على خلاف العديد من الدول التي كانت قد تبنت موقفاً محدداً فيما يخص نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في 5 نوفمبر 2024 وما إذا كان فوز مرشح الحزب الجمهوري الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أو مرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس كامالا هاريس أكثر توافقاً مع مصالحها وحساباتها، كان الموقف في إيران مختلفاً. فوفقاً لتصريحات العديد من المسئولين الإيرانيين، لم تر طهران اختلافاً جوهرياً بين المرشحين، حيث قال الرئيس مسعود بزشكيان إن فوز ترامب "لا يُحدث فرقاً" بالنسبة لإيران التي "أعطت الأولوية لتطوير العلاقات مع الدول الإسلامية والدول المجاورة"، فيما قالت المتحدثة باسم الحكومة فاطمة مهاجراني أن "السياسات العامة للولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية ثابتة، ولا يهم من يصبح رئيساً. لقد تم بالفعل وضع الخطط حتى لا يكون هناك تغيير في معيشة الناس".
وهنا، فإن ثمة تساؤلات عديدة تطرح في هذا السياق: فهل من الصحيح حقاً أن فوز ترامب في انتخابات 5 نوفمبر لم يثر قلق إيران على النحو الذي يحاول بعض المسئولين الترويج له منذ إعلان النتائج الرسمية للانتخابات؟، أم أن طهران تحاول التخفيف من حدة هذا القلق حتى لا تستخدم الإدارة الجديدة ذلك كورقة ضغط ضدها لدفعها نحو تقديم تنازلات في العديد من الملفات؟.
الولاية الأولى وسياسة "الضغوط القصوى"
من المقرر أن يعود ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير المقبل، وسط تخوف إيران من المسار الذي ستسلكه إدارته نحوها. فقد تبنى ترامب استراتيجية "الضغوط القصوى" ضد طهران خلال ولايته الأولى 2017-2021، بعد أن انسحب من الاتفاق النووي المبرم عام 2015 معها والمعروف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة" في 8 مايو 2018، وأعاد فرض العقوبات الأمريكية عليها من جديد في 7 أغسطس من العام ذاته. ويمكن قراءة أبرز نتائج هذا القرار على إيران على النحو التالي:
1- الاقتراب من مرحلة امتلاك سلاح نووي: كانت إيران قد بدأت تخصيب اليورانيوم بدرجات عالية في عام 2021، بعد ثلاث سنوات من انسحاب ترامب من الاتفاق، والآن هناك تقديرات تشير إلى أن إيران على أعتاب امتلاك قدرة نووية، بعد حيازتها أكثر من 180 كيلو جرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. فمع مستويات التخصيب المرتفعة، ترى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن طهران ستحتاج من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع فقط لتجميع كمية كافية من اليورانيوم المخصب بنسبة 90% لصنع قنبلة نووية.
وتقدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه إذا تم تخصيب اليورانيوم بشكل أكبر، فإن إيران تمتلك ما يكفي لصنع نحو أربع قنابل نووية. في المقابل لا تزال إيران تؤكد على أنها لا تسعى لتطوير أسلحة نووية، وتصر على أن تخصيبها لليورانيوم يقتصر فقط على أغراض الطاقة المدنية. وبالتالي، يمكن ترجيح تصاعد حدة التوتر بين واشنطن وطهران بشأن البرنامج النووي الإيراني خلال فترة رئاسة دونالد ترامب الجديدة.
2- تردي الأوضاع الاقتصادية: فرضت العقوبات الأمريكية تداعيات قوية على الاقتصاد الإيراني، إذ تراجعت العملة الإيرانية "الريال"، إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق مع اقتراب دونالد ترامب من الفوز برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية مجدداً، حيث تم تداول الريال الإيراني عند 703 آلاف ريال مقابل الدولار الواحد. وكان الدولار يعادل 32 ألف ريال إيراني حين تم إبرام الاتفاق النووي بين إيران والقوى العالمية في عام 2015.[1] كما فقدت العملة الإيرانية حوالي 27% من قيمتها مقابل الدولار هذا العام، عندما صعدت إسرائيل هجومها ضد حزب الله المدعوم من إيران في لبنان.[2]
وفيما يخص معدل التضخم، حدد المركز الإحصائي الإيراني متوسط معدل التضخم في فترة الإثنى عشر شهراً المنتهية في 21 أكتوبر 2024، والتي تمثل نهاية الشهر السابع من التقويم الإيراني، عند 33.6%، بانخفاض 0.6% عن الرقم للفترة المنتهية في الشهر السادس. وحدد المركز معدل التضخم من نقطة إلى نقطة في البلاد عند 31.6 في المائة في الشهر السابع، مما يعني أن الأسر دفعت في المتوسط 31.6 في المائة أكثر لشراء نفس الحزمة من السلع والخدمات في ذلك الشهر، مقارنة بنفس الشهر في العام السابق. [3]ومن الملاحظ أن الأرقام السابقة تعكس ما تعانيه إيران من ضغوط اقتصادية، مما أدى إلى انخفاض قيمة عملتها الوطنية، وارتفاع معدل التضخم بشكل كبير خلال عام 2024.
3- تزايد الحركات الاحتجاجية: تشير بعض التقديرات إلى أن سياسة "الضغوط القصوى" التي اتبعها ترامب في سياسته تجاه إيران، ساهمت في تأجيج الاحتجاجات بها وتصاعد مشاعر الاستياء الشعبي من النظام الحاكم، وإن كان البعض يعتقد أن هذه الاحتجاجات لم تحقق تأثيراً في سياسات النظام، إلا أنها أصبحت مثل "الأزمة المزمنة"، والآن مع عودة ترامب للسلطة ترتفع آمال المعارضين للنظام من أن يساهم ذلك في سقوطه، على الرغم من تصريحات ترامب المستمرة بأنه لا يهدف إلى تغيير النظام الإيراني أو أنظمة أخرى.[4]
الولاية الثانية والتخوفات الإيرانية
مع فوز ترامب في الانتخابات، تزايد التخوفات الإيرانية من أن يستخدم خلال ولايته الجديدة أدوات أكثر صرامة تجاه إيران، ويمكن تحديد التخوفات الإيرانية من المسار الذي ستسلكه السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد ترامب في الآتي:
1- عودة سياسة الضغوط القصوى: وجه منتقدو الرئيس الحالي جون بايدن العديد من الانتقادات لإدارته في تعاملها مع إيران، كان أبرزها أنها لم تطبق العقوبات المفروضة في عهده بشكل صحيح، وأنها "كانت تتجاهل ذلك عمداً". فبالرغم من أن إدارة بايدن أبقت على العقوبات المفروضة على إيران بل وزادتها، إلا أنها قامت بتخفيف القيود المتشددة في عهد ترامب فيما يتعلق بملف "مبيعات النفط"، ويعود ذلك إلى رغبة إدارة بايدن في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران رغم فشلها في ذلك، كما كان لسياسته أسباب أخرى تتعلق بإمدادات الطاقة والأسعار. وقد كان متوسط صادرات إيران من النفط الخام والمكثفات أقل من 500 ألف برميل يومياً طوال النصف الثاني من عامي 2019 و2020، مع دخول العقوبات التي فرضها ترامب حيز التنفيذ، لكنها بدأت في الارتفاع في عام 2021 واستمرت في الارتفاع منذ ذلك الحين. وبلغ متوسط الصادرات حوالي 1.6 مليون برميل يومياً في الفترة من يناير إلى أكتوبر من هذا العام، وفقاً لبيانات من شركتي التحليلات كبلر، وفورتسكا، أي أقل بنحو 500 ألف إلى 600 ألف برميل يومياً عما كانت إيران تبيعه في العامين السابقين لإعادة فرض العقوبات.[5]
لذا، من المتوقع أن تتبنى ولاية ترامب القادمة سياسة أكثر صرامة تجاه إيران، وأن تقوم إدارته بمواصلة الجهود التي بذلتها سابقاً في تصفير الصادرات النفطية الإيرانية، وخاصة وأن ترشيحات ترامب لمن سيتولون العديد من المناصب في إدارته جاءت لتزيد من تلك التكهنات، على غرار برايان هوك، الذي شغل منصب المبعوث الخاص لإيران في إدارة ترامب الأولى، ويعرف عنه تشدده تجاه إيران منذ بدء مسيرته السياسية في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش. وقد أكد هوك في مقابلة مع شبكة "سي إن إن"، في 7 نوفمبر 2024، أن ترامب سيعود إلى سياسته السابقة تجاه إيران. وقال: "سوف يعزل طهران دبلوماسياً ويضعفها اقتصادياً". ومن المقرر أن يلعب هوك دوراً مهماً في تشكيل حكومة الرئيس الأمريكي المنتخب الجديدة، ما قد قد يشير إلى نهج صارم تجاه طهران.
2- رفع مستوى الدعم العسكري لإسرائيل: في ظل معطيات متوفرة تفيد بأن تل أبيب ركزت في هجومها الأخير ضد إيران في 26 أكتوبر الفائت، على تدمير أنظمة الدفاع الإيرانية، تتخوف إيران من أنه مع وصول ترامب إلى السلطة، قد تتزايد الدعوات في الدول الغربية لضرب المنشآت النووية الإيرانية.
وقد كان لترامب تصريح لافت في أكتوبر 2024 قال فيه إن "على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية". ووسط ترقب الردود العسكرية المتبادلة بين إسرائيل وإيران، لوحت تل أبيب بإمكانية استهداف المنشآت النووية.
ولكن رغم إبداء ترامب دعمه لإسرائيل بتوجيه ضربة للمنشآت الإيرانية، إلا أن هذا الأمر سيتوقف في النهاية على العديد من العوامل، أهمها ردود الفعل الدولية المتوقعة لتلك الخطوة. وقد تكون الخطوة الأقرب إلى التحقق في المستقبل القريب، هي استمرار ترامب في تطبيق سياسة الضغوط القصوى. فبجانب الاقتصاد، استهدفت سياسته إضعاف النفوذ الإقليمي لإيران، عن طريق استهداف أذرعها وميليشياتها، والتعاون مع حلفاء إقليميين من أجل زيادة الضغط على النظام الإيراني. وكان من أبرز نتائج تلك السياسة، القرار الذي اتخذه ترامب في 3 يناير 2020 باستهداف قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في غارة جوية على مطار بغداد، ما يعزز الاحتمالات بأن يقوم ترامب بتصفية قيادات عسكرية إيرانية خلال ولايته الجديدة، إذ يرى أن إيران استغلت فرض العقوبات "المتساهلة" لتسليح وكلائها مثل الحوثيين وحماس وحزب الله بالطائرات بدون طيار والصواريخ.
3- احتمال الوصول إلى صفقة أمريكية-روسية: لا تستبعد إيران أن ينجح الرئيس الأمريكي الجديد في الوصول إلى صفقة جديدة مع روسيا تنهي الحرب التي اندلعت في أوكرانيا، في 24 فبراير 2022. وقد سبق أن وعد ترامب فعلاً بالوصول إلى تسوية تنهي الحرب في أوكرانيا، في إطار انتقاداتها المستمرة للسياسة التي تتبعها الإدارة الأمريكية الحالية.
وهنا، فإن إيران لا تبدو بعيدة عن هذه الصفقة المحتملة. إذ أن تعاونها العسكري ما زال محوراً للخلافات العالقة مع الدول الغربية، والتي يتوقع أن تكون على مائدة المحادثات التي سوف تجرى بين إيران وبريطانيا وفرنسا في 29 نوفمبر الجاري، في جنيف. وبالتالي، فإذا نجح ترامب في الوصول إلى هذه الصفقة، فإن أحد بنودها قد يتعلق بهذا التعاون العسكري مع إيران، حيث لا تستبعد إيران أن تستغل روسيا هذه الورقة لتعزيز موقعها التفاوضي، على نحو قد يؤدي في النهاية إلى تداعيات لا تتوافق مع حسابات ومصالح طهران في الملفات المختلفة.
ختاماً، يمكن القول إن تغييراً ما سوف يطرأ على اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية إزاء إيران في عهد ترامب. فمن المتوقع أن يواصل الأخير سياسته المتشددة ضد إيران. لكن ذلك لا ينفي أن الطرفين قد ينجحان في نهاية المطاف في إبرام صفقة تقلص الخلافات الحالية وتبعد شبه الحرب المباشرة عن حدود إيران.
[2]Iran's Rial Weakens to Record Low as Israel Tension Rises, , Bloomberg, 4 November 2024, available at: https://2u.pw/6MAwQc2Y