هو نتاج طبيعي لجدل سياسي بين آراء مختلفة، مع التأكيد على أن حرباً أهلية في الكيان هو أمر مستحيل. في الوقت ذاته يدعون إلى عدم ترك الشرخ القائم في البلاد ليتسع أكثر مما هو عليه، في اعتراف غير مباشر بأن المجتمع السياسي والقوى المدنية منخرطون في حالة صراعية ولا توجد مبادرات عملية لرأب الصدع المتفاقم. فمجرد الدعوة إلى الوحدة في ظل بيئة صراعية يُعد دليلاً على انقسام متعدد الدرجات والأبعاد، قابل للانفجار في لحظة ما قد لا يتصورها أحد، خاصة في ظل غياب مبادرات تغلق أبواب الانقسام، وفى ظل استمرار تغول الحكومة اليمينية المتطرفة ورفضها التجاوب مع مطالب الشارع السياسي.
ثانياً: "التغلب" والإطاحة بالنموذج
لا يخلو الجدل حول مصير إسرائيل من إثارة إشكالية مدى التزام الحكومة المتطرفة بالقواعد الديمقراطية، والتي انتُخبت على أساسها، والمفترض أن لا حق لها في تغييرها أو المساس بها ما لم تكن تتمتع بالإجماع المجتمعي بلا شوائب، وهو أمر غير قائم في اللحظة الجارية. يعود الأمر إلى الخطة الهادفة إلى تغيير المنظومة القضائية، بحيث تتغير وظيفتها من كونها مرفق مستقل يحكم بين أصحاب الحقوق المتعارضة وينفذ القانون العام في الكيان إلى أن يكون مرفقاً تابعاً وخاضعاً للسلطة التنفيذية، فاقداً لشرط الاستقلالية، وينفذ رغبات الحكومة ومن يقودها شخصياً، كمنهج يتم تشريعه قانونياً من قبل الكنيست الواقع تحت سيطرة التحالف اليميني المتطرف، بهدف تعطيل أداء القضاء بشأن محاكمات الفساد الشخصي لرئيس الحكومة، وترسيخ السطوة اليمينية المتطرفة على المجتمع ككل.
خطة السيطرة الحكومية على سلطة القضاء تعتمد نهج السيطرة المباشرة على عملية تعيين القضاة، بحيث يكون 6 من أصل 11 عضوًا في اللجنة التي تعين قضاة المحكمة العليا من الائتلاف الحاكم؛ ما يمنح الحكومة السيطرة الكاملة على العملية، إضافة إلى تعيين الحكومة لقاضيي المحكمة العليا التالييْن، والرئيس الجديد للمحكمة العليا، بأغلبية بسيطة في اللجنة، ما ينهى التقاليد التي اتبعت منذ عام 1953 بخصوص تعيين قضاة المحكمة العليا. المسألة هنا لا تقف عند حد تعيين القضاة وحسب، بل السيطرة على قرارات المحاكم بشأن الخصومات القانونية التي تكون فيها الحكومة طرفاً، فضلاً عن تشريع صلاحية الحكومة في نقض أي قرارات تصدرها المحكمة العليا لا يرضى عنها التحالف الحاكم، ما يفسد القضاء ويزيل عناصر استقلاليته. وهي الخطة التي أثارت فيما قبل طوفان الأقصى رفضاً كبيراً سياسياً ومجتمعياً، وأيضاً من قبل الحليف الأكبر الولايات المتحدة أثناء رئاسة جو بايدن، والتي نصحت نتنياهو بتأجيل البت في تلك التشريعات المعيبة، والدخول في حوار مع أحزاب المعارضة والوصول إلى توافق حول تعديلات مقبولة نسبياً.
تمحورت الاعتراضات في الداخل الإسرائيلي حول مآل تلك التعديلات باعتبارها تقضى على أهم عنصر في أي نظام ديمقراطي، وهو استقلالية القضاء، وفى المقابل تغول السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى، وهو الأمر الذى يسعى إليه نتنياهو شخصياً ويؤيده في ذلك الأحزاب الدينية والصهيونية المتطرفة المتحالفة معه، والتي قدمت تبريرات عجيبة ذات منحى استبدادي لتلك التغيرات الكبرى، من قبيل حق السلطة المنتخبة أن تتغول وتسود على السلطات غير المنتخبة، وأن تعلو كلمتها على البيروقراطيات التي تمارس سلطات تم وصفها بأنها أكبر من حجمها وتتجاوز صلاحياتها وتحد من قدرة القوى المنتخبة على أداء "برامجها الإصلاحية". وتضمنت التبريرات اليمينية أن تلك التعديلات المطروحة هي لإصلاح وضع معوج استمر طويلاً، إذ تهدف إلى منح مساحة أكبر للقوى السياسية الصهيونية والدينية التي حُرمت سابقاً من المشاركة في الحكم، وتعويضها عن التهميش الذي عانت منه طوال فترة سيطرة القوى والاتجاهات اليسارية والليبرالية (بالمقاييس الإسرائيلية).
عبرت تلك الحجج السياسية الواهية عن فقدان الاحترام للقواعد الديمقراطية التي انُتخبت على أساسها من يُعرفون أنفسهم بالقوى المتغلبة، ومحاولة تكريس سطوة المصالح الذاتية والضيقة ومنحها بعداً قانونياً إلزامياً على المجتمع ككل. والدلالة الأهم هي انكشاف الكيان ككل أمام حالة فقدان الدستور الواجب الاحترام لبنوده، ما يوفر فرصاً للقوى المتغلبة انتخابياً في مرحلة معينة على تغيير كافة القواعد لترسيخ مصالحها الخاصة على حساب مصالح القوى والفئات الأخرى في المجتمع.
عدم وجود دستور يحدد الصلاحيات التي لا يجوز التغلب عليها، يثير لدى قطاع من الإسرائيليين ذوي النزعة الليبرالية -بالمقاييس الإسرائيلية– شعوراً بالخطر وفقدان كل شيء يتعلق بالحريات والهوية والتوازن الظاهري بين البعد القومي للكيان والبعد الديني، وعلاقتهما معا بالمنظومة الديمقراطية. في الحوار بين الصحفي الإسرائيلي آرى شافيت، مع الصحفي الأمريكي فريد زكريا في 21 مارس 25، يشير شافيت إلى ان" الليبراليين الإسرائيليين مرعوبون من أن نتنياهو وآخرين سيسيطرون على البلاد، ويفككون القضاء، ويسيطرون على الاتصالات، ولن يكون هناك ديمقراطية غير ليبرالية فحسب، بل ما هو أسوأ، لأنه، كما نقول، ليس لدينا دستور يحمينا". ويؤكد شافيت أن الكيان يمر بأزمة عميقة مشيراً إلى أن "الجدل الأعمق في إسرائيل يدور بين هويتها اليهودية في البعد الديني القومي والهوية الديمقراطية، ومدى التوازن بين الامرين، فالشعبويون أو اليمنيون يخشون أن إسرائيل تشهد نوعاً من النموذج التركي القديم حيث يتجاهل القضاة والجنرالات رغبة الشعب. واليمينيون يقولون إننا نملك الأغلبية وأننا لا نستطيع الحكم لأن القضاء والجيش والشرطة والمخابرات لا تسمح لنا بالحكم، وهناك الليبراليون الذين يقولون إننا قد نفقد قريباً جميع الضوابط والتوازنات. سيكون الدفاع عن حقوق الإنسان وسيادة القانون في خطر. لذا هي أزمة عميقة".
الدلالة في هكذا تناقضات، ان غياب الدستور يدفع إلى الشطط السياسي لكل فريق على حدة، وهذه بدورها حالة قابلة للتطور لحرب أهلية وصفها شافيت بأنها في المرحلة الحالية تعد حربا أهلية مفاهيمية، أي ذات طابع فكرى وسيأسى، في حين أن رموز أخرى ترى الأمر من زاوية أخرى أكثر حدة وأكثر خطورة.
هذه الاتجاهات المتناقضة السائدة في الكيان الإسرائيلي لا تعبر عن الأزمة الكلية وحسب، بل توضح الخطوات الأولى التي ستطيح بالمنظومة ككل. وثمة اتفاق بين معارضي الحكومة ومنتقدي نتنياهو بأن ما يفعله رئيس الوزراء تحديداً لا يخدم الدولة ومصالحها ولا يخدم الإسرائيليين، وإنما يستهدف مصالح شخصية وذاتية على حساب المصلحة العامة للكيان، وهو في ذلك يمارس مناورات سياسية مفضوحة ويقدم تبريرات غير مقنعة للعموم، وأن تأثيرها يفت في عضد الجيش والاقتصاد ويهيئ الدولة لمصير بائس.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطور إلى المطالبة بالعصيان المدني العام، كما تمت الإشارة سابقاً، باعتبار ان الاحتجاجات والمظاهرات التي استمرت أكثر من عامين لم تعد كافية لإجبار نتنياهو وحكومته المتطرفة لمراعاة مطالب عموم الإسرائيليين، سواء بخصوص التراجع عن خطة تغلب الحكومة على باقي المؤسسات ومن ثم الوقوع في فخ الاستبداد وانهيار النظام العام، أو بخصوص وقف الحرب وإعطاء الأولوية لتحرير الأسرى الإسرائيليين عبر صفقة شاملة مع حركة حماس. وهكذا طالب البعض بشل حركة الاقتصاد، والبعض الآخر طالب بوقف العمل في الإدارات الحكومية، وآخرون طالبوا الشركات عن التوقف عن الإنتاج. وكلها دعوات عبرت عن الانفصام المتسارع بين حكومة التطرف والقتل اللا محدود، وبين شرائح وفئات مجتمعية تقترب من حالة يأس سياسي كبير.
الخلاصة
في كل الأحوال، تبدو إسرائيل ككيان مصطنع في أرض غريبة يلفظ كل ما هو غير أصيل، في مفترق طرق خطير في مساراته وشائك في اختياراته.