في 20 يناير 1981، أفرجت إيران عن الرهائن الأمريكيين الـ52 الذين احتجزتهم منذ 4 نوفمبر 1979 لمدة 444 يوماً. أهم ما في هذه الخطوة هو أنها جاءت بعد دقائق من إلقاء الرئيس الأمريكي آنذاك رونالد ريجان خطاب التنصيب كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الحادثة تحديداً عادة ما يتم استحضارها عند متابعة طريقة تعامل إيران مع ما يحدث من أزمات حولها، بعضها ترى أنه يمكن أن يتحول إلى مصدر أساسي لتهديد أمنها القومي بشكل مباشر. إذ أنها تشير بوضوح إلى أن إيران لا توفر جهداً لـ"تحييد" الخطر الذي ترى أنه مُحدِق بها أو قريب منها، وأن ما تعتبره أسساً أيديولوجية على غرار وصف الولايات المتحدة الأمريكية بأنها "الشيطان الأكبر" لا يقف عقبة أمام انخراطها في تفاهمات معها.
كانت هذه الصفقة، على سبيل المثال، نتاجاً لمحادثات جرت بين ممثلين من طهران وقيادات في حملة المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية رونالد ريجان، من بينهم نائب الرئيس آنذاك جورج بوش الأب. هذه المحادثات استمرت بعد ذلك، وتضمنت زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت ماكفرلين إلى طهران في عام 1986، ثم تطورت فيما بعد لتنتهي بما يسمى "فضيحة إيران كونترا"، والتي كشفت عنها مجلة الشراع اللبنانية في 3 نوفمبر 1986.
هذا التطور اللافت في العلاقات الإيرانية-الأمريكية يمكن أن يمثل مؤشراً لطريقة تعامل طهران مع التصعيد العسكري في المنطقة، وتحديداً التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد كان لافتاً أنه في الوقت الذي تتصاعد حدة المواجهات العسكرية بين إسرائيل وحزب الله، كانت إيران تتبنى خطاباً مختلفاً في الأمم المتحدة. إذ منح الوفد الإيراني الذي يشارك في اجتماعات الجمعية العامة برئاسة الرئيس مسعود بزشكيان الأولوية للاتفاق النووي، والوصول إلى صفقة جديدة مع الدول الغربية عبر إجراء مفاوضات لتسوية الخلافات العالقة فيه.
وأدلى الرئيس بزشكيان – قبل وبعد زيارته لنيويورك - بتصريحات بدت "مستغربة" ليس فقط للمتابعين والمراقبين، وإنما حتى للأوساط السياسية الإيرانية نفسها، التي سرعان ما انقسمت بين مؤيد ومعارض لها، على غرار قوله: "لا نُعادي الولايات المتحدة، عليهم أن يوقفوا عداءهم تجاهنا من خلال إظهار حسن نيتهم عملياً"، مضيفاً: "نحن إخوة للأمريكيين أيضاً".
ربما التفسير الأوّلي لهذه التصريحات "المستغربة" هو افتقاد الرئيس – طبيب القلب – للخبرة السياسية التي تؤهله للخوض في مثل تلك الملفات التي تكتسب حساسية خاصة لدى إيران، وهو ما استندت إليه بالفعل بعض وسائل الإعلام الرئيسية في طهران على غرار صحيفة "كيهان" التي تعد الصحيفة الأقرب إلى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي.
لكن ذلك لا يقلص من وجاهة حقيقة أخرى لا يمكن تجاهلها، وهى أن النظام سمح لطبيب القلب بالوصول إلى منصب الرئيس، وهو يدرك تماماً أنه ليس لديه خبرة سياسية كبيرة، بل إنه استطاع الفوز على قيادات أصولية أقرب إلى النظام وتمتلك خبرة وممارسة عملية ليست هينة نتيجة انخراطها في مفاوضات ومشاركتها في عملية صنع القرار إزاء قضايا السياسة الخارجية تحديداً.
هنا، فإن ذلك قد يكون معناه أن النظام كان يريد هذا الرئيس بالذات، الذي أعلن حتى قبل الانتخابات انفتاحه على المفاوضات مع الغرب ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، على نحو يشير إلى أن الهدف قد يكون تعبيد الطريق أمام تفاهمات جديدة مع "الشيطان الأكبر"، وهو هدف كان من الممكن أن يكون أكثر صعوبة في حالة ما إذا وصل مرشح أصولي إلى منصب الرئيس.
هنا، يفرض السؤال التالي نفسه: لماذا تحاول طهران الوصول إلى تفاهمات مع واشنطن في هذا التوقيت تحديداً؟
الإجابة ببساطة تكمن في أن هناك اعتبارين رئيسيين يدفعان إيران في هذا الاتجاه: أولهما، أن الاتفاق النووي مقبل بالفعل على أزمة لا تبدو هينة بعد عام من الآن، وتحديداً مع حلول ما يسمى بـ"يوم النهاية"، في 18 أكتوبر 2025. فمع حلول هذا اليوم، سوف تنتهي وصاية مجلس الأمن على الاتفاق النووي وستلغى العقوبات الدولية المفروضة على إيران – التي عٌلِّقت بمقتضى الاتفاق – كما ستخرج من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة.
ومن أجل منع حدوث ذلك، قد تلجأ الدول الغربية إلى الخيار الوحيد الذي سيكون متاحاً أمامها في هذه اللحظة وهو تفعيل "آلية الزناد" التي تتيح إعادة تطبيق هذه العقوبات الدولية مجدداً وبشكل تلقائي دون أن يكون هناك فيتو – روسي أو صيني – يستطيع أن يمنع ذلك.
