ورشة عمل "النماذج التنموية وموقع الطبقة الوسطى"
2024-10-21

نوران مدحت
* باحثة في العلوم السياسية

 

عقد مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ورشة عمل بعنوان "النماذج التنموية وموقع الطبقة الوسطى" يوم الأحد 13 أكتوبر 2024، بحضور الخبير الاقتصادي الدكتور محمود محيي الدين، المدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي وممثل مصر والمجموعة العربية، وأستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، كمتحدث رئيسي للندوة، قدم خلالها رؤية تحليلية للنماذج التنموية من خلال استعراض تجارب العديد من الدول والمشروعات مع تحليل واقع الطبقة الوسطى العالمي وإشكالياتها في ظل تحديات الاقتصاد العالمي. أدار الورشة الدكتور أيمن عبد الوهاب، نائب مدير المركز، بحضور نخبة من خبراء ومستشاري المركز من بينهم الدكتور جمال عبد الجواد، المستشار بالمركز، والدكتور أحمد قنديل، مدير وحدة الدراسات الدولية، والدكتورة هناء عبيد، مدير وحدة الدراسات الاقتصادية، والأستاذة أمل مختار، مدير تحرير مجلة أحوال مصرية، استكمالا لما نشرته المجلة في عدد يوليو الأخير رقم 93 تحت عنوان "الطبقة الوسطى...خزانة القيم" والذي تناول جوانب وموضوعات عدة تخص الطبقة الوسطى.

تحدث الدكتور محيي الدين عن نماذج النمو والتنمية وأدبياتها المختلفة، بالإضافة إلى التحديات الجديدة التي أصبحت مفروضة على شرائح الطبقة الوسطى على مستوى العالم، والمسارات المختلفة التي تتخذها الدول، خاصة البلدان الآسيوية، في تحقيق النمو بهدف الحفاظ على تلك الطبقة ودعمها وتوسيعها في سبيل تحقيق الاستقرار وتراكم النمو والثروة.

واستهل الدكتور أيمن عبد الوهاب الحديث عن الإطار الأوسع للنقاش في هذه الندوة وهو نماذج التنمية، المتباينة على المستوى الدولي وانعكاسات ذلك التباين على استكشاف واقع الدول النامية والاقتصادات الناشئة ومن بينها مصر، وكذلك الإشكاليات المرتبطة بحالة الحراك داخل الطبقة الوسطى والتفاوتات المتزايدة في هذا الحراك، كما أكد على أن تناول الطبقة الوسطى بالدراسة هو دراسة للمجتمعات في حد ذاته.

ومن هذا المنطلق، بدأ الدكتور محيي الدين حديثه عن الأبعاد المتباينة لتناول قضايا الطبقة الوسطى، وكيفية ربطها بنماذج التنمية المختلفة، إذ أصبح السؤال الرئيسي في هذه الآونة هو كيفية مساندة الطبقة الوسطى في ظل ما تتعرض له من صدمات. فقد اعتادت مؤسسات التمويل الدولية على تقديم الدعم إلى الشرائح الفقيرة من خلال الدعم العيني أو النقدي سواء المشروط أو غير المشروط، واستهدافها بالسياسات الملائمة والمتعارف عليها، أما أن تقع الطبقة الوسطى في مأزق، فهي ظاهرة لم نعتد عليها بعد.

ففي الوقت الحالي، أصبح كل ما هو وسطي في مأزق فعلي، إن كان على مستوى الأفراد أو الشركات أو اقتصادات الدول، وأشار إلى اقتباسه الشهير -الذي أشار إليه في سلسلة مقالاته عن هواجس الطبقة الوسطى- "إذا كان الفرد ينتمي بطبيعة الحال إلى الطبقة الوسطى، ويعمل في شركة متوسطة في اقتصاد متوسط الدخل، فهو يواجه ثلاثة مآزق وليس مأزقا واحدا".

ومن جانبه، تحدث عن رؤية المؤسسات الدولية لنموذج النمو الذي يحافظ على الطبقة الوسطى، فعلى مستوى الدول، فإن "تقرير التنمية الدولي world development report" الصادر عن البنك الدولي، يشرح أن الدول متوسطة الدخل -التي استطاعت انتشال نفسها من فئة الدول متدنية الدخل- تحتاج لأن تحافظ على نمط النمو والمعدلات الحالية لمدة عشرات السنين حتى تستطيع الانتقال إلى شريحة الدول مرتفعة الدخل على غرار دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD. ومن أجل الحفاظ على معدلات النمو هذه سنويًا، يتطلب الأمر درجة عالية من التنافسية فضلا عن استثمارات ضخمة. وأشار التقرير إلى ثلاثة أنواع من الاستثمار: أولا، الاستثمار عموما وشيوعا في كل القطاعات، وثانيا، الاستثمار في قطاعات محددة ومعينة محققا قدرا أعلى من التأثير والقيمة المضافة، ثم أخيرا، الانتقال لمرحلة الابتكار والتطوير. وفي نفس الصدد، خرج التقرير بحلول كثيرة غير معتادة تقوم كلها على فكرة الاستثمار، أهمها الاستثمار في رأس المال البشري، مصحوبا بتوفير بنية أساسية تكنولوجية جيدة، جنبًا إلى جنب مع الاستثمار في تمكين المجتمع والاقتصاد على حد السواء من التعامل مع الصدمات، سواء الصدمات البيئية المناخية، أو تلك الوبائية، أو حتى حالات النزوح الجماعي واللجوء.

وبالتطبيق على الحالة المصرية، فقد أكد أن الاقتصاد المصري مؤهل لأنواع الاستثمار الثلاثة تلك، واختص بالذكر مجال التطبيقات الذكية، الذي يمتلك فرصة عظيمة للانطلاق إذا ما تم توفير قدر جيد من الدعم والمساندة. وأشار إلى أن النموذج الآسيوي الذي يقوم على الاستثمار في البشر من خلال خدمات التعليم والصحة وقدر معقول من دعم الخدمات العامة، وفي البنية الأساسية -التكنولوجية بالأساس- والتوجه نحو اقتصاد السوق، والتمكين الاقتصادي، مع العمل الجاد دون انقطاع، والحفاظ على معدل نمو سنوي يتراوح بين 5-7%، وبشكل تراكمي وبالتالي يتضاعف الدخل كل سبع أو عشر سنوات، هو النموذج الأنسب للحالة المصرية مع بعض التطويع، ذلك أن تلك الدول لم تقتصر على مكافحة الفقر في حد ذاته، وإنما الطريق نفسه لمكافحة الفقر كان هو سبيلها لخلق الطبقة الوسطى واتساعها، ويعزى جزء كبير من استقراره إلى النجاح في تلبية طموحات الطبقة الوسطى.

 وفي هذا، أشار إلى مبادرة "حياة كريمة" التي اعتبرها واحدة من أعظم المشروعات على مدار العقود الماضية، إذ تخلق فرصة للطبقات الفقيرة في الترقي الاجتماعي من خلال حزمة الخدمات العامة التي تقدمها، بل وتحشد الطبقة الوسطى للمساهمة في هذه التنمية، وبالتالي فإن الحراك الذي يحدث للطبقة الوسطى من معلمين وأطباء ومعماريين وغيرهم يسهم في تحريك الاقتصاد واستمرار إنتاجيته من خلال تحريك كافة الخدمات في سلسلة متصلة.

كما أن الحديث عن الطبقة ليس حكرا على الدول النامية وإنما حتى في الدول المتقدمة، حتى أن الجدل في الوقت الحالي في أدبيات التنمية يدور حول صعود الطبقة الوسطى في آسيا -الصين والهند تحديدا- ويقابله تراجع في الطبقة الوسطى في الغرب بنفس النسبة. ويصاحب هذا الجدل صعود في مد تيار اليمين المتطرف، الذي يتحدث عن تآكل الطبقة الوسطى في ظل التهديد الذي تتعرض له شرائح واسعة منها. ولذا، لجأت للقيام ببعض الموائمات والتضحيات التي لم تكن تقوم بها في العادة، منها ترشيد الإنفاق على الصحة، أو تقليل جودة التعليم للأبناء. وبناء عليه، أصبحنا نشهد حالة من الإحباط في أوساط الطبقة الوسطى إن لم تكن حالة احتقان.

الواقع أن أوروبا أصبحت تواجه تهديدا وجوديا على إثر تقلص الطبقة الوسطى، وإزاء نقص التمويل اللازم للحفاظ على تلك الطبقة. هذا التهديد الوجودي لا يعني فقط أن هناك قوى أخرى ستكون أقوى اقتصاديا وتحقق مستويات أعلى من الدخل، وإنما يفرض تحديا أمنيا أيضا بالضرورة نتيجة عدم القدرة على الدفاع عن القارة وعن الاتحاد الأوروبي بشكل فعال، ويهدد الجبهة الداخلية الأوروبية لأنها لن تستطيع تلبية طموحات الطبقة الوسطى وأحلامها.

وفي هذا الصدد، أشار الدكتور محيي الدين إلى تقرير عن التنافسية لمؤلفه ماريو دراجون، إذا أراد الفرد من الطبقة الوسطى الحفاظ على مستوى الرفاه الذي كان يتمتع به آباؤه وأجداده، فالسبيل لذلك هو الحفاظ على إنتاجية أعلى total factor productivity سواء في المشروعات أو على مستوى اقتصادات الدول. ومن أجل تحقيق ذلك، كانت توصية هذا التقرير بثلاثة مجالات من الاستثمار تحتاجها الدولة، الأول في مجالات الابتكار innovation والبحث والتطوير R&D، المجال الثاني هو الاستثمار في تأمين مصادر الطاقة -الذي لم يعد تقلبها يمثل تهديدا أمنيا فقط، بل أصبح تهديدا اقتصاديا أيضا، وأخيرا الاستثمار في كل ما هو متعلق بالأمن بمفهومه المتكامل سواء التقليدي من خلال الاستثمار في الصناعات العسكرية والتسليح وتعزيز قدرات الجيش أو حتى يمتد للاستثمار في الأمن السيبراني.

المشكلة هنا لا تكمن في صياغة نموذج النمو هذا أو ذاك، وإنما دائما المشكلة تكون في تأمين مصادر التمويل للاضطلاع بتنفيذ هذا النموذج التنموي الذي يسعى للحفاظ على مستوى رفاه الطبقة الوسطى. في حالة أوروبا، يتطلب هذا المسار 900 مليار دولار سنويا، يأتي هذا التحدي في ظل تزعزع ثوابت نموذج النمو في أوروبا على إثر الحرب الأوكرانية-الروسية، والتوترات الجيوسياسية بين أوروبا والصين التي تعرقل سهولة نقل الأفراد والبضائع. كل هذه التغيرات فرضت تحديات على المشروعات المتوسطة في أوروبا، والطبقة الوسطى المرتبطة بها.

ومن هذا نخرج بأن نموذج التنمية -الذي يهدف إلى تحقيق نسب نمو أعلى وفقر أقل- لابد أن يصاحبه نموذج نمو يضم مجموعة من الأهداف والسياسات الوسيطة التي تدعم نموذج التنمية وتحقق أهدافه وفي القلب منه الحفاظ على الطبقة الوسطى وعلى متوسطات دخلها وتلبية طموحاتها، وإعادة توزيع الدخل بشكل احتوائي. وأثبتت التجارب أن كل نماذج النجاح على مستوى العالم إلا وحققت طفرات نوعية وتراكمات في معدل النمو على مدار الوقت، سواء أكان مصدر هذا التراكم رأسمالية الدولة أو القطاع الخاص. بل لم يعد التراكم ينحصر في رأس المال المادي والبشري، وإنما أيضا امتد لما نسميه Beyond GDP وهو معيار جديد لقياس الناتج المحلى الإجمالي الذي لا يكتفي فقط بالمفهوم القديم -مجموع ما أنتجه اقتصاد دولة ما في سنة ما داخل حدود الإقليم- وإنما أيضا مجموع ما أضافوه للثروات الطبيعية.

وأخيرا، يبقى السؤال: في ظل كل هذه التحديات والمتغيرات، كيف ننقذ الطبقة الوسطى؟

 اختتم الدكتور محيي الدين حديثه بأن الطبقة الوسطى تاريخيا تحتاج إلى خدمة تعليمية جيدة ورعاية صحية كريمة ودعم ومساندة معقولة في الخدمات العامة. وتبقى الرغبة في الاستقرار لدى الطبقة الوسطى رغبة ذاتية باختلاف شرائحها، وأن تعبر الأزمات بأقل خسائر، خاصة بعد إدراكها أن المنطقة في وضع جيوسياسي متقلب دائما، فضلا عن موجات النزوح واللجوء والجوائح، لذا، يبقى السبيل الأساسي هو التمكين الاقتصادي للتعامل مع الصدمات.

وعقب الدكتور أيمن عبد الوهاب بالإشارة إلى ثلاث قضايا رئيسية في التحديات المفروضة على الطبقة الوسطى، وهي الرؤية في ظل الإصلاح وفي ظل الحفاظ على العدالة الاجتماعية والتقارب بين الشرائح داخل الطبقة الوسطى، قبل أن يفتح باب النقاش للحضور، كما أشار إلى أن المجلة على مدار السنوات السابقة تناولت أسباب التماسك ومواجهة التفكك في المجتمع المصري ومنها الهوية والتعليم والوجدان والعقل الجمعي، ولكن تبين أن الرافعة الحقيقية لكل هذه القضايا التي ناقشتها أحوال مصرية وأهم أسباب تماسك المجتمع كانت هي الطبقة الوسطى. وأشار إلى العدد الأول للمجلة كان قد تناول مسألة انكماش الطبقة الوسطى، في حين أن العدد هذه المرة تناول تساؤلات جديدة، وهي مخاوف الطبقة الوسطى والتحديات التي تواجهها، وتبين أن أكثر ما تحتاجه هذه الطبقة هو خدمات التعليم والرعاية الصحية، والاستقرار الذي يمكنها من التخطيط للمستقبل، خاصة وأنها تواجه اليوم تحديات وتغيرات عالمية كبيرة. تاريخيا، كان هناك مداخل تقليدية لتكوين الطبقة الوسطى تتمثل في التعليم ثم الحصول على العمل، ولكن هذه المداخل لم تعد قائمة الآن، فضلا عن أن الدراسات لم تعد قادرة على اكتشاف ما هي مداخل تكوين الطبقة الوسطى في الوقت الحالي. لذا، أعربت عن أملها بأن تركز المشروعات البحثية على إيجاد حلول للأزمات التي أصبحت تواجهها الطبقة الوسطى.

تراوحت الأسئلة ما بين الحديث عن دور مراكز البحوث في صياغة نموذج النمو، وهو ما أجاب عنه الدكتور محيي الدين بأن هذا الدور يقوم على تخريج الكوادر البحثية القادرة على تقديم الاستشارة في مجالات متخصصة، وتسهل على صانع القرار ترتيب أولويات السياسة. كما دار النقاش حول سبل رفع إجمالي معدل الادخار في مصر بما في ذلك ادخار القطاع الخاص. كما اتفق الحضور على البعد الإقليمي للاقتصاد المصري وما يوفره ذلك من فرص استثمارية ونمو يقوم على توفير فرص العمل والتشغيل الكامل، فلا يمكن تصور نموذج نمو بلا وظائف، فضلا عن توزيع الدخل بشكل احتوائي، بالإضافة إلى مكافحة الفساد وإعمال القانون وهو الجانب الرابع من الدعم الذي تحتاجه الطبقة الوسطى. كما شهد النقاش سؤالا عن أهداف التنمية المستدامة وما إذا كانت المؤسسات الدولية لديها النية لصياغة أهداف جديدة او استكمال الأهداف الحالية مع التركيز على قضايا بعينها، وفي هذا الصدد، صرح الدكتور محيي الدين بأن نقطة الانطلاق القادمة في النقاشات على المستوى الدولي هى الاهتمام بمجال تمويل التنمية. وعن مستقبل النمو، صرح بأن التوجه العالمي الآن -الذي عبر عنه تقرير "Business Ready"- أن بناء نموذج نمو تنافسي لابد وأن يقوم على ثلاثة أركان: الاستدامة أو التحول الأخضر، العدالة بين الجنسين ونمو شامل للجميع، بالإضافة إلى التحول الرقمي. وعلى الجانب الآخر، عند الحديث عن النمو لابد أن يتحقق الاستقرار في مؤشرات الاقتصاد الكلي، فضلا عن البدائل العديدة المتاحة لتمويل مشروعات التنمية باختلاف طبيعتها.






رابط دائم: