سوريا والشروط الأمريكية لرفع العقوبات.. الشرع يبحث عن "تفاهمات متبادلة"!!
2025-4-27

صافيناز محمد أحمد
* خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

على هامش اجتماعات مؤتمر دعم سوريا الذى عُقد فى العاصمة البلجيكية بروكسل يوم 18 مارس 2025، سلمت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية لشئون المشرق رسالة رسمية لوزير الخارجية السورى أسعد الشيبانى تضمنت عدة مطالب يمكن وصفها بـ "الشروط الاستباقية" التى تضعها واشنطن أمام النظام السورى الجديد كنقطة بداية فى مسار الانفتاح على علاقات "ممكنة" بين الجانبين؛ لاسيما بعد أن ربطت الإدارة الأمريكية هذه المطالب بأكثر التحديات تأثيراً على مسار المرحلة الانتقالية فى سوريا فى الوقت الراهن، وهو تحدى العقوبات الاقتصادية وتداعياتها على الوضع الداخلى الصعب، وجعلت من عملية رفع تلك العقوبات بصورة كاملة أو حتى جزئية رهناً بمدى تجاوب الرئيس السورى أحمد الشرع وحكومته مع تلك الشروط.

المطالب الأمريكية ودلالتها

فى هذا الإطار، حددت واشنطن مطالبها فى عدة شروط هى:

- التعاون مع الولايات المتحدة فى محاربة الإرهاب، بما يعنى السماح لها باستخدام الأراضى السورية فى تنفيذ هذا التعاون سواء كان ضد أى تنظيم، أو أى فرد ترى فيه واشنطن مصدراً للإرهاب. ويتضمن ذلك أيضاً إصدار الحكومة السورية مذكرة رسمية تعلن فيها دعمها للتحالف الدولى لمحاربة تنظيم الدولة "داعش"، كما هو الشأن بالنسبة للعراق.

- استبعاد المقاتلين الأجانب من المناصب الحكومية رفيعة المستوى.

- منع النفوذ الإيرانى من العودة إلى سوريا مجدداً.

- التخلص من ترسانة الأسلحة الكيماوية التى كان يمتلكها النظام السورى السابق.

- تشكيل جهة اتصال تتولى مهمة البحث عن الصحفى الأمريكى أوستن تايس المفقود منذ عشرة سنوات فى سوريا.

- اتخاذ موقف رسمى بشأن حظر نشاط عناصر المقاومة الفلسطينية المتواجدين داخل الأراضى السورية.

المطالب الأمريكية السابقة عكست عدة دلالات:

أولها، أنه بالرغم من حالة الانفتاح الأوروبى والعربى على الوضع الجديد فى سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد فى 28 ديسمبر 2024، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال تفضل الوقوف على حالة من الحياد فى التعامل مع الإدارة الانتقالية فى سوريا، وأن موقف "الحياد" هذا يرتبط بحالة حذر شديدة تجاه تقييم واشنطن لتفاعلات الرئيس السورى الانتقالى أحمد الشرع وحكومته مع التطورات داخل وخارج سوريا، لاسيما ما يتعلق بموقف الشرع بشأن وجود المتشددين من المقاتلين الأجانب ضمن هيكل الحكومة السورية فى الوزارات المختلفة، خاصة وزارة الدفاع من ناحية، وبشأن التفاعل مع إسرائيل من ناحية ثانية.

ثانيها، أن الولايات المتحدة ترغب فى استمرار بقاء سوريا كساحة مفتوحة للتحالف الدولى لمحاربة الإرهاب بما يعنيه ذلك من إعادة تموضع جديدة لقوات التحالف الدولى، حتى وإن ترافق ذلك مع سحب جزئى للقوات الأمريكية من شمال شرق سوريا وتفكيك بعض القواعد الأمريكية هناك من باب تقليص النفقات، لأن هذا لا يعنى انسحاباً شاملاً وكاملاً للقوات العسكرية الأمريكية الموجودة بقدر ما يعنى استمرار التعاون الأمريكى مع باقى قوى التحالف الدولى التى لازالت متمركزة فى قاعدة "التنف" الرئيسية فى منطقة المثلث الحدودى بين سوريا والعراق والأردن. فضلاً عن أن جدلية الانسحاب الأمريكى من سوريا تظل رهينة لتقييم مردود التعاون بين الولايات المتحدة وحلفائها المحللين من قوات سوريا الديمقراطية "قسد" لدى مستشارى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذين يلعبون دوراً ملحوظاً فى صياغة قراراته المتعلقة بالسياسة الخارجية، وجدير بالذكر أن ترامب كان متردداً خلال فترة ولايته الأولى بشأن سحب القوات الأمريكية من سوريا، حيث تراجع عن قرار سبق وأن اتخذه فى هذا الشأن بعد أيام قليلة من صدوره.

ثالثها، أن الشروط تعكس إبقاء الولايات المتحدة لآلية "التعليق المحدود والجزئى" للعقوبات المعمول بها لمدة 6 شهور- بدءاً من شهر يناير 2025- بهدف تسهيل دخول المساعدات الإنسانية ومواد الطاقة وبعض أوجه التحويلات المالية لسوريا، ومن ثم فهى ليست بصدد رفع كامل للعقوبات فى الوقت الراهن انتظاراً لمدى تجاوب الرئيس السورى وحكومته مع المطالب الجديدة، على العكس من الموقف الأوروبى الذى كان أكثر تجاوباً بالرفع التدريجى للعقوبات وفقاً لقاعدة "خطوة مقابل خطوة". وجدير بالذكر أن التجاوب الكامل من قبل دمشق مع الشروط الأمريكية أو حتى التجاوب الجزئى معها سيقابل بتخفيف جزئى جديد للعقوبات، ربما يتمثل فى تمديد فترة الإعفاء المتعلقة بالتعاون مع المؤسسات السورية المتولية الإشراف على دخول المساعدات الإنسانية لمدة قد تصل إلى عامين، وذلك وفقاً لما أعلنته وكالة رويترز الأمريكية نقلاً عن مصادر سياسية رفيعة المستوى فى وزارة الخارجية الأمريكية.

رابعها، أن بعض المطالب الأمريكية تعد صعبة التحقق؛ يأتى فى مقدمتها الشرط المتعلق بعدم تولى المقاتلين الأجانب مناصب قيادية فى الحكومة، خاصة وأن بعضهم بالفعل يتولى مناصب مهمة فى وزارة الدفاع السورية حالياً، وبالتالى فإن تنحيتهم من مناصبهم ليس بالأمر اليسير على الشرع وحكومته؛ سواء لكونهم مثلوا مرتكزاً لنشاط هيئة تحرير الشام من  ناحية، أو لدورهم فى دعم فصائل المعارضة المسلحة بشأن إنجاح مخطط إسقاط النظام السورى السابق من ناحية ثانية، وبالتالى من المتوقع أن يبقى هذا الطلب تحديداً طلباً خلافياً وعائقاً أمام رفع فعلى للعقوبات الأمريكية عن دمشق.

الرد السورى والتفاهمات المتبادلة

فى 25 أبريل الجارى، التقى أحد أعضاء الكونجرس الأمريكى بالرئيس السورى أحمد الشرع فى دمشق وبحث خلال اللقاء الشروط الأمريكية السابق - الإشارة إليها - والمتعلقة برفع العقوبات عن سوريا. وأوضح السياسى الأمريكى أن الرئيس السورى أحمد الشرع أبدى انفتاحاً ملحوظاً على المطالب الأمريكية من ناحية، ويرغب فى الوقت نفسه في الحفاظ على مسار للحوار المفتوح مع واشنطن من ناحية ثانية، وأنه بصدد نقل رسالة منه إلى الرئيس الأمريكى تتضمن رداً على الشروط الأمريكية المطروحة. الرد السورى المكتوب أكد على أن دمشق قد عالجت معظم الشروط، وأن بعضها يحتاج إلى "تفاهمات متبادلة" مع واشنطن.

 فى هذا السياق يمكن استبيان الرد السورى فى عدة نقاط أبرزها:

- إن شرط إبقاء سوريا ساحة مفتوحة أمام التحالف الدولى لمحاربة الإرهاب لا يمثل مشكلة من وجهة نظر الحكومة السورية الحالية، خاصة إذا تعلق ذلك بالاستمرار فى مواجهة تنظيم الدولة "داعش" من باب أن هيئة تحرير الشام كان لها سابقة مواجهة مع "داعش" فى أغسطس 2023 (مقتل زعيم داعش أبى الحسين القرشى). وفى هذا الصدد تبدو مخيمات عوائل التنظيم الموجودة فى سوريا معضلة كبيرة أمام الحكومة السورية، وتشكل  تحدياً أمنياً صعباً يتطلب منها، فى سياق الشرط الأمريكى بمحاربة الإرهاب، تبنى حلول نوعية مختلفة.

- إن الحكومة السورية قد تتجه إلى معالجة شرط عدم تولى المقاتلين الأجانب مناصب قيادية فى الهياكل الحكومية بطريقتين: إما بمنحهم الجنسية السورية لدورهم فى مساندة المعارضة السورية المسلحة فى إسقاط نظام الأسد، أو بمنحهم حق العودة إلى بلدانهم بعد أن تتوصل دمشق مع الولايات المتحدة لنوع من الاتفاق يضمن عدم ملاحقتهم قانونياً مستقبلاً.  

- إن التخلص مما تبقى من ترسانة المخزون الكيماوى يمكن الاتفاق عليه، من وجهة نظر الحكومة السورية، عبر تفاهمات تضمن وجود رقابة أممية وضمانات دولية. ولأن هذا الشرط الأمريكى مرتبط بأمن الكيان الإسرائيلى فإن الحكومة السورية سبق وأن أكدت على أنها ليست بصدد فتح جبهات صراع خارجية، وأن ما يشغلها حالياً إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية ورفع العقوبات عنها. فى إشارة إلى تجنب حكومة الشرع اتخاذ أى إجراء بشأن حالة العدوان الإسرائيلى المستمر على الجنوب السورى، وجنوحه إلى مطالبة الأمم المتحدة بممارسة ضغط على إسرائيل لحملها على وقف هذا العدوان.

- إن الشرط المتعلق بمنع إيران من العودة إلى سوريا عبر نشاط فصائلها المسلحة قد تحقق فعلياً بخروج تلك الفصائل من سوريا مع سقوط نظام الأسد، لكن يظل التأثير الإيرانى قائماً عبر عاملين: الأول، يتمثل فى البيئة الاجتماعية التى خلقتها إيران داخل سوريا من الإيرانيين الذين قام النظام السورى السابق بتجنيسهم دعما له، وتكمن الإشكالية هنا فى أن تلك البيئة متوغلة فى النسيج المجتمعى السورى ثقافياً واجتماعياً، وإن كانت حالياً فى فترة كمون، لكن على المدى الطويل وفى حالة استمرار الوضع الأمنى والاقتصادى على ما هو عليه فمن المحتمل أن تلعب تلك الفئات دوراً تخريبياً أو معيقاً لمساعى الاستقرار وبناء الدولة. والثانى، يتمثل فى الدور الذى يلعبه فلول النظام السابق فى مناطق الساحل السورى، وهى المناطق التى يتمركز فيها العلويون، الحاضنة الاجتماعية للنظام المخلوع، فثمة مخاوف مستمرة من تجدد محاولتهم بتهديد الاستقرار قياساً على أحداث اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص فى مارس 2025، خاصة وأن تعامل الحكومة السورية الانتقالية مع تلك الأحداث كان عنيفاً وشكل انتهاكاً كبيراً تجاه إحدى الأقليات الموجودة ضمن النسيج المجتمعى السورى.

- إن الشرط المتعلق بحظر نشاط عناصر المقاومة الفلسطينية المتواجدين على الأراضى السورية قد تم التعامل معه فعلياً؛ حيث قامت الحكومة السورية فى 23 أبريل باعتقال قيادات من حركة الجهاد الإسلامى الفلسطينية بشبهة التواصل مع جهات خارجية، فى إشارة إلى إيران، وفى أعقاب زيارة رسمية قام بها الرئيس الفلسطينى محمود عباس لدمشق فى 18 أبريل، ما صُنف على أن دمشق بصدد تقنين العلاقات السورية-الفلسطينية عبر السلطة فقط، وليس عبر فصائل المقاومة.

الانخراط ضمن الاتفاقات الإبراهيمية

ثمة قراءات للشروط الأمريكية الموجهة لدمشق بشأن رفع العقوبات تقول بأنها تستهدف ضمنياً توفير الحماية الأمنية لإسرائيل بتحييد النظام السورى الجديد بحيث لا يكون عدواً محتملاً لدولة الكيان، وذلك بالنظر إلى الشروط المتعلقة بالتخلص من الترسانة الكيماوية، ومنع تجدد النشاط الإيرانى، وحظر نشاط عناصر المقاومة الفلسطينية داخل الأراضى السورية. والواقع يقول أن النظام الجديد، ومن قبل ظهور هذه الشروط، كان قد أعلن أنه ليس بصدد الدخول مع إسرائيل فى مواجهة، بل ودعا الأمم المتحدة والمجتمع الدولى إلى ممارسة دور ضاغط على إسرائيل لحملها على وقف عدوانها على الجنوب السورى؛ أى انتهج الأداة الدبلوماسية فى هذا الصدد. وبالتالى فليس من أولويات هذا النظام وضع إسرائيل – ولو فى المدى المنظور والمتوسط- كهدف لمواجهة عسكرية محتملة.   

هذه المعطيات دفعت إلى استنتاج مؤداه أنه من الممكن أن يجنح النظام الجديد فى دمشق إلى الالتحاق بالاتفاقات الإبراهيمية بشأن عقد سلام مع إسرائيل ترعاه الولايات المتحدة. وبغض النظر عن مدى صحة هذا الاستنتاج، فإن ثمة تصريحاً صدر من أحد أعضاء الكونجرس- الذى تولى نقل رسالة الرئيس السورى أحمد الشرع إلى نظيره الأمريكى رداً على شروط رفع العقوبات عن بلاده- يقول بأنه لمس وجود رغبة لدى الشرع فى تطبيع العلاقات مع إسرائيل. لكنه فى الوقت نفسه أوضح أن الشرع رهن هذا الأمر بشرط مهم وهو "ضمان سيادة سوريا ووحدة أراضيها"؛ بما يعنى ضمنياً خروج إسرائيل من الجنوب السورى وفقاً لتسوية أممية وبضمانات واتفاقات دولية، كما يحمل هذا التصور أيضاً توقف إسرائيل عن تنفيذ مخططها بشأن تقسيم سوريا باحتلال الجنوب أو بخلق نمط من التعاون العسكرى مع بعض طوائف الدروز فى محافظة السويداء، وفى حالة تحقق تلك الشروط فإن الشرع وحكومته لا يمانعان فى عقد تفاهمات إقليمية حتى وإن شمل ذلك الدخول فى اتفاقية للسلام مع إسرائيل.

ويصعب فى هذه المرحلة تبيان ما إذا كان نمط العلاقة المحتملة بين سوريا وإسرائيل – فى حالة تحقق الشروط التى أقرها الرئيس السورى فى هذا الشأن والمتعلقة بسيادة سوريا ووحدة أراضيها- سيكون مجرد عقد اتفاقيات للسلام، أم سيكون تطبيعاً كاملاً للعلاقات على غرار ما تتضمنه الاتفاقات الإبراهيمية؟!!

فى الأخير، فإن ثمة رغبة متبادلة بين واشنطن ودمشق بشأن البدء فى مسار لبناء الثقة بين الجانبين؛ وأن المتغير الإسرائيلى حاضر بقوة فى هذا المسار، وأن واشنطن بصدد "تقييم" رد الرئيس السورى أحمد الشرع على مطالبها بشأن رفع العقوبات. وانتظاراً لنتائج هذا "التقييم" فإن واشنطن ستحول دون أن تشكل سوريا تهديداً مباشراً لإسرائيل سواء عبر مخزونها من السلاح الكيماوى، أو عبر احتضانها لقيادات من فصائل المقاومة الفلسطينية، أو عبر السماح بعودة النفوذ الإيرانى إليها مجدداً. بينما تظل دمشق فى ظل حكم الرئيس الانتقالى أحمد الشرع غير قادرة على استثمار الانفتاح الخارجى الإقليمى والدولى تجاهها استثماراً كاملاً؛ نظراً لاستمرار العقوبات الأمريكية التى بدت مشروطة بعدة مطالب لا يزال الرد السورى بشأنها خاضعاً لمرحلة "التقييم". 


رابط دائم: