على هامش زيارة ماكرون.. الحاجة لـ "الكتلة الاستراتيجية المتوسطية" في النظام الدولي
2025-4-9

د. معتز سلامة
* رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

 

فضلا عن ما حمله توقيت الزيارة الرسمية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمصر من رسائل، كان للزيارة وفعالياتها دلالاتها ومضامينها السياسية والاستراتيجية والحضارية، في هذه اللحظة العالمية التي تشهد تحولات خطرة، تستشعرها فرنسا وأوروبا بقدر ما تستشعرها مصر والعالم العربي. وإذا كان الأخيرون يستشعرون خطر اللحظة على مستقبل القضية الفلسطينية ودعوات التهجير في غزة وعلى مستقبل الوضع الجيوسياسي والاقتصادي الإقليمي والعالمي، تستشعر فرنسا وأوروبا خطرها بالمثل على الأزمة في أوكرانيا ومستقبل علاقة أوروبا بروسيا، ومستقبل العلاقات على جانبي الأطلسي مع الولايات المتحدة، في ظل وضع مقلق لم تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.   

إرتبطت خصوصية العلاقات المصرية الفرنسية بالمواقف الاستقلالية لفرنسا، التي تمكنت من موضعة نفسها في مكان خاص بين الدول الأوروبية، في الموقف من القضية الفلسطينية، والذي جاء أكثر قربا وإحساسا بالمظلومية العربية، وتوثقت في العقود الأخيرة على أرض الواقع مع رؤية المصريين لمشروع مترو الانفاق، الذي حل كثيرا مشكلات الازدحام بالقاهرة، والذي أسهمت فرنسا في بنائه منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين وتأسس وفق نموذج شبكة المترو الفرنسية. فضلا عن ذلك تضيف الكيمياء الخاصة لعلاقات الرؤساء المصريين والفرنسيين رصيدا خاصا في علاقات البلدين، وهو ما تأكد أكثر في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي والرئيس ايمانويل ماكرون، على نحو ما أبرزته فعاليات الزيارة.

أبعاد رئيسية

يمكن الوقوف عند أبعاد ثلاثة لزيارة الرئيس ماكرون لمصر، تتمثل فيما يلي:

البعد السياسي: قدمت زيارة الرئيس الفرنسي في هذا التوقيت دعما قويا للطرح المصري بشأن غزة والقضية الفلسطينية، وأكدت حرص فرنسا على تعزيز موقف مصر الرافض للمخطط الإسرائيلي الأمريكي لتهجير الفلسطينيين، والدعم الفرنسي للخطة المصرية حول غزة. وفي ظل استمرار طرح ملف التهجير خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي ولقائه الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض. وهذا الموقف السياسي لفرنسا يعيد القضية الفلسطينية إلى وضعها الطبيعي قبل 7 أكتوبر 2023، ويسلط الضوء على جانبها السياسي والإنساني، بعدما شدته الرؤية الأمريكية الإسرائيلية –المبنية على غرور القوة- إلى مسار آخر من التيه والمظالم. فمع علو صوت الضربات المتزامنة على غزة واليمن وسوريا، تراجعت أصوات الحكمة والعقل، وعلت ضغوط اللحظة التي تعتقد فيها حكومة نتنياهو وإدارة ترامب بإمكان فرض الاستقرار طويل الأجل، ارتكازا على أوضاع اختلال مؤقتة في موازين القوى. 

في هذا السياق، قدمت زيارة الرئيس الفرنسي الوجه الآخر للموقف الدولي من القضية، الذي بات يختلف كثيرا مع الموقف الأمريكي، في ظل إدارة أمريكية لم تطرح أفكارا من داخل أو خارج صندوق العلاقات الدولية، وإنما قذفت بكامل "الصندوق" وكل المفاهيم القيمية والقانونية والإنسانية عرض الحائط. وبالبيان المصري الأردني الفرنسي المشترك الصادر عن القمة الثلاثية، ثم بالاتصال الثلاثي بالرئيس ترامب، أكدت فرنسا انحيازها إلى صف الموقف المصري في هذه اللحظة الحرجة. ومع جولة الرئيسين السيسي وماكرون بمدينة العريش وتفقدهما مستشفى المدينة ولقائهما بعدد من الجرحى الفلسطينيين، وزيارتهما مركز الخدمات اللوجستية التابع للهلال الأحمر المصري، فقد أعاد الزعيمان الاعتبار للقيم الإنسانية التي انتهكت في غزة. وذلك جسد الفارق بين أوروبا التي تتفهم مظلومية العالم العربي وقضاياه وبين إدارة أمريكية شذت عن القواعد.

البعد الاستراتيجي: أتت زيارة الرئيس الفرنسي لمصر في ظل لحظة تاريخية على الصعيد الدولي،  طرحت فيها إدارة ترامب توجهات لا نمطية ولا متماثلة مع العالم العربي وأوروبا على حد سواء؛ فمع العالم العربي جعلت المال والاستثمار مدخلها الأول في علاقاتها بدول المنطقة، واصطفت إلى جانب إسرائيل حين دعت إلى تهجير الفلسطينيين وعبرت عن الرغبة في الاستيلاء على غزة في طرح غريب وغير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية. ولم تكن طروحات الإدارة الأمريكية أقل غرابة مع شركائها الأوروبيين، سواء ما تعلق منها بالحرب الروسية - الأوكرانية، أو بنظرتها لعلاقاتها بالجانب الآخر من الأطلسي والشريك الأوروبي في حلف الناتو، حين طالبته بنفقات الدفاع وتبنت مواقف عبرت عن فجوة بينها وبينه حول أوكرانيا، وطرحت أفكارا تناقضت مع سيادات بعض دوله حين طرحت الاستيلاء على جرينلاند من مملكة الدنمارك، ثم أخيرا الرسوم التجارية التي فرضتها على شركائها في الأطلسي مثل غيرهم.

في هذه اللحظة الاستثنائية في علاقات كل من العالم العربي وأوروبا بالولايات المتحدة، تبرز أهمية ترسيخ العلاقات على جانبي المتوسط، لتلافي فجوة الثقة في العلاقات على جانبي الأطلسي، وفجوة الثقة في العلاقات العربية الأمريكية. لقد ظل العالم العربي منذ الحرب العالمية الثانية منقسما بين الكتلتين الشرقية والغربية، وظلت أوروبا ممزقة بين الشرق والغرب، إلى أن توحدت خلف القيادة الأمريكية، وهي الآن تتنافر مع واشنطن. ومع بقاء علاقات الدول على جانبي المتوسط على حالها فإنها لم تشهد الزخم المطلوب لدول تشاطأت على بحر دولي واحد، جمعتها عبره أحداث وذكريات شكلت مخزنا للتاريخ الثقافي والحضاري والاستراتيجي على مدى القرون الماضية، وكان يمكنها أن تفعل الكثير لاستنهاض أواصر التواصل بينها.

وسط كل ذلك، شكلت زيارة ماكرون إعادة تأكيد للبعد الاستراتيجي في العلاقات العربية الأوروبية. وفي ظل الابتعاد الأمريكي عن أوروبا والصراع الأمريكي الصيني، تبرز إمكانية تشكل "الكتلة المتوسطية" بين أوروبا والعالم العربي لتكون بمثابة منطقة القلب الاستراتيجي العالمي، لا لتصبح جسرا للصراع، وإنما كتلة للتواصل البيني والتمايز عن الواقع الصراعي العالمي الراهن. ويبقى العالم العربي وأوروبا كتلة وسطية وكفة مرجحة بين الأقطاب المتصارعة. من هنا يبرز العالم العربي كخيار أول لأوروبا وتبرز أوروبا كخيار أول للعالم العربي، ومن الإثنين تتشكل كتلة الوسط الاستراتيجة الدولية التي يمكنها أن توازن وترجح الكثير من شئون المستقبل العالمي.

البعد الحضاري: للعلاقات المصرية - الفرنسية خصوصية ترتبط بالنظرة المتبادلة، وبرصيد القيم الكامن في نفوس الشعبين؛ في مصر، تجاوزت النظرة لفرنسا إرث الحروب الصليبية، وتمركزت حول إرث حملة نابليون بونابرت التي كانت بمثابة الثورة الحضارية للمصريين، وكشفت عن جوانب صدم بعضها المصريون صدمة إيجابية، مع مفاجأتهم بالقدرة التنظيمية والعسكرية والعلمية والثقافية للحملة، التي لم تستمر طويلا، ومن ثم لم تغرس النظرة لفرنسا كبلد مستعمر لمصر. وتكرست النظرة لفرنسا مع اقتداء محمد علي باشا بالنمط الفرنسي في التكوين العسكري للجيش، ثم البعثات الدراسية للمصريين الأوائل لباريس، حيث مفكري النهضة الفرنسية ممن كان لهم تأثيرهم في رواد النهضة المصريين، الذين برزت إسهاماتهم بشكل كبير مع رفاعة الطهطاوي، ثم عميد الأدب العربي د. طه حسين، الذي جسد تصوراته الشخصية عن باريس في تأليفه رواية "أديب" (التي خرجت للنور في مسلسل حمل الإسم نفسه وعرض عام 1982، وجسد الشخصية الأساسية فيه الفنان نور الشريف، في دور إبراهيم عبدالله، الذي دأب على وصف باريس بأنها "بلاد الجن والملائكة").

كان للرصيد الإيجابي لفرنسا في نفوس المصريين قدرة دائمة على إبعاد فرنسا عن الإرث الاستعماري الأوروبي في العقل المصري مع التماس العذر لها عن ذلك وربطها أكثر بطابع النور والثقافة. بالمثل، فإن رصيد مصر في فرنسا يتجسد في الولع الفرنسي بالحضارة الفرعونية، ما عبر عنه الرئيس ماكرون في كلمته بجامعة القاهرة التي أشاد فيها بمصر، معتبرا إياها نموذجا للتنوع الثقافي والديني، كونها تضم الكنائس والمعابد اليهودية والمساجد، ومعتبرا أن مصر مدهشة بإمكانياتها الأكاديمية. وكل ذلك عبرت عنه بجلاء الرسالة التي كتبها الرئيس الفرنسي في ختام جولته لمصر على منصة إكس، والتي قال فيها: "أغادر مصر بعد 3 أيام مؤثرة، رأيت فيها نبض القلوب، في ترحيبكم الكريم، في قوة تعاوننا، وفي الدعم الذي نقدمه معا لأهالي غزة، وفي العريش، حيث يقاوم الأمل الألم، شكرا لكم، تحيا الصداقة بين شعبينا". رسالة تعيد طابع الاحترام بين الدول، وتسلط الضوء على لغة بلاد النور والحضارة ودورها في توازن العلاقات الدولية، التي تضررت باللغات الشعبوية والمطامع الاستعمارية التي يجري إحياؤها على الجانب الآخر للأطلسي.

كان أهم ما ركزت عليه زيارة ماكرون -وربما أهم ما استرعى انتباه المحللين- ما حفلت به من مؤشرات تقارب ثقافي وحضاري بين القاهرة وباريس، كعاصمتين لحضارات ثرية، وهذا ما تمثل في جولة الرئيسين عبدالفتاح السياسي وإيمانويل ماكرون بمنطقة سوق خان الخليلي، واللقاءات المباشرة مع الناس العاديين، وزيارة الرئيس الفرنسي المتحف المصري الكبير وجامعة القاهرة، حيث ألقى خطابه بقاعة الاحتفالات الكبري بالجامعة. وأكدت هذه الفعاليات حميمية التواصل وجذبت الانتباه إلى الطابع النموذجي الأمثل للعلاقات الدولية، التي يثريها هذا الطابع الثقافي الإنساني المدفوع بأواصر الاحترام المتبادل، وهو جانب تندفع العلاقات الدولية إلى عكسه في ظل تراجع الشق الدبلوماسي والبروتوكولي، بعدما شهدت بعض لقاءات القادة (ترامب/ زيلينسكي) مشاهد على عدم الاحترافية الدبلوماسية، ويمكن لهذه المشاهد من سوء التقدير الدبلوماسي لو استمرت أن تدفع بالعالم إلى مسار عنف لا يعود بالنفع على الجميع. 

تبرز الآن فرصة أمام مصر وفرنسا وأمام العالم العربي وأوروبا، بأن يشكلا على جانبي المتوسط كتلة قلب استراتيجية بين أمريكا والصين وروسيا؛ تكون دعامتها الأساسية المصالح والقيم واستعادة الثقافة والطابع الحضاري والسلامي للعلاقات الدولية. وإذا كانت تجمعات دولية بعيدة جغرافيا قد اجتمعت وتآلفت على المصالح الاقتصادية والسياسية، وشكلت كيانات وكتلا دولية لأجلها، فإن الكتلة الاستراتيجية المتوسطية هي أدعى وأولى بالإنشاء والبناء، في ظل ظروف عالمية لا تجعل بناءها وتأسيسها أمرا مطلوبا فقط، بل مفروضا أيضا. 


رابط دائم: