ارتدادات الحروب: تصاعد التنافس الإقليمي والدولي في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز
2024-9-21

شروق صابر
* باحثة مشاركة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وتحول اهتمام روسيا عن منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، التي تعد منطقة نفوذها التقليدية منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، فضلاً عن تصاعد حدة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وما ارتبط بها من تصعيد على جبهات إقليمية متعددة وتفاقم الصراع بين إيران وإسرائيل، طرأت تحولات جديدة على المشهدين السياسي والأمني في تلك المنطقة، نتج عنها اتساع نطاق التنافس بين الفاعلين الإقليميين والدوليين المنخرطين في تفاعلاتها والمهتمين بأزماتها.

إذ ازدادت طموحات الصين في أن تصبح القوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة في ظل انشغال روسيا بإدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا ومواجهة الضغوط الغربية. كما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في توسيع نطاق اهتمامها بأزمات المنطقة مرة أخرى، واتخذت خطوات عديدة لتعزيز انخراطها فيها، حتى بعد انسحابها من أفغانستان في أغسطس 2021. ويتفاقم الصراع تدريجياً بين إيران وإسرائيل في ظل سعى الأخيرة إلى تطوير علاقاتها مع بعض دول المنطقة، لاسيما أذربيجان، بالتوازي مع بروز خلافات بين إيران وبعض الدول التي تؤسس علاقات قوية معها، مثل روسيا وتركيا، حول ممر زانجيزور الذي يربط بين أذربيجان وجمهورية نحجوان التي تتمتع بالحكم الذاتي.

من هنا، لا يمكن استبعاد أن تتحول منطقة آسيا الوسطى والقوقاز خلال المرحلة القادمة إلى إحدى ساحات الصراع، أو ما يمكن تسميته بـ"الحرب الباردة الجديدة"، سواء بين روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، أو بين إيران وإسرائيل، أو بين إيران وتركيا وروسيا.

مسارات متعددة

تسعى روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع دول منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز لمواجهة العزلة والعقوبات الغربية المفروضة عليها. وكان لافتاً أنها تمكنت عبر تلك العلاقات، نسبياً، من احتواء بعض تداعيات تلك العقوبات. فبحسب تقرير لموقع "جيوبوليتيك"، حققت روسيا نمواً اقتصادياً بنسبة 3.6% في عام 2023 وذلك اعتماداً على آليات عديدة كان من بينها ما يسمى بـ"وسطاء الظل"، على غرار كازاخستان التي زادت صادراتها إلى روسيا من 40 مليون دولار في عام 2021، إلى 298 مليون دولار في عام 2023. كما تحولت، وفقاً لتقارير عديدة، إلى وسيط لنقل المنتجات الأوروبية إلى روسيا، والأمر نفسه ينطبق على دول أخرى مثل أرمينيا وأذربيجان.

لكن مثل هذه الآليات يبدو تأثيرها ضعيفاً على المدى الطويل. فضلاً عن أن ثمة عقبات عديدة سوف تواجه محاولات روسيا مواصلة توظيف علاقاتها مع دول المنطقة لتعزيز قدرتها على مواجهة العقوبات الغربية. فقد فرضت الحرب في أوكرنيا تداعيات عديدة على علاقاتها مع حلفاءها التقليديين في آسيا الوسطى، لاسيما أن بعضهم أبدى شكوكاً في مغزى قيامها بغزو جمهورية سوفيتية سابقة، حتى أن بعض أقرب حلفائها داخل منظمة معاهدة الأمن الجماعي، مثل أرمينيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، لم يقدموا أي دعم عسكري أو سياسي لها منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير 2022 وحتى الآن. ومن دون شك، فإن استمرار الإخفاق العسكري الروسي في حرب أوكرانيا، فضلاً عن التطورات الميدانية الأخيرة، على غرار نجاح أوكرانيا في السيطرة على منطقة كورسك الروسية، قد يُحدِث تغييرات في رؤية هذه الدول لموقع روسيا كقوة دولية.

وعلى ضوء ذلك، يمكن طرح مسارات عديدة لاتجاهات التفاعلات التي تجري بين القوى الإقليمية والدولية الرئيسية المعنية بتلك المناطق والمنخرطة في أزماتها، وذلك على النحو التالي:

1- تراجع النفوذ الروسي: على الرغم من العلاقات القوية التي تربط بين دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز وروسيا، إلا أن هناك مؤشرات تكشف أن النفوذ الروسي في هذه المنطقة بدأ يتراجع. فقد عملت أرمينيا وجورجيا وأذربيجان على توسيع نطاق خياراتها الخارجية والاقتصادية، وعززت جورجيا علاقاتها مع أوروبا والصين، في حين اتجهت أرمينيا إلى التقارب مع إيران، ورفعت أذربيجان مستوى تعاونها مع تركيا.

2- تصاعد الحضور الصيني: يتوازى تراجع النفوذ الروسي مع تصاعد الدور الصيني. فقد كشفت تقديرات عديدة أنه على مدى العامين الماضيين، تفوقت الصين على روسيا، وتجاوز حجم التجارة بين الصين والدول الخمس في آسيا الوسطى 70 مليار دولار في عام 2022 (مقارنة بنحو 42 مليار دولار مع روسيا). وبحلول عام 2023، تجاوز حجم التجارة مع الصين ضعف ما كان عليه مع روسيا، ليصل إلى 90 مليار دولار.[1]

3- تفاقم التنافس الإيراني-الإسرائيلي: يبدو أن الصراع بين إيران وإسرائيل سوف يتجاوز منطقة الشرق الأوسط ويمتد إلى منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، خاصة أن الأخيرة تسعى خلال المرحلة الحالية إلى تعزيز علاقاتها مع بعض دول تلك المنطقة، في الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمات بينها وبين إيران. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن إسرائيل استغلت نفوذها داخل أذربيجان لتنفيذ بعض العمليات الاستخباراتية التي قامت بها داخل إيران، على غرار الاستيلاء على الأرشيف النووي الإيراني في يناير 2018. بل إن اتجاهات عديدة في طهران وجهت اتهامات إلى أذربيجان بالتغاضي عن الأنشطة التي تقوم بها إسرائيل وتوجه من خلالها تهديدات مباشرة إلى مصالح وأمن إيران.

4- تزايد الصراع على ممر زانجيزور: تبدي إيران قلقاً واضحاً إزاء التداعيات التي يمكن أن تنتج عن إنشاء هذا الممر، الذي يربط بين أذربيجان وجمهورية نخجوان التي تتمتع بالحكم الذاتي، وبالتالي يقطع الحدود بين إيران وأرمينيا ويمنع الأولى من التحول إلى ممر استراتيجي بين دول آسيا الوسطى وأوروبا. ومن هنا، يمكن تفسير أسباب مسارعتها إلى التهديد بالتدخل من أجل عدم تغيير الحدود الذي تصفه بأنه "خط أحمر" بالنسبة لها، حسب ما جاء على لسان وزير الخارجية عباس عراقجي.

في المقابل، تنظر القوى المتنافسة إلى الممر عبر رؤى مختلفة، حيث ترى أذربيجان أن تأسيس الممر يعنى إعادة بناء السكك الحديدية التي تعود إلى الحقبة السوفييتية، وتأسيس طرق سريعة في المنطقة لربطها بجمهورية نخجوان، مما يسمح لها بالوصول إلى تلك المنطقة دون أي نقاط تفتيش في أرمينيا أثناء المرور عبر أراضيها. ويعد الممر جزءاً من طريق استراتيجي يمتد من العاصمة الآذرية باكو إلى قارص التركية، بحيث يمنح الممر الأخيرة وصولاً مباشراً إلى أذربيجان.[2]

أما بالنسبة لروسيا، وبالرغم من أنها في البداية كانت ضد تأسيس هذا الممر بعد حرب ناجورني قره باغ الثانية لدرجة أنها قاومت ضغوط تركيا وأذربيجان لإنشائه، إلا أنها الآن تدعمه نتيجة تبعات الحرب في أوكرانيا التي فرضت تداعيات سلبية عديدة على مصالحها. إذ تبحث موسكو عن طرق نقل جديدة للتجارة والتواصل مع بقية العالم. هذا إلى جانب أن فتح الممر سيعيد تعزيز دور موسكو في إدارة أحد الممرات الرئيسية في جنوب القوقاز.[3]

5- الاستغلال الأمريكي للاستراتيجيات الدولية المختلفة: أدركت الولايات المتحدة الأمريية أنها في حاجة إلى صياغة سياسة إقليمية جديدة للتعامل مع التطورات التي تشهدها تلك المنطقة بعد انسحابها من أفغانستان في عام 2021، خاصة مع الانشغال الروسي بإدارة الحرب في أوكرانيا، بالتوازي مع تزايد النفوذ الصيني بها. ومن هنا، بدأت واشنطن في الاهتمام بتلك المنطقة مرة أخرى، واتخذت خطوات عديدة لتعميق انخراطها فيها، حيث شارك الرئيس الأمريكي جو بايدن في منتدى C5+1 في 18 سبتمبر 2023. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها رئيس أمريكي بنشاط في مثل هذا المنتدى، حيث ناقش قضايا مثل الأمن الإقليمي والتعاون الاقتصادي والتنمية المستدامة، وأشار إلى الاهتمام والالتزام المتزايدين من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة آسيا الوسطى.

6- توسيع نطاق الدور الهندي: تبدي الهند قلقاً ملحوظاً بشأن التحولات التي يشهدها توازن القوى الجيوسياسي في المنطقة، لاسيما مع تزايد حضور الصين وتراجع نفوذ روسيا، بالتوازي مع اتجاه الدولتين نحو تأسيس علاقات مع حكومة طالبان في أفغانستان، التي تسيطر على السلطة في البلاد منذ انسحاب القوات الأمريكية في أغسطس 2021. من هنا، بدأت نيودلهي في تبني استراتيجية جديدة تقوم على تعزيز العلاقات مع دول تلك المنطقة[4]، خاصة أن ذلك قد يحظى باهتمام ودعم من جانب الدول الغربية التي تسعى بدورها إلى تحجيم النفوذين الروسي والصيني، لدرجة أن هذه الدول، في محاولة منها لتحفيز دول آسيا الوسطى على الحد من اعتمادها المباشر على السوق الصينية، قد تفكر في السماح لها بنقل الغاز والنفط عبر إيران إلى الهند، رغم الخلافات العالقة مع إيران حول ملفات عديدة فضلاً عن العقوبات الأمريكية المفروضة عليها في هذا الصدد.[5]

ختاماً، يمكن القول إن التحركات التي تقوم بها القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز والمنخرطة فيها، تُنذر بإمكانية نشوب ما يمكن تسميته بـ"الحرب الباردة متعددة الأطراف" لتعزيز النفوذ فيها، خاصة في ظل الارتدادات التي باتت تفرضها الأزمات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية خلال الفترة الماضية، لاسيما الحرب الروسية في أوكرانيا، والحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.


[1] Temur Umarov, What Does Xi Jinping Want From Central Asia?, Carnegie endowment, 5 July 2024, available at :https://shorturl.at/tzgA5

[2] عبد المنعم هيكل، ممر زانجيزور.. معبر حيوي إلى آسيا الوسطى، الجزيرة نت، 6 أكتوبر 2023، متاح على: https://rb.gy/i9r1ki

[3] Anna Ohanyan, Azerbaijan’s Armenian ‘Corridor’ Is a Challenge to the Global Rules-Based Order, foreign policy, 2 November 2023, available at: https://foreignpolicy.com/2023/11/02/azerbaijan-armenia-zangezur-corridor/

[4] Keith Bradsher and Anatoly Kurmanaev, How China and Russia Compete, and Cooperate, in Central Asia, The New York  Times, 3 July 2024, available at: https://shorturl.at/dd9MK  

[5] Arman Mahmoudian, Strategic Balances and Fractures: Russia, China, and Iran in Central Asia, Op.Cit.


رابط دائم: