تعد دعوة الزعيم التاريخى لحزب العمال الكردستانى "التركى" عبد الله أوجلان بحل هياكل الحزب وإلقاء السلاح، والانخراط في عملية سياسية لتأكيد التآخى الكردى التركى، وبناء هيكلية جديدة للمجتمع في تركيا، تقوم على المجانسة بين الأطر التعددية بصورة طوعية وليست قسرية، تعد دعوة تاريخية من حيث المضمون والتأثير، بشرط أن تتحول الى واقع يقبله المجتمع السياسى التركى، مدعوماً بقوانين ملزمة.
فالرجل أسس دعوته على فهم ذاتى، رغم عزلته في سجن مشدد طيلة 26 عاماً، للتحولات الجارية في تركيا وفيما حولها، وفهم للأطر النظرية التي تعالج المشكلات والأزمات التاريخية الكبرى، وما تمثله من تغييرات حادة للمجتمع والدولة، يتطلب التعامل معها بروح وأدوات وسياسات مختلفة لم تعد ذات صلة بمجريات الأحداث. وليس بالضرورة أن تجد هذه التنظيرات الفكرية قبولاً وتفهماً من كل الأطراف، في داخل تركيا أو في محيطها الإقليمي الأوسع، ولكنها ألقت بشكل أو بآخر بحجر كبير في بحيرة العلاقة التركية الكردية التي تكلست لزمن طويل، وفق مفاهيم المواجهة لدى حزب العمال وأنصاره، ويقابلها الرفض والاجتثاث لدى أنصار القومية التركية المتطرفة والمتغلغلة لدى قطاعات عريضة من المجتمع التركى ومؤسساته الرسمية.
ومن المهم هنا الإشارة إلى الترحيب الضمنى الذى عبر عنه الرئيس رجب طيب أردوغان لتلك الدعوة، باعتبارها "خطوة نحو تخلص تركيا من الإرهاب وجانبه المظلم في مستقبل البلاد، وفرصة تاريخية لا ينبغي التضحية بها من أجل بعض الحسابات"
دعوة أوجلان التى أذيعت يوم 25 فبراير 2025، وحملت عنوان "دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي"، تعد نتاجاً لمبادرة زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، أكتوبر 2024، الحليف الأبرز لحزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان، حين صافح نواب حزب المساواة والديمقراطية الكردي "DEM"، ودعوة حزب العمال الكردستاني لإلقاء السلاح، ودعوة أوجلان للحضور إلى البرلمان مقابل الاستفادة من "حق الأمل" أي العفو عنه، وهى الدعوة التي سمحت لحزب المساواة والديمقراطية بالتواصل مع أوجلان في محبسه، والذى بدوره عبر عن قدرته على تحويل الصراع من ساحات القتال والعنف إلى ساحات السياسة والقضاء. كما حمل أعضاء الحزب رسائل بالمضمون ذاته إلى قادة أكراد في كردستان العراق، وآخرين في حزب العمال الكردستانى، الأمر الذى دفع حزب المساوة والديمقراطية خلال مؤتمره العام 12 فبراير 2025 إلى إطلاق رؤية كلية تسهم في حل القضية الكردية، شملت أربعة محاور وهي: إنهاء سياسة العزل ورفع العزلة عن عبد الله أوجلان، وعقد اجتماعي جديد ديمقراطي والاعتراف بحقوق الكرد، والعيش المشترك على أساس المساواة دون تمييز، والتخلي عن سياسات الحرب واعتماد لغة الحوار.
صياغة رفيعة ومضمون ثقيل
بالعودة إلى دعوة أوجلان، يمكن القول إنها صيغت بعناية من حيث اللغة والمضمون، ومن ثم جاءت مُحملة برسائل لكل الأطراف المعنية في داخل تركيا وخارجها، فإلى جانب دعوة حزب العمال الكردستانى الذى أسسه قبل أربعة عقود إلى إلقاء السلاح، وأن يَحُل نفسه بعد أن يعقد مؤتمره العام، وأن يتخذ الخطوات اللازمة للاندماج في الدولة والمجتمع، يشير أوجلان إلى قضية مهمة تتعلق بجوهر العلاقة التركية الكردية، إذ يرى أنه لأكثر من ألف عام تم تعريف العلاقات التركية والكردية من حيث التعاون والتحالف المتبادل، لكن تم كسر هذا التحالف خلال الـ200 عاماً الماضية من قبل ما وصفه بـ"الحداثة الرأسمالية"، الأمر الذى يستدعى من وجهة نظره إعادة تحديد مهمة رئيسية جديدة لتركيا جديدة "هي إعادة هيكلة العلاقة التاريخية التي أصبحت هشّة للغاية" وبالتالي تصبح "الحاجة إلى مجتمع ديمقراطي أمراً لا مفرّ منه"، مُشيراً إلى أن "حزب العمال الكردستاني وجد قاعدة اجتماعية ودعماً، كان مُستوحى في المقام الأول من حقيقة أن القنوات السياسية الديمقراطية كانت مغلقة"، وهنا تبدو الرسالة الأولى، وهى موجهة بالأساس إلى مؤسسات الدولة التركية بكاملها، ذلك أن إغلاق القنوات السياسية والديمقراطية كان السبب الرئيس في أن يجد الحزب قاعدة اجتماعية قدمت له كل الدعم ليبقى طوال هذه السنوات بالرغم من التضحيات الجسيمة التي تعرض لها الحزب والمجتمع التركى معاً. وبمفهوم المخالفة، فإن فتح تلك القنوات السياسية سيؤدى إلى تغيير منهجية الحزب والمجتمع التركى ككل، وبناء حالة ديمقراطية سلمية يندمج فيها الجميع، يعنى لاحقاً تغيير هيكلية المجتمع التركى ككل، وشمولاً وتضميناً لكل أطرافه ومكوناته.
مضامين فكرية مهمة
من المهم هنا فهم المضامين الفكرية التي انتهى إليها أوجلان طوال مدة حبسه. فالسلاح لم يؤدى إلى نتيجة، سواء للحزب أو للدولة التركية نفسها. كانت المهمة الرئيسية التي بُنى على أساسها حزب العمال الكردستانى في العام 1978، أن يكون طليعة لبناء دولة كردستان الكبرى، لكل الأكراد في الدول التي يعيشون فيها. كانت الخلفية الماركسية اللينينية لهذه الفكرة عنصراً رئيسياً، وذلك بتأثير المناخ الدولى والاستقطاب الحاد الذى كان قائماً آنذاك بين القطبين السوفيتى والغربى الرأسمالى. وهكذا نظر أوجلان ورفاقه في ذلك الوقت إلى أنهم يمثلون القناعات اليسارية في مواجهة الارتباطات الرأسمالية التي تمثلها تركيا بعضويتها في حلف الناتو وتماثلها مع السياسات الغربية.
الكفاح المسلح كان الأسلوب الذى بُنى عليه الحزب، فكراً وتنظيماً، واستمر لسنوات دون أن يحقق أي خطوة تجاه التمسك بأرض يعيش عليها الأكراد لتكون قاعدة الدولة الكردية المنشودة، وتنال اعترافاً دولياً، وقبل ذلك أن تنال اعترافاً إقليمياً من الدول التي تعيش فيها كتل كردية كبيرة كسوريا والعراق وإيران، وهم الذين يشتركون مع الدولة التركية فى الرفض الجازم لأى صيغة لاستقلال الأكراد، والانسلاخ عن الدول التي يعيشون فيها. فارق القوة العسكرية بين الحزب والدولة التركية حسم المواجهة لصالح فشل الفكرة.
فشل مسعى قيام الدولة الكردية ولو في أجزاء من تركيا حيث يتركز العدد الأكبر من الأكراد لاسيما في جنوب البلاد، دفع أوجلان ومن ثم الحزب إلى طرح مفهوم آخر، كحل للمشكلة الكردية، على الأقل في تركيا، تمثل في الدعوة إلى بناء فيدراليات ذات مضمون عرقى، يُمارس فيها الأكراد سلطات موسعة في أماكن تواجدهم، ويكون فيها المركز محدود السلطات والصلاحيات. وهى الصيغة التي طُبق جانب كبير منها في العراق بعد الغزو الأمريكي البريطاني في مارس 2003، حيث أصبح لأكراد كردستان العراق بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين إقليم ذى صلاحيات محددة دستورياً في ظل فيدرالية عراقية.
خصوصية الحالة التركية من حيث ثبات الدولة وانتفاء أي احتمال لتعرضها لغزو خارجى كالحالة العراقية، بحيث يدفع إلى تغيير نظامها السياسى كما هو الحال في العراق، حسم المواجهة للمرة الثانية لصالح فشل دعوة بناء فيدراليات عرقية في الدولة التركية.
لم يعد سوى البحث عن مسار سياسى يسمح بعلاقة جديدة بين الأكراد وتحديداً حزب العمال الكردستانى وبين الدولة التركية، وفقاً لدعوة أوجلان، تتمثل فى استعادة التآخى التركى الكردى، الذي يستند على آليات ديمقراطية وسلمية، والتخلى التام عن لغة التراشق بالسلاح من طرفى المواجهة. الأمران معاً يؤديان إلى تغيير آليات السياسة التركية تغييراً شاملاً، بداية من التوقف عن مطاردة الرموز الكردية، والعفو العام عن أعضاء الحزب بعد حل نفسه، وإفساح المجال الحر للأحزاب التركية التي تمثل الأكراد للحركة السياسية الطبيعية دون مضايقات ودون حبس للحرية. والأهم في تلك الصيغة أن يتخلى القوميون الأتراك عن نبذ حقوق الأكراد السياسية والثقافية، ووقف الدعاية السوداء ضدهم، وتهيئة المجتمع التركى لقبول تلك التغييرات الكبرى، والتي من شأنها أن تُعيد هيكلة المجتمع التركى بلا إرهاب وفقاً لما ينادى به الرئيس أردوغان، أو مواجهات عسكرية في داخل تركيا أو في أراضى دول الجوار التي تحتضن كتلاً كردية كبيرة، لا شأن لها بالداخل التركى.
ما سبق يتضمن أمرين مهميْن؛ أولاً أن دعوة أوجلان لا تعنى حزب العمال الكردستانى فقط، بل تعنى الدولة التركية ككل. وثانياً أن الآليات التي سوف تُتخذ لتحويل الدعوة إلى واقع ملموس تتطلب ترجمة قانونية تحت مظلة البرلمان التركى. والأمران معاً يوضحان حجم التغير المطلوب سياسياً ودعائياً ونفسياً وقانونياً.
ردود الفعل وشروط التطبيق
في أول ردود فعل من جانب حزب العمال الكردستانى، أعلنت اللجنة التنفيذية للحزب قبولها دعوة "العم الكبير"، أو "آبو"، من أجل السلام والديمقراطية، وأبدت قبول تنفيذها والاستعداد لإلقاء السلاح وحل الحزب، وكخطوة لإبداء حسن النية أعلن الحزب وقفاً فورياً لإطلاق النار، والالتزام بالدفاع عن النفس في حال تعرضه لأى هجوم.
ولكى تتحول دعوة العم الكبير إلى واقع، طالب الحزب بعدة شروط وصفها بالضمانات، تتمثل في بناء مناخ ديمقراطي، يتيح بناء التآخي الوارد في رسالة "العم الكبير"، يستند إلى "أرضية قانونية أيضاً لضمان النجاح". ويرى الحزب أن إطلاق سراح أوجلان المحتجز منذ العام 1999 سيعد خطوة إيجابية، كى "تتسنى له قيادة عملية نزع السلاح"، وعملية حل الحزب لنفسه، باعتباره الأقدر على ذلك. مع التأكيد على أن هذه العملية التاريخية التي ستعيد بلورة حقائق جديدة في تركيا وفى الشرق الأوسط ككل، و"تطوير الحياة الحرة والحكم الديمقراطى في جميع أنحاء العالم" هي مسئولية كل الأطراف وليس طرفاً بذاته.
ويتضح من موقف اللجنة التنفيذية لحزب العمال الكردستانى أن ثمة إدراكاً ووعياً بخطورة عملية حل الحزب، ما لم تكن هناك عملية متكاملة لحصول الأكراد على حقوق سياسية كمواطنين بلا مضايقات أو قيود، ولذا تأتى الدعوة بأن يقود أوجلان بعد تحريره من محبسه تلك العملية الحساسة باعتباره صاحب المكانة والزعامة الفكرية والسياسية، وأنه الأقدر على إدارة فترة السلام والمجتمع الديمقراطى. وذلك بالرغم من حبسه وعزله أكثر من ربع قرن، ولا يماثله في ذلك سوى نيلسون مانديلا، زعيم الحركة الوطنية في جنوب أفريقيا، والذى من محبسه طوال 26 عاماً، وبعد تحرره، قاد عملية تحرر البلاد من نظام الفصل العنصرى، وبناء ديمقراطية أعطت لأصحاب البلد الأصليين حقوقهم كاملة.
التغيير المطلوب.. خطواته وعقباته
من المهم التذكير بأن حزب العمال الكردستانى مُصنف في كل من تركيا والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة ودول أخرى باعتباره منظمة إرهابية، وهو تصنيف سيتطلب إعادة نظر على الأقل في تركيا كخطوة رئيسية لاستكمال متطلبات الحوار مع الحزب بعد أن يحل نفسه، وهنا يتأكد أن مثل هذه التصنيفات لا تقف عقبة أمام أى تواصل وتفاوض مع تلك المنظمات إذا اقتضت مصلحة الدولة ذلك.
إلغاء التصنيف كمنظمة إرهابية سيُعد مؤشراً مهماً في عملية بناء مجتمع التآخى المتجانس والديمقراطى. وبالقطع فهى عملية لها حساباتها السياسية والأمنية والقانونية، وتتطلب مفاوضات وتوافقات على الصيغة والمخرج القانوني. ويُعد تدخل البرلمان أساسياً لنفى صفة الإرهاب عن الحزب.
والإشكالية العملية هنا تتعلق بتوقيت اتخاذ هذا القرار، وصلته بعملية حل الحزب، والذى هو أيضاً عملية ذات خصوصية، فقرار الحل يتطلب أن يكون من قبل مؤسسات الحزب نفسه ومن جمعيته العمومية، والسؤال أين سيُسمح لهذه الجمعية العمومية بالانعقاد، داخل تركيا أم خارجها، ويرتبط بذلك الضمانات التي تتخذها الدولة التركية لانعقاد تلك الجمعية العمومية لحزب موصوف بالإرهاب، ويلى ذلك طبيعة الحركة السياسية التي سوف يُسمح بها لأعضاء الحزب بعد حله، هل بإنشاء حزب شرعى أم بالانضمام إلى أحد الأحزاب القائمة بالفعل وتعبر عن مصالح الأكراد. وفى كل الأحوال، سيكون هناك مفاوضات صعبة، كما سيكون ضرورياً إصدار قوانين من قبل البرلمان التركى تعطى الشرعية القانونية لمخرجات تلك المفاوضات، وإحداث تعديلات كبرى في القرارات التنفيذية، وربما يتطلب ذلك تغييراً في بعض بنود الدستور التركى.
نحو تركيا جديدة
وضعاً في الاعتبار كل المتغيرات السابق الإشارة إليها، فنحن أمام تركيا جديدة إذا سارت عملية التغيير إلى نهايتها المأمولة. كما أن نجاح تلك العملية سيتطلب تغييراً في مواقف القوى الدولية التي انحازت للدولة التركية في صراعها مع حزب العمال الكردستانى في العقود الأربعة الماضية، كما سيتطلب تغييراً في موقف بعض الدول الأوروبية التي ناصرت حزب العمال الكردستانى أثناء مرحلة الصراع المسلح، ما سوف يسمح حال حدوث هذا التغيير الكبير بمحاصرة أسباب الخلافات التي ثارت كثيراً بين الدولة التركية وتلك الدول الأوروبية، والتي اتهمتها تركيا بمناصرة الإرهاب على حساب أمن تركيا ووحدتها.
المهم في هذا التغيير المنشود أن يسود السلام في الداخل التركى، وتنتفى الدعاية القومية التركية الفظة ضد الأكراد كعرقية، وأن يسود الشعور بالمساواة والقبول المتبادل بين الجميع، وأن تعكس تلك التطورات نفسها على سياسة تركيا الخارجية، تتخلص فيه من نزعة التدخل العسكرى وبناء النفوذ بالقوة المسلحة.
الأمر ليس يسيراً ولكنه يستحق بذل الجهود والمثابرة وصولاً لمجتمع التآخى والمساواة والديمقراطية.