من دون شك، فإن إيران سوف تعتبر الاحتمال الأول إنجازاً كبيراً لها، لكنه في الغالب لن يتحقق لأن الدول الغربية لن تسمح به طالما أن إيران ما زالت مصرة على تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي ومواصلة تطوير برنامجها النووي لدرجة مكنتها من مراكمة كميات من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة تعادل 28 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي.
ومن هنا، وبهدف تجنب الوصول إلى أزمة مستحكمة قد تؤدي إلى انهيار الاتفاق وبالتالي العودة إلى المربع صفر من جديد، تحاول إيران الآن إنقاذ الاتفاق عبر الجهود التي يبذلها بزشكيان وطاقم حكومته وبعضم كانوا كوادر أساسية ساهمت في الوصول إلى الاتفاق النووي على غرار وزير الخارجية عباس عراقجي ومساعد الرئيس للشئون الاستراتيجية محمد جواد ظريف.
وثانيهما، أن إسرائيل قد تتحين الفرصة لإعادة استهداف البرنامج النووي مجدداً بعد أن توقفت العمليات الأمنية التي قامت بها في فترات سابقة (هاجمت مفاعل ناتانز لتخصيب اليورانيوم مرتين على سبيل المثال) نتيجة انشغالها بإدارة الحرب في قطاع غزة والتصعيد على جبهات إقليمية متعددة. وقد تستغل الفوز المحتمل للرئيس الأمريكي السابق المرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأمريكية دونالد ترامب لتبني خيارات أكثر تصعيداً تجاه إيران في هذا الملف تحديداً، بما فيها الخيار العسكري.
هنا، تعود تجربة ريجان إلى الواجهة من جديد. فرغم أن إيران ربما تفضل فوز مرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس الأمريكي كاملا هاريس في الانتخابات التي سوف تجرى في 5 نوفمبر 2024، إلا أنها لا تستبعد أن ينجح ترامب في العودة إلى البيت الأبيض مجدداً. ومن ثم، فإن السؤال التالي يطرح نفسه: ما الذي يمنع إيران من فتح قنوات تواصل مع المرشحَين المتنافسَين، على غرار ما فعلت مع مرشحين سابقين نجحوا بعد ذلك في الوصول إلى البيت الأبيض، مثل رونالد ريجان.
هذا السؤال قد يحظى بأهمية خاصة في ضوء عوامل ثلاثة رئيسية: أولها، طريقة إدارة المرشد خامنئي للعلاقات مع واشنطن. فقد سبق للمرشد أن قال علناً إن "إيران مستعدة للتفاوض مع الشيطان لدرء شره". كما أنه لم يرفض الخطاب الجديد للرئيس بزشكيان بل دعمه بشكل مباشر، عندما أشار إلى إمكانية إجراء مفاوضات جديدة مع واشنطن.
وثانيها، التصريحات التي أدلى بها بزشكيان، والتي سبق ذكر بعضها، قبل وخلال زيارته لنيورويك، ولا يمكن تفسيرها حصراً في سياق افتقاده للخبرة السياسية.
وثالثها، تعمد المرشح الجمهوري دونالد ترامب، بشكل لافت، الإشارة إلى إمكانية الوصول إلى اتفاق مع إيران، وذلك بعد ساعات قليلة من التهديدات التي وجهها للأخيرة بسبب الاتهامات التي تتعرض لها بمحاولة اغتياله.
فقد قال ترامب، في 26 سبتمبر الجاري، أنه مستعد في حالة انتخابه لإبرام اتفاق مع إيران لإنهاء الأعمال العدائية. وجاء ذلك بعد أن دعا، قبل يوم واحد، إلى التلويح بتدمير إيران في حالة إذا ألحقت ضرراً بمرشح للانتخابات الأمريكية.
هذه الإشارة اللافتة من جانب ترامب إلى إمكانية إبرام اتفاق مع إيران قد يكون مرجعها محاولته مجاراة الإدارة الحالية فيما يتعلق بإدارة العلاقات مع إيران، خاصة أن هذه الإدارة دائماً ما تعلن تفضيلها الخيار الدبلوماسي لتسوية الخلافات مع الأخيرة. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد أن يكون مرجعها حرص إيران على تكرار تجربة ريجان مع ترامب عبر فتح قنوات تواصل معه.
ورغم إرث العداء القائم بين الطرفين، نتيجة القرار الذي سبق أن اتخذه ترامب، في 3 يناير 2020، باغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، فإن إيران قد لا تقف عند ذلك كثيراً طالما أن هذا الخيار سيؤدي إلى تحييد "الخطر" الأمريكي والإسرائيلي تجاهها.
هنا، تطرح أسئلة أخرى نفسها: هل إيران تسعى إلى إبرام صفقة شاملة تحاول من خلالها استغلال موقفها الحالي "المُهادِن" إزاء التصعيد العسكري في المنطقة، للحصول على امتيازات جديدة في برنامجها النووي إلى جانب تحييد خطر استهدافه؟. وهل عزوفها عن الانخراط في التصعيد إلى جانب حزب الله مرجعه اطمئنانها إلى موقف الأخير وقدراته العسكرية رغم الضربات القاسية التي تعرض لها، أم حرصها على الوصول إلى هذه الصفقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة أياً كان رئيسها؟. وأخيراً هل ستتمكن إيران من تجاوز العقبات المحتملة أمام تلك الصفقة، وأهمها وجود متربصين محتملين بها، ولاسيما المتشددين في طهران وتل أبيب؟.
أسئلة ما زالت إجاباتها غير واضحة، لاسيما في ظل حالة السيولة التي تتسم بها أنماط التفاعلات التي تجري بين القوى المنخرطة في الصراع الحالي الذي تشهده المنطقة.