تفاؤل حذر: ماذا يعني فوز دونالد ترامب بالنسبة لأفريقيا؟
2024-11-12

أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن
* أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة

 

لاتزال مشاهد أقوال وأفعال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المهينة بالنسبة لأفريقيا خلال ولايته الأولى محفورة في ذاكرة كثير من الأفارقة. ومع ذلك، توجد ردود فعل متباينة بشأن إدارة ترامب الثانية وعلاقتها بالقارة الأفريقية. وعليه، عند توقع مسارات إدارة ترامب الثانية، من الأهمية بمكان أن نأخذ الماضي القريب بعين الاعتبار. خلال فترة ولايته الأولى، تصدر الرئيس دونالد ترامب عناوين الأخبار بتصريحات مهينة عن الدول الأفريقية، مشيرًا إلى بعضها باعتبارها "دولًا قذرة" ومتسائلًا عن سبب قبول الولايات المتحدة للمهاجرين من هذه المناطق. لم تُذهِل هذه اللغة المجتمع الدولي فحسب، بل أدت أيضًا إلى توتر علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأفريقية، مما أدى إلى ظهور نبرة تجاهل يزعم البعض أنها شكلت السياسة الأمريكية  تجاه القارة التي لم تطأها قدماه.

في ضوء هذا السياق، من الأهمية بمكان دراسة ما قد تعنيه إدارة ترامب الثانية لأفريقيا من حيث التجارة والدبلوماسية والمساعدات الإنسانية والمشاركة الجيوسياسية الأوسع. وهذا ما نحاول مناقشته في هذا المقال.

أولاً: إدارة ترامب الأولى: الملامح العامة

في سنوات رئاسة ترامب الأولى، تراجعت مكانة أفريقيا في سلم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. فقد أولت إدارته اهتمامًا محدودًا للقارة، طغى عليها تركيز ترامب على شعار "أمريكا أولاً" والقضايا الأساسية في الداخل الأمريكي. وهنا نلاحظ تراجع حجم المساعدات، وتشديد سياسات الهجرة، وإعادة تقييم اتفاقيات التجارة. وكان استخدام لغة مهينة في الإشارة إلى الدول الأفريقية سببًا في جعل الكثيرين يدركون أن هذه "الرؤية الترامبية الجديدة" ذات الطابع الشعبوي تستخف بالقارة، ونتيجة لذلك توترت العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية. لقد اتخذت الإدارة الأولى لترامب بالفعل خطوات واضحة لتقليص المساعدات الخارجية الأمريكية، مشيرة إلى عدم الكفاءة والرغبة في ضمان خدمة الأموال للمصالح الأمريكية أولاً. وخضعت مبادرات التنمية مثل خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز، والتي كان لها تأثير كبير في أفريقيا في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، لعمليات مراجعة وتدقيق. ولحسن الحظ، تم تجنب التخفيضات الكبرى في خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز بفضل الدعم الحزبي في الكونجرس، ولكن برامج أخرى شهدت تخفيضات، مما أثر على المساعدات الإنسانية في الدول الأفريقية التي تواجه مشكلات ملحة فيما يتعلق بقضايا الصحة والفقر والأمن الغذائي.  ولاشك أن هذه الخلفية تشكل ما قد تعنيه إدارة ترامب الثانية لأفريقيا - استمرارًا، أو ربما توكيدًا على نفس السياسات التي انتهجها في ولايته الأولى.

ثانيًا: إدارة ترامب الثانية: ما الذي يمكن توقعه؟

1- التجارة والهجرة

إذا كان موقف الإدارة السابقة مؤشرًا، فإن الولاية الثانية لترامب قد تنطوي على سياسات أكثر صرامة تجاه أفريقيا، وخاصة فيما يتعلق بالتجارة والهجرة. قد تواجه الاقتصادات الأفريقية، التي تعتمد بشكل كبير على العلاقات التجارية مع القوى الأكبر مثل الولايات المتحدة والصين، ضغوطًا أكبر في ظل رؤية ترامب تجاه الاتفاقيات الثنائية. قد يسعى ترامب إلى "صفقات أفضل" مع الدول الأفريقية، وهي العبارة التي استخدمها بشكل متكرر خلال ولايته الأولى للتوكيد على أولويته لتعظيم المكاسب الاقتصادية الأمريكية. وعلى صعيد الهجرة، قد تؤدي آراء ترامب المعروفة بشأن الهجرة من البلدان التي يراها أقل تطورًا إلى فرض المزيد من القيود على الأفارقة الذين يسعون إلى دخول الولايات المتحدة إما للتعليم أو العمل أو لم شمل الأسرة. خلال ولايته الأولى، فرضت إدارة ترامب قيودًا إضافية على دخول الأفارقة إلى الولايات المتحدة، سواء من أجل التعليم أو العمل أو لم شمل الأسرة.

