سياقات ضاغطة: لماذا تزايد الانفتاح العربي على الإدارة السورية الجديدة؟
2025-1-2

د. محمد عز العرب
* رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تشهد سوريا حالة من الانفتاح العربي المتزايد على السلطات الجديدة في سوريا، على نحو ما تعكسه زيارة الوفود الدبلوماسية والبرلمانية العربية (أردنية ولبنانية وقطرية وسعودية وبحرينية وليبية وغيرها)، فضلاً عن وفود أمنية واستخبارية عربية خلال الفترة الماضية، علاوة على الاتصالات الهاتفية بين وزراء الخارجية العرب (المصري والإماراتي والعُماني) ونظيرهم السوري أسعد الشيباني، وهو ما يمكن تفسيره استناداً لعوامل متعددة منها تغير موازين القوى الداخلية لصالح الفاعلين الجدد، والتخوف من تفكك سوريا إلى دويلات، والسعي لمنع تكرار تجربة عراق "ما بعد 2003"، ومنع سيطرة قوى إقليمية معينة على سوريا، والاستعداد لمرحلة إعادة بناء وإعمار سوريا، والتصدي للمهددات الأمنية العابرة للحدود الهشة وخاصة الإرهاب والكبتاجون. 

مؤشرات دالة

هناك عدد من الشواهد الدالة على تنامي الانفتاح العربي على الإدارة الجديدة في سوريا، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- الزيارات السياسية: قام وفد قطري رسمي بقيادة وزير الدولة بوزارة الخارجية القطرية محمد بن عبد العزيز الخليفي في 23 ديسمبر 2024، بزيارة إلى دمشق، أجرى خلالها مباحثات مع قائد الإدارة السياسية والعسكرية السورية أحمد الشرع الذي وجه دعوة لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد لزيارة سوريا، وأكد أن بلاده ستبدأ تعاوناً استراتيجياً واسعاً مع قطر خلال الفترة المقبلة، وأفاد بأن الوفد القطري أبدى استعداده للبدء في استثمارات واسعة في سوريا بمجالات منها الطاقة والموانئ والمطارات. ومن جانبه، قال الخليفي أنه بحث مع الشرع خطوات المرحلة الانتقالية، واحتياجات مطار دمشق الدولي وكيفية تقديم الدعم اللازم لتشغيله، مؤكداً على استمرار دعم قطر لبناء دولة المؤسسات التي تسودها العدالة والحرية والتنمية والسلام. وتعد هذه أول زيارة وفد قطري رفيع المستوى إلى دمشق بعد قطيعة مع النظام السابق استمرت 13 عاماً.

كما أجرى وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في 25 ديسمبر 2024 محادثات في دمشق مع القائد العام للإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع، حيث أكد دعم العملية الانتقالية في سوريا وصياغة دستور جديد للبلاد. وقد سبق تلك الزيارة بأيام انطلاق اجتماع وزراء خارجية عدد من الدول العربية إلى جانب ممثلين دوليين لبحث مستقبل سوريا في مدينة العقبة بالأردن.

ووصل الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي، ووزير الخارجية الكويتي رئيس الدورة الحالية للمجلس الوزاري الخليجي عبد الله اليحيا، في 30 ديسمبر2024، إلى دمشق، في أول زيارة بعد سقوط نظام بشار الأسد، وأجرى الوفد لقاءات مع الشرع، ووزير الخارجية في الحكومة الانتقالية أسعد الشيباني، ودعا الوفد خلالها إلى رفع العقوبات ودعم سوريا. ومن جهته، قال اليحيا: "زيارتنا لدمشق تحمل رسالة تضامن نؤكد من خلالها التزامنا بوحدة سوريا وسلامة أراضيها"، مؤكداً أن "أمن وسلامة سوريا جزء لا يتجزأ من أمن الخليج واستقرار المنطقة". وبدوره، أفاد الشيباني أن المباحثات مع الوفد الخليجي تركزت على بحث إعادة سوريا إلى محيطها العربي وتوطيد علاقات التعاون مع دول الخليج، كما دعا الكويت إلى فتح سفارتها في دمشق واستئناف العلاقات الدبلوماسية، وأضاف قائلاً: "سنعمل بشكل مشترك على توطيد العلاقات بين سوريا والكويت وترسيخ سبل التعاون في المجال السياسي والاقتصادي والإنساني".

2- اللقاءات الأمنية: كان لافتاً للنظر الطبيعة الأمنية والاستخبارية للوفود التي وصلت دمشق مؤخراً. وفي أول زيارة رفيعة المستوى لحكومات أجنبية منذ إسقاط نظام الأسد، وصل وفد تركي-قطري إلى سوريا، وفق ما أعلنته وزارة الإعلام السورية في 12 ديسمبر الفائت. وقالت الوزارة عبر صفحتها على "إكس": "وصل وفد تركي-قطري إلى دمشق يضم وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم قالن ورئيس جهاز أمن الدولة القطري خلفان الكعبي برفقة فريق استشاري موسّع".

وقد زار وفد بحريني برئاسة رئيس جهاز الأمن الاستراتيجي أحمد بن عبد العزيز آل خليفة، في 28 ديسمبر الفائت، العاصمة دمشق والتقى مع الشرع، وبحث الطرفان القضايا ذات الاهتمام المشترك. ومن جهته، أكد آل خليفة أهمية الحفاظ على الأمن الإقليمي، مجدداً دعم مملكة البحرين لعملية انتقالية شاملة في سوريا يما يصب في جهود تعزيز المصالحة الوطنية، والتعافي الاقتصادي، والدعم الإنساني للشعب السوري، كما أكد على دعم المنامة لعودة المواطنين السوريين الراغبين بالعودة الطوعية إلى وطنهم الأم، للمساهمة في بناء سوريا ودعم استقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتلبية طموحات شعبها.

وأعلن المتحدث باسم الحكومة العراقية، باسم العوادي، في 26 ديسمبر المنصرم، أن وفداً عراقياً برئاسة رئيس جهاز المخابرات حميد الشطري التقى الإدارة السورية الجديدة في دمشق، بهدف بحث التطورات على الساحة السورية. وأشار إلى أن متطلبات الأمن والاستقرار على الحدود المشتركة بين البلدين كانت في مقدمة المباحثات بين الجانبين. كما زار وفد ليبي دمشق، ضم مستشار رئيس حكومة "الوحدة الوطنية" للشئون الأمنية، إبراهيم الدبيبة، ومدير الاستخبارات العسكرية محمود حمزة، ووزير الدولة للاتصال والشئون السياسية وليد اللافي.

3- الاتصالات الهاتفية: أجرى وزير الخارجية المصري دكتور بدر عبدالعاطي اتصالاً هاتفياً بنظيره السوري أسعد الشيباني في 31 ديسمبر المنصرم، حيث أكد الأول وقوف مصر بشكل كامل مع الشعب السورى الشقيق ودعم تطلعاته المشروعة، ودعا كافة الأطراف السورية في هذه المرحلة الفاصلة إلى إعلاء المصلحة الوطنية، ودعم الاستقرار فى سوريا والحفاظ على مؤسساتها الوطنية ومقدراتها ووحدة وسلامة أراضيها.

كما أجرى وزير الخارجية العُماني بدر بن حمد البوسعيدي، في 1 يناير 2025، أول اتصال هاتفي مع الشيباني. وأكد البوسعيدي على موقف السلطنة الثابت والداعم لاحترام إرادة الشعب السوري والحفاظ على سيادة سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها، مشدداً على عمق الروابط والعلاقات التاريخية المتينة بين الشعبين العُماني والسوري، واستمرار التعاون المشترك بين البلدين، ودعم مساعي التنمية والاستقرار في سوريا والمنطقة.

وسبقهما اتصال هاتفي في 23 ديسمبر الفائت بين وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد ونظيره السوري، حيث تم التأكيد على أهمية الحفاظ على وحدة وسلامة وسيادة سوريا، ودعم جميع الجهود والمساعي المبذولة للوصول إلى مرحلة انتقالية شاملة وجامعة تحقق تطلعات الشعب السوري في الأمن والتنمية والحياة الكريمة.

أبعاد مُحفِّزة

هناك مجموعة من العوامل المفسرة لتزايد الانفتاح العربي على الإدارة السورية الجديدة، يتمثل أبرزها في:

1- تغير موازين القوى في الداخل السوري: نجح تحالف الفصائل المسلحة في السيطرة على مدن محورية مثل إدلب وحلب وحمص وحماة ودمشق وإسقاط نظام الأسد في 11 يوماً فقط، أي أنه هيمن على ثلثي الأراضي السورية، وفقاً لتقديرات معهد الحرب الأمريكي، في مقابل سيطرة أقل للمناطق التي بحوزة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما قوبل بنهج براجماتي من غالبية الدول العربية بعد تغير موازين القوى الداخلية لصالح الفواعل الجدد. ولا يعد هذا النهج قاصراً على الدول العربية بل يتصل بنهج الدول الغربية أيضاً، حيث قامت وفود أمريكية وبريطانية وفرنسية وألمانية وأممية بزيارة دمشق وفتح قنوات اتصال مع الإدارة السورية الجديدة.

2- التخوف من تفكك سوريا إلى دويلات: يعد أحد العوامل الرئيسية لانفتاح الدول العربية على الإدارة السورية الجديدة، وفقاً لما جاء في البيانات الصادرة عن وزارات الخارجية في تلك الدول، هو "دعم الاستقرار والانتقال السياسي في سوريا في مرحلة ما بعد الأسد". فعلى الرغم من الارتباطات السابقة لتحالف الفصائل المسلحة في سوريا، وخاصة هيئة تحرير الشام "جبهة النصرة سابقة" بتنظيمات إرهابية وجماعات متطرفة في مراحل سابقة، إلا أن خطرها بعد الوصول إلى السلطة يمكن تحجيمه لأنها تريد الاعتراف بشرعية "الغلبة" التي حققتها في مواجهة نظام الأسد "المتصدع". ووفقاً لتصور عدد من الدول العربية، يظل ذلك خطر أقل مقارنة بخطر التفكك الذي قد يواجه مستقبل البلاد، وفقاً لأسوأ سيناريو محتمل. ولعل ذلك يفسر بدرجة أكبر سلوك دول جوار سوريا، التي يوجد توافق فيما بينها على دعم المسار الانتقالي.

3- السعي لمنع تكرار تجربة عراق "ما بعد 2003": تسعى الدول العربية لتحاشي الخبرة السابقة التي اكتسبتها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في مارس 2003، حيث ابتعدت الدول العربية عن التواصل مع الحكومات العراقية التي تناوبت على السلطة بعد إسقاط نظام صدام حسين، الأمر الذي سمح لإيران بملء الفراغ، على مستويات مختلفة، سياسية وأمنية واستخباراتية واقتصادية وثقافية. وتبعاً لذلك الدرس، تعمل الدول العربية على تعزيز أطر التواصل مع السلطات السورية الجديدة، وكان أبرز تلك الخطوات احتفاظ سبع دول عربية بسفارتها في دمشق بعد سقوط نظام الأسد.

4- منع سيطرة قوى إقليمية معينة على سوريا: وهو ما ينطبق جلياً على تركيا، التي تسعى لملء الفراغ الناتج عن انتهاء النفوذ الإيراني والروسي، بحكم موقفها المناوئ لنظام الأسد من جهة ودعمها المستمر لبعض الفصائل المسلحة من جهة أخرى. وقد انخرطت أنقرة على نحو براجماتي مع هيئة تحرير الشام منذ سنوات، فأقامت علاقات يمكن أن تساعدها الآن في توجيه السلطات الجديدة في دمشق باتجاه يلائمها. كما يمكن لسقوط النظام أن يمهد الطريق لعودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين الذين يعيشون في تركيا إلى وطنهم، مما يقلص الضغوط التي كانت تتعرض لها الحكومة التركية. ولا تنحصر العلاقات عند هذا الحد، بل قام رئيس المخابرات التركية، إبراهيم قالين، بزيارة علنية إلى دمشق بعد أربعة أيام من سقوط النظام، في 12 ديسمبر الفائت، وأعادت تركيا فتح سفارتها في العاصمة السورية التي كانت قد أغلقتها في عام 2012.

5- الاستعداد لمرحلة إعادة إعمار سوريا: تحظى مرحلة "اليوم التالي" باهتمام أطراف عربية للقيام بأدوار في مرحلة إعادة إعمار المناطق والبلدات المدمرة في سوريا لاسيما أن قطاع المقاولات والإنشاءات يعد إحدى الأدوات الرئيسية للسياسة الخارجية لعديد من الدول العربية. بعبارة أخرى، تسعى عدة أطراف عربية إلى تعزيز التنافس في مجال البناء والإعمار بدلاً من الصراع والدمار. ولعل ذلك واضح في سلوك قطر الدولة العربية الأكثر صلة بهيئة تحرير الشام التي لها اليد الطولى في التفاعلات السورية بعد سقوط الأسد، وتجاوزت الدوحة مرحلة توجيه الانتقادات الإقليمية والدولية بدعمها وتمويلها المالي لتلك الهيئة. ويُتوقَّع أن تلعب الشركات التركية دوراً في إعادة إعمار البلاد، كما يشير الارتفاع الكبير في أسعار أسهم شركات الأسمنت والبناء التركية في اليوم التالي لانهيار النظام. وفي سياق متصل، أكد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، في 22 ديسمبر المنصرم، أن بلاده ستساعد السوريين في عملية إعادة الإعمار.

6- التصدي للمهددات الأمنية العابرة للحدود الهشة: يتعلق أحد العوامل المُحفِّزة للانفتاح العربي على سوريا الجديدة بمواجهة الإرهاب، وتحديداً تنظيم داعش، إذ يسعى لإعادة التموضع سواء داخل الأراضي السورية أو على الحدود العراقية-السورية. إلى جانب وجود عناصر داعش في سجون قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وخشية إطلاق سراحهم من قبل المجاميع المتطرفة. فالإرهاب في تلك المنطقة "في حالة كمون" وليست "في حالة نوم". وعلى الرغم من وجود انتماءات أو ارتباطات أو امتدادات للإدارة السورية الجديدة بجماعات متطرفة، إلا أنها بمجرد توليها السلطة قد تحاول التصرف كحكومة ناشئة وليست جماعة مسلحة أو منظمة إرهابية، حتى لا تواجه بمقاومة من القوى الدولية والإقليمية، كما يعد التفاهم بين دول عربية والإدارة السورية الجديدة بشأن القضاء على تجارة الكبتاجون، الذي كان يهربه النظام السابق إلى دول الجوار وخاصة الأردن ولبنان والسعودية، أحد المُحفِّزات الرئيسية للانفتاح على الإدارة السورية الجديدة. بعبارة أخرى، الحاجة العربية بشكل عام والأردنية بوجه خاص إلى تفكيك شبكات تهريب السلاح والمخدرات، جعلتها تسارع لبحث سبل التعاون مع الإدارة الجديدة والحد من الارتدادات المتوقعة.

خلاصة القول، إن هناك مقاربة سياسية وأمنية حاكمة للدول العربية، وخاصة ذات الجوار المباشر لسوريا، للانفتاح السريع أو المتدرج على الإدارة الجديدة في سوريا، وكذلك يوجد طلب مقابل في تلك الإدارة على تعزيز العلاقات المتعددة الأبعاد مع العمق العربي لسوريا، لأنه يتضمن دعماً في إعادة الإعمار ورفع العقوبات الاقتصادية وتحسين مستوى المعيشة وتحريك العجلة الاقتصادية وتنظيم شئون الدولة وعودة اللاجئين وغيرها.


رابط دائم: