مع بداية ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 20 يناير 2025، تصاعد الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية وبنما حول قناة بنما، بعد أن أكد الرئيس ترامب، في اليوم الأول لتنصيبه، أنه "يريد استعادة السيطرة على القناة"، وهو ما قوبل برفض واضح من جانب بنما التي اعتبرت أن مجرد التفاوض حول هذا الملف "مستحيل". ومع ذلك، كان لافتاً أن الزيارة الخارجية الأولى لوزير الخارجية الأمريكي الجديد ماركو روبيو كانت إلى بنما، التي وصل إليها في أول فبراير 2025، حيث كان هذا الخلاف محور محادثاته مع المسئولين البنميين، ويتوقع أن يكون أحد الملفات الأساسية في السياسة الخارجية الأمريكية على مدى الفترة القادمة.
القواعد المنظمة
تتشابه القناة البحرية مع المضيق في أن كليهما ممر مائي يصل ما بين بحرين أو محيطين. بيد أن الفارق بينهما أن القناة البحرية هى طريق مائية مصطنعة بقصد تيسير الملاحة، بينما يتكون المضيق بشكل طبيعي. وينعكس هذا الفارق على الأحكام القانونية لكل منهما، فالأصل فى المضيق طالما أنه يصل بين جزأين من أجزاء البحار، حتى ولو كان أحد هذين الجزأين بحراً إقليمياً، أو كان يفصل بين جزأين من إقليم دولة واحدة، خضوعه لأحكام اتفاقية قانون البحار لعام 1982 وتعديلاتها، باستثناء بعض المضايق التي أبُرمت اتفاقيات خاصة إضافية بشأنها مثل اتفاقية مونترو لعام 1936 الخاصة بمضيقي البوسفور والدردنيل بتركيا[1]. بينما القناة البحرية التى تقع بضفتيها في إقليم دولة واحدة، فالأصل فيها أنها تعد جزءاً من إقليم الدولة التي شُقت على أرضها، فتقوم هذه الدولة بمباشرة كافة مظاهر السيادة عليها، بما لا يتعارض مع حرية الملاحة، فتطبق تشريعاتها الوطنية عليها وتمارس السلطات التنفيذية والقضائية اختصاصاتها بالنسبة للسفن الأجنبية العابرة للقناة أو الراسية فيها بنفس الأوضاع المطبقة على السفن الأجنبية الموجودة فى موانئها.
فالأصل العام وفقاً لقواعد القانون الدولي العام، أن تستقل كل دولة من الدول القائمة والمعترف بها دولياً بجزء من إقليم على الكرة الأرضية، تمارس عليه سيادتها ويسوده سلطانها، والذي تختلف معالمه وعناصره وفقاً للطبيعة الجغرافية لذلك الإقليم، فيشمل الإقليم البري والإقليم البحري، والهواء والفضاء اللذين يعلوان عليهما[2]. وقد نُظمت مسألة سيادة الدول على البحار والمحيطات بموجب عدة اتفاقيات قديماً، كان آخرها "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار" عام 1982 والمعُدلة عام 1994، والتي تعتبر الشريعة العامة للدول فيما يتعلق بقانون البحار والمحيطات، وذلك حفاظاً على حقوق السيادة البحرية للدول الساحلية والتنظيم والتوازن بينها وبين حقوق العبور والملاحة الحرة للدول صاحبة السفن العابرة، وكذلك تنظيم استغلال الثروات السمكية والطبيعية في هذه المناطق[3].
وقد أبُرمت هذه الاتفاقية الدولية في ديسمبر 1982، ودخلت حيز التنفيذ عام 1994، وذلك بعد تصديق العدد المطلوب للنصِاب القانوني المنصوص عليه بالاتفاقية، وبلغ عدد الدول التي وقعت وصدقت على الاتفاقية الأصلية 170 دولة، فيما وقعت وصدقت 151 دولة على تعديل المادة 11 من الاتفاقية عام 1994، في حين وقعت 13 دولة على الاتفاقية دون التصديق عليها، ومن ثم لا تعتبر هذه الدول طرفاً في الاتفاقية حتى الآن وأهمها: كوريا الشمالية، إثيوبيا، إيران، الإمارات العربية المتحدة، ليبيا. إضافة إلى ذلك، فقد امتنعت 15 دولة عن التوقيع أو التصديق، وتم اعتبارها أعضاء مراقبين في الاتفاقية وأهمها: إريتريا، سوريا، تركيا، إسرائيل، بيرو، فنزويلا.
وقد وقعت بنما على الاتفاقية عام 1982، وصدقت عليها بعد تعديلها عام 1996، في حين أن الولايات المتحدة وقعت على الاتفاقية عام 1994، ولكن دون التصديق عليها من الكونجرس، على الرغم من أن الولايات المتحدة ساعدت في تشكيل الاتفاقية وتنقيحاتها اللاحقة، إلا أنها لم تصادق عليها حتى الآن لاعتراضها على تعديل المادة 11 من الاتفاقية[4].
وعلى الرغم من وجود حوالي 21 قناة بحرية دولية على مستوى العالم، إلا أن أهم هذه القنوات عالمياً بالترتيب هي قناة السويس، وقناة بنما، وقناة كييل في ألمانيا. ونظراً للأهمية القصوى لهذه القنوات الثلاث، فقد أبُرمت اتفاقيات دولية خاصة بشأن تنظيم العبور والملاحة لكل قناة منها على حدة، دون تطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بوصفها الشريعة العامة، وثمة قواعد عامة تجمع بين هذه الاتفاقيات أهمها، تقرير مبدأ حرية الملاحة فى وقت السلم للسفن التجارية والأساطيل الحربية التابعة لكل دول العالم، أما فى حالة الحرب التى تكون الدولة صاحبة القناة طرفاً فيها فيجوز إغلاق القناة فى وجه السفن التابعة للدول المعادية.
قناة بنما: وضع خاص
تعتبر قناة السويس أولى القنوات البحرية التي تم إبرام تنظيم اتفاقي بشأنها خارج إطار القواعد العامة لقانون البحار الدولي، فقد حصل الفرنسي فرديناند ديليسبس عام 1854 على امتياز حفر القناة من السلطة الشرعية في مصر في ذلك الوقت، وهو الوالي محمد سعيد باشا، إبّان تبعية مصر للدولة العثمانية، وتبعه بعد ذلك بامتياز آخر عام 1856 والذي منح الشركة العالمية التي أسسها ديليسبس لغرض حفر القناة لمدة 99 عاماً، ثم تبعه بامتياز ثالث بعد تولي الخديو إسماعيل السلطة في مصر عام 1863، ثم أصدر السلطان العثماني فرماناً عام 1866 صدق فيه على الامتيازات السابقة بوصفه رأس الدولة العثمانية، كما أكد على سيادة مصر على القناة واحترام حرية الملاحة الدولية فيها، وحصولها على نسبة من الأرباح أثناء فترة الامتياز، وعلى حق مصر في استرداد القناة بعد نهاية مدة الامتياز.
وافتُتحت القناة رسمياً للملاحة عام 1869، وبعد احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، وإصدار عدة دول أوروبية تصريحات بشأن ضرورة صياغة اتفاق دولي لتنظيم الملاحة الدولية في القناة، نتج عن هذا إبرام اتفاقية القسطنطينية عام 1888، والتي تضمنت ثلاث أحكام رئيسية: 1) حرية الملاحة في القناة. 2) حياد القناة. 3) اعتبار القناة جزءاً لا يتجزأ من الإقليم المصري، كذلك حق مصر في أن تتخذ، استثناءً من أحكام المواد 4، و5، و7، و8 من الاتفاقية، التدابير اللازمة التي يضطر السلطان أو الخديو إلى اتخاذها لضمان الدفاع عن مصر وحفظ النظام العام. [5]
وقد أكدت على هذه المبادئ معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، وبعد قيام ثورة يوليو 1952 وإعلان قيام الجمهورية، تم التأكيد على المبادئ ذاتها في اتفاقية جلاء الاحتلال البريطاني عن مصر عام 1954، وبعد تأميم القناة، وفشل العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي المشترك على مصر عام 1956، ونجاح الحكومة المصرية في إدارة القناة وتنظيم عبور السفن، أصدرت الحكومة المصرية تصريح أبريل 1957 والذي نص على احترام مصر لاتفاقية القسطنطينية وكافة الاتفاقيات الأخرى بشأن حرية الملاحة في القناة.[6]
لكن الوضع بالنسبة لقناة بنما تحديداً يكتسب طابعاً خاصاً، حيث إن دولة بنما لم تكن دولة مكتملة الأركان واضحة المعالم، إذ لم تقم بها دولة مركزية موحدة، بل دخلت ضمن أقاليم تابعة لدول أخرى، كما أنها استقلت على مراحل، فمنذ اكتشاف الأمريكتين خضع إقليم بنما لسيطرة إسبانيا، فظهرت أول فكرة لإنشاء القناة عام 1543، تسهيلاً للتجارة البحرية من إسبانيا إلى البيرو وبالعكس، وتحقيقاً لاستفادة عسكرية للأسبان ضد البرتغاليين، إلا أن المشروع لم ينُفذ.
وبعد إعلان الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عام 1823 مبدأ رئاسياً مؤداه أن "الولايات المتحدة لن تسمَح بتكوين مستعمرات جديدة في الأمريكتين، بالإضافة إلى عدم السماح للمستعمرات التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها"[7]، وعلى الرغم أن ذلك المبدأ غير ملزم للحكومة الأمريكية من المنظور الدستوري، بل يعتبر تعبيراً عن السياسة العامة الخارجية بهدف حماية المصالح الأمريكية في نصف الكرة الغربي، إلا أن هذا المبدأ أصبح جزءاً لا يتجزأ من العقيدة السياسية الأمريكية، مؤثراً في تشكيل السياسات الخارجية اللاحقة لإعلانه، إذ تم استخدامه لتبرير التدخلات الأمريكية في شئون الدول الأخرى لاسيما في دول الأمريكتين بوصف تلك الدول "الباحة الخلفية للولايات المتحدة".[8]
وقد كان لمبدأ مونرو أثراً عظيماً على دول الأمريكتين بوجه عام وبنما بوجه خاص، فاستقلت بنما عن إسبانيا عام 1821 وبدلاً من تأسيس دولة مستقلة، اختارت الانضمام لعدة دول أخرى، فانضمت بين عامي (1821-1831) إلى جمهورية كولومبيا الكبرى، (والتي ضمت أقاليم كولومبيا وفنزويلا والإكوادور وأجزاء من البرازيل، وبنما)، ثم انتقلت تبعيتها لدولة جمهورية غرناطة الكبيرة بين عامي (1831-1858)، ثم انضمت إلى جمهورية الاتحاد الكونفدرالي الغرناطي بين عامي (1858-1863)، ثم انتقلت تبعيتها إلى الولايات المتحدة الكولومبية بين عامي (1863-1868)، وأصبحت أخيراً إقليماً من أقاليم جمهورية كولومبيا من عام 1868 وحتى انسحابها منها واستقلالها عام 1903.[9]
ونتيجة لمبدأ مونرو، وقع وزيرا خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا معاهدة (كلايتون- بولوور) عام 1850، وبموجبها تم الاتفاق على إنشاء قناة في أمريكا الوسطى بوجه عام (وكانتا بنما ونيكاراجوا هما الإقليمين المقترحين لشق القناة) تحت رعاية الدولتين معاً، على أن تكون القناة تحت الرقابة المشتركة للدولتين، وأن يكون حياد هذه القناة وسلامتها وأمنها مكفولاً ومضموناً من الدولتين معاً، وأن تمتنع كلتا الدولتين عن احتلال أو استعمار أو ضم أي جزء من أمريكا الوسطى أو أن تكتسب ميزات تنفرد بها ولا تشاركها فيها الدولة الأخرى.
غير أنه ونظراً لنفوذ بريطانيا الواسع في أمريكا الوسطى، واحتلالها لنيكاراجوا، فقد حال ذلك دون تحقيق المساعي الأمريكية، ولهذا لم تحقق المعاهدة الغرض المرجو من عقدها وهو العمل على إنشاء القناة، بل كانت مصدراً للمتاعب بين الدولتين المتعاقدتين وسبباً للاحتكاك السياسي بينهما في البداية، إلا أن الدولتين سرعان ما تفاوضتا على إتمامها بعد ذلك، وأسست لمرحلة جديدة من التعاون بينهما، وكانت الأساس لمفاوضات معاهدات لاحقة.[10]
وبعد نجاح ديليسبس في حفر قناة السويس، حاول تكرار التجربة في بنما، فقام عام 1879 بتأسيس شركة عالمية لهذا الغرض وحصل على التمويل اللازم من فرنسا، وحصل على التراخيص اللازمة من الحكومة الكولومبية (قبل استقلال بنما)، واستمر الحفر بين عامي (1881-1889)، وواجه المشروع تحديات هندسية هائلة، حيث كانت التضاريس الجبلية الوعرة والغابات الكثيفة، فضلاً عن تفشي الأمراض والأوبئة المدارية وتسببها في وفاة آلاف العمال، كما أثيرت مسألة سيادة كولومبيا على القناة وحقوقها في إدارة المشروع، علاوة على ظهور فضيحة مالية كبرى في فرنسا وكولومبيا تورطت فيها الشركة، مما أدى إلى إفلاسها عام 1889.[11]
وقد عمدت الولايات المتحدة إلى التخلص من معاهدة (كليتون- بولوور) فقامت بإلغائها بموجب عدة اتفاقيات، كان أولها اتفاقية (هاي- بونسيفوت) 1901 بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا، وقد تضمنت هذه المعاهدة أحكاماً تكاد تكون مماثلة لأحكام اتفاقية القسطنطينية 1888، وبموجب اتفاقية (هاي- هيران) يناير 1903 بين وزير الخارجية الأمريكي ودبلوماسي كولومبي، قامت الولايات المتحدة باستئجار منطقة قناة بنما من كولومبيا، وفي نوفمبر 1903 دعمت الولايات المتحدة استقلال جمهورية بنما عن كولومبيا، وفي الشهر نفسه أبُرمت اتفاقية (هاي- بونوفاريا) نوفمبر 1903 والتي بموجبها حصلت الولايات المتحدة على مزيد من الأراضي في إقليم بنما حديثة الاستقلال، وتعهدت الولايات المتحدة وحدها باستكمال الحفر في قناة بنما وأن تتحمل وحدها نفقات إنشائها وحمايتها، كما تم الاتفاق على خضوع القناة لحماية ورقابة الولايات المتحدة وحدها، بما في ذلك حق إقامة التحصينات اللازمة التي تتطلبها هذه الحماية وذلك كله مع الاحتفاظ بمبدأ حياد القناة.
وبموجب هذه الاتفاقيات الثلاث تحدد الوضع القانوني لقناة بنما وتبعيتها التامة للولايات المتحدة والتي استحوذت على شركة ديليسبس الفرنسية عام 1904 بعد شراء معداتها الخاصة بالقناة واستأنفت الحفر، مع تعديل التصميم ليشمل نظام الأهوسة بدلاً من تصميم قناة في مستوى سطح البحر، وافتتحت القناة رسمياً للملاحة عام 1914.[12]
وقد كانت القناة منذ افتتاحها بمثابة الشريان الذي يربط الساحل الشرقي للولايات المتحدة بساحلها الغربي، وكذا مقر قيادة القوات البحرية الأمريكية بهاواي والتي أصبحت ولاية أمريكية عام 1959، وهو ما دفع بعض فقهاء القانون الدولي إلى اعتبار أن قناة بنما مشروع أمريكي على أرض بنما، بل وذهب بعضهم إلى أن دولة بنما خُلقت بالأساس لأجل القناة وليس العكس، على حد تعبيرهم.[13]
وقد كان للاتفاقيات التي أبرمتها الولايات المتحدة ومنحتها سيطرة تامة على منطقة القناة، أكبر الأثر في تنامي الشعور باستياء الشعب البنمي، خاصة بعد نجاح مصر في تأميم قناة السويس وإدارتها، فاندلعت احتجاجات عنيفة عام 1964 عندما حاول طلاب بنميون رفع علم بلادهم بجانب العلم الأمريكي بمنطقة القناة، مما أدى إلى تمزيق العلم البنمي واندلاع أعمال عنف، وقيام بنما بقطع علاقتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، لاسيما بعد موافقة الرئيس الأمريكي جون كينيدي عام 1963 قبيل اغتياله على رفع العلم البنمي بجانب الأمريكي في المواقع غير العسكرية بمنطقة القناة، لكن تنفيذ هذا القرار تأخر بسبب اغتياله، مما زاد من التوترات.[14]
وتعد أحداث "يوم الشهداء" نقطة تحول فاصلة في تاريخ بنما، أدت إلى تغييرات دستورية وسياسية جوهرية، فقد صدر الدستور البنمي عام 1972 استجابة للمطالب الشعبية، والذي مازال سارياً حتى الآن بعد تعديله عدة مرات، وقد خُصص فصلاً كاملاً منه في 11 مادة بشأن القناة وحقوق بنما كدولة ذات سيادة في السيطرة على القناة التي تقع في أراضيها.
ونتيجة لهذه الضغوط والتي كانت في أثناء فترة الحرب الباردة وفي أعقاب تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام وانسحاب كامل قواتها العسكرية في مارس 1973، استجابت الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس جيمي كارتر لمطالب بنما، وقامت عام 1977 بتوقيع معاهدتين بين الرئيسين الأمريكي جيمي كارتر، والبنمي عمر توريخوس: الأولى، بشأن (حياد الملاحة وتشغيل القناة)، وبموجبها أقرت بنما بمبدأ حياد الملاحة في القناة، واتفقت الدولتان بموجبها على حق الولايات المتحدة الدائم في الدفاع عن القناة ضد أي تهديد يتعارض مع مبدأ حياد القناة. والثانية، بشأن (انتقال السيطرة على قناة بنما) بنهاية عام 1999 من الولايات المتحدة إلى جمهورية بنما.
وبموجب هاتين المعاهدتين، أُلغيت كافة المعاهدات السابقة المنظمة للوضع القانوني للقناة، وأقرت بنما باستمرار سيطرة الولايات المتحدة على القناة بين عامي (1977-1999)، واعترفت الولايات المتحدة بسيادة بنما على القناة، وأقرت بنما بمسئوليتها بشكل أساسي ومبدأي عن الدفاع عن القناة ومنشآتها بعد عام 1999، وإذا استدعت الحاجة لطلب المساعدة الدولية بشأن الدفاع عن القناة تكون الأولوية للولايات المتحدة.
وقد أجرت بنما استفتاءً شعبياً لإقرار الموافقة على المعاهدتين عام 1977، كما صدقت الولايات المتحدة على المعاهدتين عام 1978. وبعد عام 1999 ونفاذ المعاهدة وانتقال السيطرة على القناة إلى بنما، تم تعديل مواد الدستور المتعلقة بالقناة، بما يتناسب مع سريان المعاهدة، فتم إنشاء (هيئة قناة بنما)، وهي الجهة الحكومية البنمية المنوط بها تشغيل وإدارة القناة.[15]
وفي أعقاب مصادقة الكونجرس على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، يوم 7 يناير 2025، أعلن الرئيس المنتخب دونالد ترامب في مؤتمر جماهيري بولاية أريزونا عن أجندة إدارته خلال فترته الرئاسية الجديدة، ومنها العلاقات الدولية بطبيعة الحال، بشأن عدة ملفات مثيرة للجدل ومنها قناة بنما، حيث وصف زيادة فرض رسوم المرور على السفن الأمريكية التي تعبر القناة بأنها "سخيفة، وغير منصفة، وتمثل نهباً لمصالح بلاده لابد من إنهائه فوراً"، على حد تعبيره. واختتم تصريحاته بانتقاد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، لمنحها دولة بنما السيطرة على القناة.
والواقع أن تصريحات ترامب بشأن بنما لم تنشأ من فراغ، بل لها ما يبررها من وجهة نظر الولايات المتحدة، وأهمها أن الولايات المتحدة اعترضت أكثر من مرة بشأن زيادة رسوم العبور من القناة بشكل تعسفي وتمييزي على السفن الأمريكية فقط، مما يشكل تمييزاً في المعاملة يخرق بنود معاهدتي (توريخوس- كارتر) بشأن حياد القناة، لاسيما أن بنما لا تطبق هذه الزيادة على سفن الدول الأخرى وتحديداً الصين والتي تخوض مع الولايات المتحدة حرباً تجارية شرسة، والتي قامت بزيادة استثماراتها في المناطق المحيطة بالقناة، حيث قامت عدة شركات صينية ببناء عدة موانئ عند مدخلي القناة، وهو ما وصفه ترامب بأنه "تنازل من بنما عن القناة لصالح الصين"، فضلاً عن إعلان نيكارجوا في نوفمبر 2024 عن خطتها لإحياء مشروع قناة نيكارجوا باستثمارات وتمويل صيني.
هذا التواجد أثار مخاوف الولايات المتحدة بشأن تنامي النفوذ الصيني بأمريكا الوسطى بوجه عام وبمنطقة القناة التي تمس الأمن القومي الأمريكي. وقد صرح ترامب بأن الولايات المتحدة أنفقت أموالاً طائلة على إنشاء قناة بنما، وأن بلاده قدمت القناة لبنما، ولم تقدم القناة هدية للصين التي تقوم بتشغيلها، على حد تعبيره، ومن ثم لوح بأنه من غير المستبعد التحرك عسكرياً واستعادة السيطرة عليها في حالة استمرار زيادة فرض رسوم المرور على السفن الأمريكية العابرة للقناة.
ومن الملاحظ في هذا الصدد أن هذا التهديد ليس جديداً على خطاب الرؤساء الأمريكيين السابقين، حيث إنه وأثناء حملة الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لاختيار مرشحه في انتخابات الرئاسة الأمريكية 1976، والتي فاز بها الرئيس جيرالد فورد، قبل خسارته في انتخابات الرئاسة أمام الرئيس جيمي كارتر، أدلى الرئيس الأسبق رونالد ريجان – وهو أكثر رئيس أمريكي سابق متأثر به الرئيس ترامب – بتصريح يكاد يكون مطابقاً للتصريح الراهن، حين قال: "فيما يتعلق بمسألة قناة بنما، فنحن قمنا ببنائها، ونحن دفعنا ثمنها، وبالتالي فهي لنا وسنحتفظ بها"، وكان ذلك قبل توقيع معاهدتي (توريخوس- كارتر) عام 1977.[16]
وقد ردت بنما على تصريحات ترامب بتقديم شكوى بتاريخ 21 يناير 2025 إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتراضاً على تلويح الرئيس الأمريكي باستخدام القوة المسلحة لاستعادة السيطرة على القناة، معتبرة أن هذه التهديدات تشكلاً خرقاً لميثاق الأمم المتحدة والذي ينص على عدم جواز التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بشكل فعلي ضد أي دولة أخرى أو المساس بسيادتها، وأن القناة ليست تحت سيطرة أي دولة أخرى، وأن سيادة بنما على القناة غير قابلة للتفاوض وأنها أعيدت إلى بنما بغير رجعة، على نحو يوحي في النهاية بأن هذا الملف تحديداً سوف يتحول إلى أحد الملفات الرئيسية التي ستحظى باهتمام خاص من جانب إدارة ترامب على مدى ولايته الثانية والأخيرة.
[1] صلاح الدين عامر، القانون الدولي للبحار، دراسة لأهم أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، القاهرة: دار النهضة العربية، 2000، الطبعة الثانية، ص. 150-161.
[2] حامد سلطان وعائشة راتب وصلاح الدين عامر، القانون الدولي العام، القاهرة: دار النهضة العربية، 1978، الطبعة الأولى. ص 430-432.
[3] Wallace, M.M, International Law, London: Sweet & Maxwell, 2002, 4th Edition. PP.135-136.
[4] U.S. Senate, Statements of Roger Rufe President, The Ocean Conservancy (Private), Before The Senate Committee on Foreign Relations, 2003, PP. 2-4. Available at; https://www.foreign.senate.gov/imo/media/doc/RufeTestimony031021.pdf
[5] نتالي مونتل، عباس أبو غزالة (مترجم)، حفر قناة السويس المشروع والتنفيذ، دراسة في تاريخ ممارسات التقنية، القاهرة: دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 2005، ص.359-361..
[6] صلاح الدين عامر، مقدمة لدراسة القانون الدولي العام، القاهرة: دار النهضة العربية، 2007، ص 506-513.
[7] رأفت غنيمي الشيخ، أمريكا والعالم في التاريخ الحديث والمعاصر، القاهرة: دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 2006، الطبعة الأولى، ص 91-92.
[8] Fernández-Armesto, F, The Americas, The History of a Hemisphere, London: Phoenix, Orion Books Ltd, 2004, P. 6.
[9] رأفت غنيمي الشيخ، أمريكا والعالم في التاريخ الحديث والمعاصر، مرجع سابق، ص 75.
[10] Fernández-Armesto, F. (Ibid), P. 134-135.
[11] Hassall, A. M.A, A History of Europe, London: Rivigtons, Vol. III 1740-1914. P. 310.
[12] أموري ديرنيكور، أحمد نجيب هاشم (مترجم)، القياصرة القادمون، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، ص 287، 284.
[13] المرجع السابق، ص. 284.
[14] نايجل هاملتون، محمد زينو شومان (مترجم)، القياصرة الأميركيون، بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2009، الطبعة المترجمة الأولى (2013)، ص. 450.
[15] المرجع السابق، ص. 451.
[16] المرجع السابق، ص. 410.