من المرجح أن تقوم إدارة ترامب الثانية بوضع العديد من الدول الأفريقية على قائمة حظر السفر، وتضع ذلك في إطار إجراء أمني. وقد تعمل إدارة ترامب الثانية إلى توسيع هذه القيود، مما يحد بشكل أكبر من المسارات المتاحة للأفارقة الذين يتطلعون إلى الهجرة أو السفر إلى الولايات المتحدة.

2- عامل الصين: مخاوف ترامب بشأن العلاقات بين أفريقيا والصين

من المرجح أن تثير العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين أفريقيا والصين استجابة قوية من فترة ولاية ترامب الثانية. لقد أعرب ترامب مرارًا عن مخاوف كبرى بشأن النفوذ الصيني في جميع أنحاء العالم، وقد يؤدي اعتماد أفريقيا على الاستثمار الصيني إلى تغذية السياسات الرامية إلى مواجهة نفوذ الصين. غالبًا ما تنتقد الولايات المتحدة مبادرة الحزام والطريق، التي أدت إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية في أفريقيا، لأنها تخلق التبعية. في عهد ترامب، قد تحاول الولايات المتحدة مواجهة نفوذ الصين من خلال زيادة الضغوط الاقتصادية أو إصدار تحذيرات للقادة الأفارقة حول مخاطر القروض والاستثمارات الصينية. وقد يضع هذا الدول الأفريقية في مأزق صعب: فالتحالف مع الولايات المتحدة قد يعرض مشاريع مربحة مع الصين للخطر، في حين أن تفضيل الصين قد يضر بالعلاقات مع الولايات المتحدة، وخاصة إذا تبنى ترامب موقف المواجهة الحدية.

3- السياسات الإنسانية والتنموية

أعرب ترامب عن شكوكه بشأن قيمة المساعدات الخارجية، وجادل في كثير من الأحيان بأن هذه الأموال من الأفضل استثمارها داخل الولايات المتحدة. واستنادًا لهذا المنظور، فإن إدارة ترامب الثانية قد تفرض قيودًا أكثر صرامة على المساعدات للدول الأفريقية. وقد تواجه البرامج المخصصة للصحة والتعليم والإغاثة الإنسانية تخفيضات كبيرة. على سبيل المثال، قد تتعرض المكاسب الهشة التي تحققت ضد أمراض مثل فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز والملاريا للخطر إذا تم تخفيض التمويل، وخاصة في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على المساعدات الأمريكية. وعليه، تخشى المنظمات الإنسانية أن يؤدي انخفاض المشاركة الأمريكية إلى انتكاسات كبيرة في جهود الصحة العامة والأمن الغذائي والتخفيف من حدة الفقر. كما أن الدول الأفريقية التي تعاني من أنظمة رعاية صحية متعثرة وبنية تحتية غير كافية وتحديات مرتبطة بالفقر قد تشهد ظروفًا أسوأ، مما قد يؤدي بدوره إلى ارتفاع مستويات الهجرة والنزوح الداخلي.

 4-الأمن ومكافحة الإرهاب: هل تتغير الأولويات؟

من حيث الأمن، شهدت فترة ولاية ترامب الأولى مشاركة محدودة في الصراعات الأفريقية، مع التركيز بشكل أساسي على جهود مكافحة الإرهاب. وقد حافظت القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) على عمليات تستهدف الجماعات الإرهابية مثل بوكو حرام والشباب وتنظيم داعش في جميع أنحاء منطقة الساحل والصومال ونيجيريا. ومع ذلك، فإن تشكك ترامب في المشاركات العسكرية طويلة الأمد يثير تساؤلات حول مستقبل هذه العمليات. إن اهتمام ترامب بتقليص التدخل العسكري الأمريكي في الخارج قد يؤدي إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي في أفريقيا. وفي حين قد يتماشى هذا مع أجندته الوطنية، فإن الدعم المنخفض قد يجعل بعض الحكومات الأفريقية عرضة لصعود الجماعات المتطرفة التي تتمدد بالفعل ولاسيما في غرب أفريقيا. وعلاوة على ذلك، فإن تقليص دعم مكافحة الإرهاب قد يفتح الباب أمام قوى عالمية أخرى، بما في ذلك روسيا، لزيادة نفوذها في أفريقيا، مما قد يؤدي إلى تعقيد المشهد الأمني ​​بشكل أكبر.

ثالثًا: رؤية مغايرة

ثمة سردية أخرى أكثر تفاؤلاً بعودة ترامب للبيت الأبيض. إذ على الرغم من التصريحات المثيرة للجدل التي أدلى بها دونالد ترامب حول الدول الأفريقية والتراجع الملحوظ في نفوذ الولايات المتحدة في القارة، فإنه يحتفظ بقاعدة كبيرة من المؤيدين في أفريقيا. وينبع هذا الدعم إلى حد كبير من ثلاثة عوامل:

1- التوافق مع القيم الثقافية والدينية: من المعروف أن الأفريقي متدين بطبعه وربما يتوافق ذلك مع موقف ترامب من "القيم العائلية"، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا المثيرة للجدال مثل الإجهاض وحقوق المثليين جنسيًا ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية. وتتوافق القيم المحافظة الأمريكية هذه مع المواقف السائدة في العديد من الدول الأفريقية، حيث لا يزال الموروث الثقافي التقليدي بشأن الأسرة متجذرًا في روح ووجدان الأفارقة على شتى أطيافهم. ومع انتشار الرسائل المحافظة الأمريكية عبر وسائل التواصل الاجتماعي الأفريقية، تكتسب مواقف ترامب قوة، وخاصة في معارضة القيم الليبرالية الغربية المزعومة التي يروج لها القادة الديمقراطيون.

2- النجاح الاقتصادي وأسطورة ترامب: إن صورة ترامب كرجل أعمال ناجح وتصور الاقتصاد الأمريكي القوي في ظل إدارته الأولى تجذب العديد من الأفارقة، وخاصة أولئك المهتمين بالأسواق العالمية الأقوى التي يمكن أن تعزز التجارة مع القارة. وقد عزز برنامج ترامب الشعبي "المتدرب" الذي اقتحم به عالم التلفزيون والترفيه صورة الفطنة والنجاح في مجال الأعمال والتي ظلت مؤثرة في وسائل الإعلام الأفريقية والإدراك العام. وهناك اعتقاد بأن ولاية أخرى لترامب يمكن أن تعزز الاستقرار الاقتصادي العالمي، الأمر الذي قد يفيد الاقتصادات الأفريقية.

3- الرغبة في الحد من التدخل الأمريكي: بالنسبة للأفارقة الذين يخشون مما يعتبرونه تدخلاً أمريكيًا في شئونهم الداخلية، فإن سياسة ترامب "أمريكا أولاً"  وقيادته لحركة "ماجا" – التي تعني جعل أمريكا دولة عظيمة مرة أخرى-تشير إلى سياسة انعزالية قوامها عدم التدخل الذي قد يسمح للدول الأفريقية بمزيد من الاستقلالية. ويرى بعض المراقبين الأفارقة أن الإدارات الجمهورية، بما في ذلك إدارة ترامب، أقل تدخلاً، مع التركيز على التجارة الثنائية بدلاً من الركون على الجوانب الأيديولوجية أو العسكرية. ويتعزز هذا المنظور بأمثلة مثل خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز، وهي مبادرة طرحها الجمهوريون في عهد جورج دبليو بوش، والتي لعبت دورًا فعالاً في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز في مختلف أنحاء أفريقيا. ولا يخفى هنا أن العديد من الأفارقة ينظرون إلى بايدن وهاريس بريبة، متأثرين بمزاعم شائعة بأن هاريس رفضت تراثها الأسود، مما يغذي تصورًا مفاده أن القادة الديمقراطيين أقل انسجامًا مع المصالح والهويات الأفريقية. ومع تعزيز النفوذ السياسي لترامب في أفريقيا المستند على القيم الثقافية والإدراك الاقتصادي والرغبة في الحد من التدخل الأجنبي، فإنه يسلط الضوء على مشهد معقد للعلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا، حيث تحتفظ شخصية ترامب المثيرة للجدل بجاذبيتها بشكل متناقض. وتلك سردية أخرى تقود إلى تفاؤل حذر بالنسبة للأفارقة!

 ختامًا، فإن رؤية ترامب التي غالبًا ما تكون مدفوعة برغبة في إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية، قد تُواجه بنفور أفريقي وتُهدد بتراجع نفوذ الولايات المتحدة في القارة. ومع استمرار نمو الاقتصادات وتزايد أعداد السكان الأفارقة، تزداد أهمية القارة كلاعب عالمي. وعليه، إذا اختارت الولايات المتحدة عدم الاعتراف بهذا، فإنها تخاطر بالتنازل عن هذه الساحة الجيوستراتيجية بالغة الأهمية لقوى أخرى مستعدة للاستثمار في مستقبل أفريقيا. ولذلك، فإن الرؤية المتوازنة - التي تأخذ في الاعتبار احتياجات أفريقيا جنبًا إلى جنب مع المصالح الأمريكية - يمكن أن تُساعد في تعزيز علاقة أكثر استدامة ومفيدة للطرفين. ومع ذلك، إذا استمرت خطابات ترامب وسياساته من فترة ولايته الأولى، فقد يكون مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا مليئًا بالتوترات والفرص الضائعة.


رابط دائم: