ثمة مؤشرات متتالية تعبر عن تصاعد دور الإغاثة الإنسانية في سياسة مصر الخارجية، خلال الأعوام الماضية، بل صارت الإغاثة والإعمار مكوناً رئيسياً في تحركها للتوصل إلى إيقاف عجلة الحروب والاقتراب من تسويات سياسية أو الحد من تأثيراتها الانتشارية ولاسيما في بؤر الصراعات المحيطة بخطوط حدودها الاستراتيجية في غزة وليبيا والسودان واليمن، فضلاً عن نجدة الشعوب المنكوبة في مناطق وأقاليم جغرافية بعيدة نسبياً عنها، على نحو ما جرى بالنسبة للمعاناة من كوارث طبيعية كالزلازل والفيضانات أو تجاوز حدة أمراض وبائية مثل كوفيد-19. وأيضاً المشاركة في مؤتمرات من شأنها دعم الاستجابة والإغاثة الإنسانية.
وفي هذا السياق، أشار د. بدر عبد العاطى وزير الخارجية والهجرة خلال استقباله السيدة كيت فوربس رئيسة الاتحاد الدولي لجمعيات الهلال والصليب الأحمر وذلك يوم 10 مارس 2025، إلى إمكانية أن تصبح مصر مركزاً إقليمياً لإدارة عمليات المنظمات الدولية العاملة في مجال الإغاثة والمساعدات الإنسانية بعد تنامي دور مصر في تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية في مناطق متعددة وتحديداً في غزة والسودان ولبنان وسوريا، فضلاً عن الجهود التي بذلتها مصر لاستقبال أعداد غفيرة من اللاجئين والمهاجرين وتقديم كافة الخدمات والتيسيرات لهم واندماجهم بالمجتمع المصري.
ويمكن القول إن هناك عدداً من العوامل المفسرة لتحول مصر إلى مركز إقليمي لإدارة عمليات الإغاثة الدولية، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تعاظم اتجاه الأنسنة في تحركات مؤسسات الدولة المصرية: إن واحداً من المحركات الرئيسية لاستضافة مصر المركز الإقليمي لإدارة عمليات الإغاثة الدولية مرتبط بالنسق العقيدي الحاكم للقيادة السياسية وكذلك إطار عمل مؤسسات الدولة المصرية (وزارة الخارجية ووزارة الصحة والقوات المسلحة) حيث تتم الإشارة إلى التأكيد على التمسك بمبادئ وقيم الإنسانية والتضامن بين الشعوب والالتزامات الأخلاقية لمصر في التعامل مع تحديات ضاغطة وأزمات مفاجئة تترك تأثيرات إنسانية، وبما يجعل هدف مصر التقليل من الخسائر والأضرار التي تتعرض لها الدول والمجتمعات. بعبارة أخرى، يعتبر توجه "أنسنة السياسة" بديلاً لخيار "سياسات القوة" في التفاعلات الإقليمية.
وقد برز ذلك جلياً خلال انتشار كوفيد- 19 في عامي 2020 و2021، حيث أرسلت مصر شحنات المستلزمات الطبية والمواد التطهيرية والبدل الواقية للأطقم الطبية والتمريضية لكل من الصين وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت نفسه الذي يتم إرسال مساعدات للسودان واليمن والعراق وعدد من الدول الأفريقية التي كانت تعاني من تفشي كوفيد-19 وذلك في إطار مساهمة مصر في الصندوق الإفريقي للاستجابة لجائحة "كوفيد-19" التابع للاتحاد الأفريقي.
كما عملت مصر على الحد من تأثير الكوارث الطبيعية مثل السيول والفيضانات، وهو ما تجسد في إرسالها خلال يومي 14 و20 أغسطس 2020، شحنات من المستلزمات الطبية والأغذية وألبان الأطفال تضامناً مع الشعب السوداني في ظل حادثة السيول والفيضانات التي اجتاحت السودان، خلال شهري أغسطس وسبتمبر من العام المذكور، لدرجة أنه تم إعلان السودان "منطقة كوارث طبيعية" لمدة ثلاثة أشهر بعد تأثر أكثر من نصف مليون شخص وعشرات الآلاف من المنازل، إلى جانب أضرار جسيمة في المرافق الخدمية.
وفي هذا السياق، أعلن العميد تامر الرفاعي، المتحدث الرسمي السابق للقوات المسلحة، في 7 سبتمبر 2020، إنشاء جسر جوي لإرسال مساعدات عاجلة، من المواد الغذائية والمستلزمات الطبية والأدوية، لمتضرري السيول بالسودان. وقد جاء ذلك بعد ارتفاع كبير في منسوب مياه النيل، لم يشهده منذ أكثر من قرن، وهو ما أدى إلى اشتداد حدة تأثير الفيضانات في السودان، وما نتج عنها من غرق مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، في ولايات شمال كردفان والخرطوم والجزيرة والقضارف وسنار، بخلاف الخسائر البشرية. وكذلك تم تقديم المساعدات نفسها علاوة على الخيام المقاومة للأمطار، لرفع العبء عن كاهل شعب جنوب السودان.
2- مركزية الروابط القومية العروبية في الدبلوماسية المصرية: وعبرت عن ذلك الأدوار التي تقوم بها الدولة المصرية لتخفيف معاناة الفلسطينيين وخاصة القاطنين في قطاع غزة بعد حرب غزة الخامسة. كما برز ذلك العامل جلياً في بيان القوات المسلحة المصرية لدعم الحكومة اليمنية الشرعية الصادر بتاريخ 26 يوليو 2020 والذي أوضح أن المساعدات تأتي "انطلاقاً من الروابط القومية وموقف مصر الثابت تجاه أشقائها من الدول العربية والتضامن والتعاون الكامل معها من أجل مواجهة المحن والأزمات". وكذلك الحال بالنسبة للمساعدات الطبية التي تم إرسالها للعراق في 5 سبتمبر 2020، حيث أكد د.أحمد نايف الدليمي سفير العراق بمصر مدى أهمية تلك المساعدات في مساعدة قطاع الصحة العراقي في مجابهة انتشار كوفيد-19، مشيداً بالجهود المبذولة من مصر، والوقوف بجانبها في أوقات المحن والأزمات.
3- تعزيز النفوذ في مناطق ذات تأثير على المصالح الوطنية: وهو ما ينطبق على مساعدات مصر الموجهة لعدد من الدول الأفريقية بعد حدوث فجوة في العلاقات المصرية-الأفريقية خلال النصف الثاني من حقبة الرئيس الأسبق حسني مبارك. وتسهم تلك المساعدات، إلى حد كبير، في بناء جسور الثقة، مع العديد من الدول الأفريقية، وهو ما يدحض السرديات التي تروجها بعض الأصوات داخل تلك الدول في الآونة الأخيرة من أن مصر تقف عائقاً ضد مصالح وتنمية دول الجوار. وقد عبر عن هذا التوجه جلياً بيان العميد تامر الرفاعي المتحدث الرسمي السابق للقوات المسلحة بشأن إرسال مساعدات مصرية لجنوب السودان على صفحته على "الفيس بوك" بتاريخ 7 سبتمبر 2020 قائلاً إن هذه المساعدات "تأتي تأكيداً لدور مصر الرائد تجاه الأشقاء الأفارقة، وترسيخاً لعلاقات التعاون والروابط التاريخية التي تجمع مصر بدول القارة السمراء".
4- تدعيم شبكة من العلاقات الخارجية: من المرجح أن تكون المساعدات الطبية والمواد الإغاثية دافعاً لتوطيد العلاقات بين الدولة المرسلة للمساعدات والدول المستقبلة. وهكذا، يمكن أن يؤدي ذلك إلى توثيق العلاقات مع دول عديدة في مناطق مختلفة. ولا يقتصر ذلك على الدول بل على الفاعلين من غير الدول وخاصة في مجال الإغاثة الإنسانية، إذ أكد وزير الخارجية المصري د.بدر عبد العاطى في تصريحات بتاريخ 10 مارس 2025 الحرص على مواصلة التعاون المثمر مع الاتحاد الدولي لجمعيات الهلال والصليب الأحمر ودعم مهمة الاتحاد باعتباره أكبر شبكة للمنظمات الإنسانية تجمع ما يزيد عن 190 جمعية وطنية في أنحاء العالم، مع تغير النظرة لدور الفاعل غير الرسمي.
5- تنفيذ متدرج للخطة العربية لإعمار غزة: نظراً لأن إعمار غزة يحتاج إلى مصادر تمويلية متعددة وبالتالي شبكة علاقات واسعة مع جهات مختلفة لاسيما بعد اعتماد القمة العربية للخطة المصرية للتعافي المبكر وإعادة إعمار غزة في مرحلة ما بعد سكوت المدافع، أكد د.بدر عبدالعاطي خلال استقباله كيت فوربس على أهمية تضافر جهود كافة الجمعيات الوطنية التابعة للاتحاد الدولي لتنفيذ الخطة بما في ذلك مرحلة التعافي المبكر، وهو ما يعكس حرص مصر على توظيف موقعها كمركز إقليمي لعمليات الإغاثة والمساعدات الدولية على نحو يسهم في اتجاه إعادة إعمار غزة في مدى زمني يقترب من خمس سنوات.
6- احتضان مصر مجموعات كبيرة من اللاجئين: على الرغم من وجود مجموعات كبيرة من اللاجئين القادمين من فلسطين وليبيا والسودان وجنوب السودان والصومال وسوريا وغيرهم من الجنسيات المختلفة، إلا أن مصر لم توظف ذلك بشكل سياسي وبما يتيح لها الحصول على موارد مالية من الدول والتكتلات الإقليمية نظير إقامتهم، مقارنة بقوى إقليمية أخرى تمارس الابتزاز المالي في هذا الملف. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه في 5 مارس 2025 وقّع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية ومنظمة الصحة العالمية في مصر اتفاقية تعاون مشترك؛ لدعم المرضى السودانيين في مصر النازحين من الحرب في السودان ويعانون من القصور الكلوي، بقيمة إجمالية تبلغ 3 ملايين و618 ألف دولار، يستفيد منها أكثر من 1000 فرد.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى ما قاله ممثل منظمة الصحة العالمية في مصر د.نعمة عابد: "تسببت الحرب في السودان في أكبر أزمة نزوح في العالم، حيث استقبلت مصر أكبر عدد من النازحين السودانيين، وأصبحت الجنسية السودانية الأكثر انتشاراً بين الوافدين. وتتبع مصر سياسة عدم إقامة المخيمات، ولها سجل حافل في توفير الخدمات الأساسية للاجئين على قدم المساواة مع المصريين، مما يشكل ضغطاً متزايداً على الموارد المحلية. وفي ظل الأزمات العالمية المتفاقمة، يصبح التضامن الدولي وتقاسم المسئولية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. لذا، نشكر الحكومة المصرية والحكومة السعودية على هذا التعاون لرفع المعاناة عن المتضررين ونحن ممتنون للدعم السخي من مركز الملك سلمان للإغاثة، والذي سيمكن منظمة الصحة العالمية من مواصلة دعم الحكومة المصرية في تقديم خدمات صحية منقذة للحياة للنازحين السودانيين في مصر، الذين هم في أمسّ الحاجة إليها".
خلاصة القول، إن الهدف من أن تصبح مصر مركزاً إقليمياً لعمليات الإغاثة الإنسانية الدولية هو تكاتف المجتمع الدولي لضمان نفاذ المساعدات الإنسانية العاجلة بشكل فوري ومستدام في بؤر الصراعات وتنفيذ خطط للتعافي المبكر على نحو ما هو قائم في قطاع غزة من خلال تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية من غذاء وماء ومأوى وصرف صحي ورعاية صحية للسكان، فضلاً عن إعادة تأهيل البنية التحتية، بما في ذلك إصلاح الطرق والمباني العامة والشبكات الكهربائية وشبكات المياه، والحد من الأزمات التي يواجهها اللاجئون من دول عربية في بعض دول الاستقبال، مع الحرص على الاستفادة من العلاقة بالاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للتأهب للأزمات المستقبلية.