رحيل الفارس القديم: نبع الوطنية الصافي
2025-4-6

د. عبد العليم محمد
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

عَلِمْتُ بمرضه متأخراً، وعندما زرته في المستشفى الذي يتلقى فيه العلاج، بعدها بأيام، أُبلِغت بأن روح الصديق الغالي الدكتور طه عبدالعليم قد فاضت إلى بارئها. كان وقع الخبر علىّ وعلى الكثيرين من أصدقائه ومن بينهم الدكتور عبدالمنعم سعيد كما الصاعقة، لأن إحساساً بالتقصير فى السؤال عنه والتواصل معه كان يسيطر علينا. الكلمات مهما كان عددها لا تكفى للإحاطة برحلة الدكتور طه الغالي في الحياة والدراسة والعمل والسياسة والتاريخ والاقتصاد والتي كانت بمثابة سفر كبير، تنوء بحمله الكلمات.

رحلة الفقيد الغالي من أسوان إلى قاهرة المعز، رافقتها رحلة طويلة أيضاً في البحث عن جذور الوطنية المصرية منذ قدماء المصريين حتى مصر الناصرية والمعاصرة، من أحمس الأول ورمسيس الثاني حتى محمد على وبنيه وعبدالناصر. تميزت هذه الرحلة الطويلة في البحث عن الوطنية المصرية بالتنقيب والتحري والاستقصاء وفحص طبقات التاريخ المصري وكيف حافظ هؤلاء وأولئك على الدولة المصرية وحدودها في مواجهة أعدائها. شغلته دائماً وحتى الرمق الأخير في حياته ثلاثية النهضة والتصنيع والتنمية، والكشف عن مقوماتها وركائزها وأسباب إخفاقاتها وعثراتها، وتشخيص هذه الأسباب وتقديم تصورات النهضة المتجددة والممكنة لمصر وتعزيز مكانتها بين الأمم.

كان مسقط رأس الصديق الغالي مدينة أسوان في أقصى جنوب الوادي. وهذه المعلومة وإن كانت بسيطة ومعروفة؛ إلا أنها في سياق الكتابة عنه تكتسب معنى كبيراً وبالغ الدلالة؛ بحيث يمكن القول إن نشأة الدكتور طه عبدالعليم في مدينة أسوان - التي كانت تسمى "بلاد الذهب" - قد أثرت فى صياغة توجهاته في الحياة والسياسة بشكلٍ عام. فهذه المدينة التاريخية كانت في تاريخ مصر القديم تمثل إحدى أهم حلقات هذا التاريخ الطويل بمعالمها الأثرية الناطقة بلغة المصريين القدماء، ومن أهم مراكز الحضارة المصرية القديمة الكاشفة عن الإعجاز الحضاري الذي تحقق عبر التاريخ، وشهدت أسوان في تاريخ مصر المعاصر أهم حلقات النهوض المصري في الحقبة الناصرية، حيث تم تشييد السد العالي في أسوان، وهو الشاهد القوي على نفاذ بصيرة القيادة الناصرية، والتي نلمس آثارها الآن مع أزمة سد النهضة. هذا الوجه المزدوج لأسوان - مسقط رأس الصديق العزيز ومهد طفولته ونشأته - مارس تأثيراً بالغاً في التكوين السياسي والثقافي لفقيدنا العزيز، تجلى ذلك واضحاً في مفهوم الوطنية لدى الفقيد، حيث كان دائب البحث عن جذور هذه الوطنية الصادقة في التاريخ المصري القديم لدى أحمس الأول ورمسيس الثاني وغيرهم من ملوك مصر القديمة الذين حافظوا على الدولة المصرية العريقة وبقيت حدودها ثابتة لم تتغير منذ ذلك التاريخ، ودور نهر النيل بجريانه المستمر في الوادي والذي قيل في حقه أن "مصر هبة النيل" كما قال هيرودوت المؤرخ اليوناني، في حين ذهب المؤرخ المصري أشرف غربال إلى أن "مصر هبة المصريين"، فهم من جعلوا النهر مصدراً للنماء والخصوبة والعمران، وتمكنوا من ترويض جموحه المدمر في وقت الفيضان.

أضفت الناصرية والسد العالي ونهضة وتصنيع مصر في عهد الزعيم الخالد الراحل بعداً حديثاً ومعاصراً للوطنية كما يراها العزيز والنبيل طه عبدالعليم، حيث ربط بين الوطنية ومناهضة الظلم كأساس لاستمرار الحكم المستقر، مسترشداً بحكمة المصريين القدماء وتعاليمهم لأبنائهم وتوخي العدل والإنصات لدعوى المظلومين.

في بحثه الدؤوب عن تأصيل هذه الوطنية في المجال الاقتصادي وهو حقل تخصصه الأساسي، لم يجعل من الاقتصاد وصفة صماء، تطبق في حد ذاتها بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي، بل حاول "أنسنة الاقتصاد"، حيث كان يرى أن الاقتصاد بحاجة إلى ما هو غير اقتصادي، أى أن يسترشد الأداء والخطط الاقتصادية بمعايير وقيم من خارج الحقل الاقتصادي، أى بالعدل والمساواة في توزيع الأعباء والعائد وأن غياب هذه القيم والمبادئ عن الحقل الاقتصادي هو بمثابة غياب البعد القيمي الإنساني الذي ينبغي أن يلازم تطبيقات الاقتصاد.

كان صادقاً في توجهاته العامة والخاصة، وكان خطابه متسقاً في المجال العام والخاص، لم يعرف الازدواجية أو المواربة والمجاراة، بل كان يجهر دائماً بما يراه ويؤمن بأنه الصحيح والعادل. قد تختلف معه في بعض الأحيان ولكنك لا تملك إلا احترام وتقدير رأيه لأنه باختصار صادق ومقتنع به.

ترك بصماته فى كافة المواقع التي شغلها وبالروح والمنهاجية والقيم ذاتها، إن في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، أو في الهيئة العامة للاستعلامات، أو في مؤسسة الأهرام. هذه الروح والقيم التي حكمت أداءه لم تتجزأ ولم تتلون؛ الحرص على العمل وقيمته كمعيار للتقييم والأداء والحفاظ على المال العام وتحقيق العدل والمساواة في ظل معايير واحدة تحكم أداءه باختلاف الظروف والمؤسسات التي شغل فيها مواقع قيادية.

أما على الصعيد الخاص، فإن صداقتي للدكتور طه تفوق نصف قرن، من الجامعة وما بعدها في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، التقينا ثم افترقنا، ثم تجمعنا تارة أخرى وكأننا دائماً على موعد. عندما عُدتُ من باريس بعد انتهاء رحلتي، كان يعرف بحكمته وذكائه أنى أعانى من "متلازمة باريس" العكسية أى الحنين إلى العودة إليها. جمعني برفيقة حياتي وكأنه كتب لي وصفة العلاج والاستقرار، لقبته أسرتي الصغيرة بـ"الأب الروحي" وهو ما يستحق عن جدارة.

صدمني رحيلُك أيها الصديق العزيز، ضاعف وحدتي رغم أننا لم نكن نلتقي كثيراً، إلا أن وجودك كان مصدراً للأمان والطمأنينة. كنت رمزاً لجيلنا جيل السبعينيات بكل ما له وما عليه، بكل ما يختلج بين جوانحه من آمال وآلام وطموحات لوطنه، ذكراك الطيبة ودفاعك الباسل عن المبادئ والقيم التي كنت تراها طريق الإصلاح والنهضة وآرائك التي كتبتها بعقلك وقلبك معاً، ستبقى خالدة في أذهاننا ونفوس محبيك حتى نلحق بك وتتوقف خطواتنا التي مشيناها وكتبت علينا. ويبقى أن أقول أن الذين يبحثون عن المثال في عالم يتعرض لانهيار المثل وأنت واحد منهم باقون في ضمير أمتهم، جعل الله مثواك الجنة وتقبلك بين الصالحين والقديسين وإنا لله وإنا إليه راجعون، وداعاً أيها الفارس الهمام والقديم، وكان الله في عون رفيقة دربك السيدة عفاف وأحفادها والأسرة.


رابط دائم: