صعود اليمين: كيف تسعى تركيا لتعزيز انضمامها للاتحاد الأوروبي؟
2025-2-28

كرم سعيد
* باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

 

رغم كل العقبات التي حالت دون انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي على مدار العقود الماضية، إلا أنها ما زالت تبذل جهوداً حثيثة من أجل تحقيق هذا الهدف، الذي يمكن أن يفرض تداعيات استراتيجية عديدة سواء على السياسة التركية أو على موقعها في التوازنات الإقليمية والدولية. ومن هنا، تحرص تركيا على توظيف التطورات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية في الفترة الأخيرة من أجل تعزيز فرص انضمامها إلى الاتحاد، حيث بدأت تمارس ضغوطاً من أجل وضع هذا الملف على قمة أجندة الاتحاد خلال المرحلة القادمة.

توظيف التطورات

يرتبط التحرك التركي لجهة تعزيز فرص الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي بالرغبة في توظيف التطورات الإقليمية والدولية التي انعكست بشكل مباشر على الاتحاد الأوروبي، وإظهار دور أنقرة في تحييد تأثيراتها على التكتل، ويتمثل أبرزها فيما يلي:

1- صعود اليمين المتطرف: أسفرت الانتخابات التي أجريت في العديد من الدول الأوروبية خلال العامين الماضيين عن صعود التيار اليميني المتطرف إلى صدارة المشهد. فإلى جانب صعود حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي يمثل اليمين المتشدد، إلى صدارة الساحة السياسية الألمانية، بعد حصوله على نحو 20.8 في المئة من الأصوات، ليصبح القوة السياسية الثانية في البلاد، حصل تيار أقصى اليمين والمعروف باسم التجمع الوطني على جانب معتبر من مقاعد الجمعية الوطنية الفرنسية في الانتخابات التي عقدت في يونيو 2024. كما أسفرت الانتخابات العامة الهولندية، التي أجريت في نوفمبر 2023، عن فوز حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز، والذي استحوذ على أكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب بالإضافة إلى تصدر حزب إخوة إيطاليا اليميني المتطرف، الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، نتائج الانتخابات الأوروبية التي أجريت في يونيو 2024.

وفي رؤية تركيا، فإن هذه النتائج تُعد واحدة من التحولات السياسية الأوروبية الأكثر أهمية في السنوات الأخيرة؛ والتي قد تنعكس سلباً على المصالح الأوروبية. وبالتالي تحاول تركيا تصدير صورة مفادها أن انضمامها للاتحاد سوف يفرض تداعيات إيجابية على الأخير، إذ أن صعود الأحزاب القومية المتطرفة يشكل تهديداً حقيقياً لمستقبل الاتحاد، خاصة أن العديد من هذه الأحزاب تعارض فكرة التكامل الأوروبي، وترغب في الانسحاب من الاتحاد أو تقليص صلاحياته.

وقد بدا حرص تركيا على توظيف ذلك جلياً في تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 24 فبراير 2025، والتي قال فيها أن "تركيا تمثل المنقذ في التوقيت الحالي لأوروبا من صعود موجات التطرف"، وأضاف: "كما رأينا في الانتخابات الأخيرة، فإن الديماجوجيين اليمينيين المتطرفين يملأون الفراغ الذي نشأ في الديمقراطيات الأوروبية"، وتابع: "الديمقراطية الليبرالية التي كانت تمثل الأيديولوجية الأكثر جاذبية في القرن الماضي دخلت في أزمة خطيرة وفقدت قوتها وسمعتها ونفوذها السابق، بعد أن كان يُنظر إليها في وقت ما على أنها الدواء الشافي لجميع المشاكل".

2- الارتدادات المباشرة للأزمات الإقليمية: ترى أنقرة أن الأزمات الإقليمية الأخيرة، وأهمها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان بالإضافة إلى انهيار النظام السوري، وصعود الجماعات الموالية لتركيا، قد تدفع بالاتحاد الأوروبي لإعادة التفكير في موقفه تجاه أنقرة، ومحاولة توسيع نطاق التعاون مع الأخيرة لتقليص التداعيات التي فرضتها هذه الأزمات على المصالح الأوروبية.

وعلى ضوء ذلك، ربما تسعى تركيا إلى استثمار هذه التطورات لإقناع التكتل بأهمية احتواء الخلافات العالقة والتي حالت دون انضمامها إليه في المرحلة الماضية. ومن هنا، يمكن فهم تحرك تركيا لممارسة دور الوسيط في تسوية الحرب على غزة ولبنان، إلى جانب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فضلاً عن تأكيد أنقرة على الالتزام بالحفاظ على المصالح الأوروبية في سوريا بعد إسقاط نظام الأسد.

3- تفاقم الخلافات الأوروبية مع إدارة ترامب: شهدت الآونة الأخيرة توترات غير مسبوقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب تعمد إدارة الرئيس دونالد ترامب تبني مقاربة خاصة لتسوية الأزمة الأوكرانية لا تستوعب بالضرورة المصالح الأوروبية، على نحو بدا واضحاً في اتجاهها، منذ منتصف فبراير 2025، لعقد محادثات مباشرة مع روسيا استبعدت منها الرئيس الأوكراني فيلوديمير زيلينسكي والأوروبيين، بالإضافة إلى رفض وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالدكتاتور، فضلاً عن التباين المتصاعد حول موازنة حلف "الناتو" والتزامات الأطراف المختلفة إزاءه.

وربما تفسر هذه الخلافات رغبة التكتل الأوروبي في إعادة التعويل على الوساطة التركية لتسوية الأزمة الأوكرانية، بالنظر إلى الخبرة السابقة التي كونتها أنقرة في هذا السياق في ظل حرصها على فتح قنوات تواصل مع الطرفين على مدى الفترة التي تلت اندلاع الحرب، حيث نجحت في عام 2022 في إنجاز صفقة الحبوب بين موسكو وكييف بدعم أممي. يضاف إلى ذلك أن المقاربة التي تتبناها تركيا إزاء الأزمة الأوكرانية تتوافق إلى حد كبير مع مقاربة التكتل، إذ ترتكز على إنهاء الحرب بناءً على دعم استقلال أوكرانيا وانسحاب روسيا من كامل أراضيها، وهو ما يمكن أن يعزز من أهمية دور أنقرة داخل الاتحاد باعتبارها فاعلاً دولياً وإقليمياً مؤثراً له دور في تأمين المصالح الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي.

4- التمدد الروسي في دوائر النفوذ الأوروبي: تسعى تركيا إلى استثمار التمدد الروسي في المناطق التي تحظى باهتمام خاص من جانب الاتحاد الأوروبي، وهو ما بدا واضحاً في توسيع نطاق الحضور الروسي في منطقة الساحل والصحراء، خاصة أن ذلك مثل نتيجة مباشرة للفراغ الاستراتيجي الذي فرضه الانسحاب الغربي من تلك المنطقة، على خلفية التوتر الذي تصاعدت حدته بين العديد من الدول الغربية، لا سيما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، ودول الساحل، خاصة التي شهدت انقلابات عسكرية في الأعوام الأخيرة، على غرار بوركينافاسو وتشاد والنيجر. ومن هنا، ووفقاً لرؤية أنقرة، فإن الدول الأوروبية قد تعتبر أن النفوذ التركي في تلك المنطقة يمكن أن يخصم من الحضور الروسي، على نحو يتوافق مع مصالح وحسابات الأولى.

تحديات مستقبلية

رغم مساعى تركيا لاستثمار التخوفات الأوروبية الحالية من التطورات الإقليمية والدولية للضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل إعادة مفاوضات انضمامها له، إلا أن ثمة تحديات ربما تحول دون تحقيق ذلك، ويتمثل أبرزها في:

1- معضلة الشروط الأوروبية: وجه تقرير المفوضية الأوروبية لعام 2024 انتقادات حادة لتركيا، فيما يتعلق بالمعايير السياسية التي تتصل بالأوضاع الحقوقية. كما أشار البرلمان الأوروبي إلى التراجع الديمقراطي في تركيا، وعبر عن القلق بشأن حقوق المرأة، والعنف القائم على النوع الاجتماعي. وعلى ضوء ذلك، لا يزال التكتل الأوروبي يشترط لإعادة الانخراط وتعزيز الروابط مع تركيا، توافر عدد من المعايير الأساسية، وأبرزها الحفاظ على الحريات والقيم الأساسية على النحو المحدد في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

2- التوتر مع قبرص واليونان: تمثل القضايا العالقة مع قبرص واليونان أحد التحديات الرئيسية التي ما زالت تحول دون لحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي، إذ لاتزال الخلافات على أشدها فيما يتعلق برفض قبرص واليونان للتحركات التركية في شرق المتوسط للتنقيب عن الطاقة، بالإضافة إلى استمرار الخلاف المزمن بشأن حل القضية القبرصية. ورغم إعلان زعيمي القبارصة الأتراك واليونانيين في 22 فبراير 2025 اتفاقهما على عقد اجتماع ترعاه الأمم المتحدة في مارس 2025 لكسر الجمود السياسي المستمر منذ سنوات حول القضية القبرصية، إلا أن إصرار تركيا على "حل الدولتين" يظل عائقاً أمام إنهاء الأزمة التي يصطف الاتحاد الأوروبي بشأنها إلى جانب اليونان.

3- تصدير اليمين المتطرف لـ"الإسلاموفوبيا": رغم أن تركيا تحاول توظيف صعود اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية من أجل تعزيز فرص انضمامها للاتحاد، إلا أن ذلك لا ينفي أن هذا الصعود اللافت لليمين المتطرف يمكن أن ينتج تداعيات عكسية. إذ يرجح أن يؤدي إلى إعادة إنتاج أزمة الإسلاموفوبيا في أوروبا، خصوصاً مع توجه التيار اليميني خلال الفترة الماضية نحو تصدير صورة سلبية بشأن ظاهرة تزايد أعداد المسلمين في أوروبا، والتأكيد على أنها أحد الهواجس الأوروبية والغربية المرشحة للتفاقم حال انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

ويبدو أن تركيا تعى أن الهوية الدينية تمثل أحد محفزات التيار اليمني المتطرف لإعاقة لحاقها بالاتحاد، وهو ما تجلى في تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في 24 فبراير 2025 عشية لقائه نظيره الروسي سيرجي لافروف، حيث قال أن "مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي مجمدة بسبب عدم ارتياح الاتحاد لاستقبال دولة مسلمة كبيرة بسبب سياساته التي تقوم على الهوية، لكن لا أحد يقول ذلك صراحة".

4- التوجه التركي شرقاً: لا تبدي تركيا استعداداً لتقليص مستوى علاقاتها القوية مع روسيا، على نحو انعكس في رفضها الانضمام للعقوبات الغربية المفروضة على الأخيرة بسبب الحرب الأوكرانية. بل إنها تقدمت في سبتمبر 2024 بطلب رسمي للانضمام إلى مجموعة "بريكس"، باعتبار أن العضوية ستمنح الشركات التركية وصولاً أسهل إلى الأسواق الناشئة الكبرى.

وفي مقابلة تلفزيوينة في 21 فبراير 2025، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن الرئيس رجب طيب أردوغان "حريص على تعزيز الخيارات الاقتصادية أمام تركيا"، وأضاف أنه "إذا لم نتمكن من أن نكون جزءاً من الاتحاد الأوروبي، فإن البدائل الأخرى تظل دائماً مطروحة على الطاولة"، على نحو لا يتوافق مع سياسات دول الاتحاد في المرحلة الحالية.

ختاماً، يمكن القول إن تركيا ربما تنجح، رغم العقبات القائمة، في الاستفادة من التحولات الاستراتيجية التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية، والارتدادات السلبية التي فرضها صعود اليمين المتطرف في الانتخابات التي أجريت في بعض دول أوروبا، لدفع التكتل نحو إعادة النظر في عضويتها. وعلى ضوء لك، فإن ثمة ثلاثة سيناريوهات محتملة في هذا السياق: يتمثل الأول، في استجابة الاتحاد لطلب تركيا ببدء المفاوضات، وهو مسار ما زال يواجه إشكاليات عديدة في المرحلة الحالية. وينصرف الثاني، إلى محاولة الاتحاد التكيف مع التطورات الجديدة عبر تبني أدوات وآليات غير تقليدية ليست تركيا من ضمنها. ويتعلق الثالث، بمحاولة رفع مستوى التعاون مع تركيا من خلال دعم اتفاقية الاتحاد الجمركي وتوسيع نطاق العلاقات التجارية بالإضافة إلى تخفيف الضغوط الأوروبية على تركيا في القضايا الخلافية، وخاصة التوتر مع اليونان وتحركات أنقرة في شرق المتوسط، دون اتخاذ خطوات إجرائية فيما يتعلق بالانضمام إلى الاتحاد، وهو السيناريو الأرجح خلال المرحلة المقبلة.


رابط دائم: