الإرهاب في الجنوب الأفريقي: مصادر التهديد وآليات المواجهة (موزمبيق نموذجاً)
2024-9-13

د. رانيا حسين خفاجه
* مدرس العلوم السياسية بكلية الدراسات الافريقية العليا - جامعة القاهرة

 

في تطور لافت لتمدد الجماعات الإرهابية في مختلف الأقاليم الأفريقية، سجلت الجماعات الإرهابية التي تربطها صلات بتنظيم "داعش" ارتفاعًا ملحوظاً في كافة أقاليم القارة. فوفقاً لمعهد دراسات الأمن في جنوب أفريقيا، شهدت عشرون دولة أفريقية نشاطاً لتنظيم الدولة بشكل مباشر، فيما استخدمت أقاليم عشرين دولة أخرى في أعمال الدعم اللوجستي وتعبئة الموارد المالية والمادية اللازمة لأنشطة التنظيم.[1] وفيما نشطت الجماعات الإرهابية منذ عقود في شرق القارة وإقليم الساحل الأفريقي ومن قبلها إقليم الشمال الأفريقى، فإن إقليم الجنوب الأفريقي كان آخر الأقاليم التي اخترقتها الجماعات الإرهابية، ومع تصاعد نشاطات الجماعات الإرهابية في موزمبيق، وجنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية، أصبح من الضروري إلقاء الضوء على الإرهاب في الجنوب الأفريقي.

وتعاني دول الجنوب الأفريقي من ظاهرة الإرهاب، وإن كان بدرجات وأشكال مختلفة. ففي جنوب أفريقيا، تصاعدت التحذيرات من تنامي مخاطر الإرهاب. بيد أن هذه التحذيرات جاءت من جهات دولية لاسيما من قبل وزارة الخزانة الأمريكية التي أعلنت فرضها عقوبات على مواطنين وشركات من جنوب أفريقيا بسبب عضويتهم في خلايا تابعة لتنظيم "داعش"، تتخذ من جنوب أفريقيا مقراً لها وتقوم بتقديم الدعم الفني والتقني والمالي للتنظيم. وفي ذات الإطار، حذر تقرير-صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة- من استغلال الجماعات الارهابية لجنوب أفريقيا في نقل التمويل الذي تحتاجه هذه الجماعات لاسيما في موزمبيق والكونغو الديمقراطية. كما أن إحدى هيئات الرقابة الدولية والمعروفة اختصاراً ب FATF [2] أضافت جنوب أفريقيا إلى قائمتها الرمادية بسبب "فشل جنوب أفريقيا في التصدي لمسألة تمويل الجماعات الإرهابية وبسبب إخفاقها في تتبع وسائل وطرق هذا التمويل وملاحقة المتورطين فيه.[3] وأكدت عدة تقارير وجود مخاوف من أن تصبح جنوب أفريقيا جزءاً من شبكات التطرف الممتدة من شمال القارة إلى جنوبها، ويعزز من هذه المخاوف حقيقة أن جنوب أفريقيا تتمتع بوجود بنية تحتية متقدمة في مجال النقل والاتصالات والبنوك الأمر الذي قد يسهل من استغلالها كمركز عملياتي ولوجستي لجماعات التطرف العنيف. فضلاً عن ذلك، فإن جماعات الجريمة المنظمة والتي يتسم عملها بالإقليمية، تخلق مناخاً مواتياً لجماعات التطرف العنيف للاستفادة من هذه الشبكات الموجودة بالفعل في أعمالها. [4]

وفي الكونغو الديمقراطية، تسبب تنظيم "داعش"- ولاية وسط أفريقيا في مقتل نحو أربعة آلاف مدني في الفترة من 2014 وحتى 2020. وينشط التنظيم في المقاطعات الشرقية للكونغو الديمقراطية لاسيما في مقاطعتي كيفو وإيتوري. وقد صنفت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الجماعة – التي تعرف محلياً باسم قوى التحالف الديمقراطي- كجماعة إرهابية في عام 2021.[5] وفي أنجولا، صنّفت الحكومة أنشطة وممارسات الحركة الانفصالية في إقليم كابيندا كعمل إرهابي.[6]

وتسعى هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على الإرهاب في موزمبيق كحالة دالة على الإرهاب في إقليم الجنوب الأفريقي سواء فيما يتعلق بالأسباب المفسرة لتنامي الجماعات الإرهابية وجماعات التطرف العنيف، أو فيما يتعلق بآليات وسبل المواجهة. وتنقسم الدراسة إلى ثلاثة محاور أساسية، يتناول أولها الأسباب الكامنة وراء ظهور جماعات التطرف العنيف في موزمبيق، بينما يناقش المحور الثاني مختلف الاستجابات التي تبنتها موزمبيق والتي تتراوح بين استجابات وطنية وإقليمية، واستجابات ذات طبيعة أمنية وأخرى ذات طبيعة تنموية، وثالثة ذات طبيعة قانونية وتشريعية. كما يقدم هذا المحور تقييماً لهذه الاستجابات. وتنتهي الدراسة بملاحظات ختامية تتعلق بالدروس المستفادة المستمدة من حالة موزمبيق والتي يمكن الاستفادة منها في تصميم الاستجابات المستقبلية للتصدي لظاهرة الإرهاب في الجنوب الأفريقي.

الإرهاب في موزمبيق: النشأة والعوامل المفسرة

بدأت الجماعات الإرهابية في شن هجماتها في موزمبيق في عام 2017. ومنذ ذلك الوقت، شهدت موزمبيق تطوراً نوعياً في العمليات الإرهابية، ففيما ركزت هذه الجماعات في البداية على استهداف مؤسسات تابعة للدولة، إلا أن هذه الهجمات بدأت تأخذ أنماطاً أكثر عنفاً كما توسعت أهدافها لتشمل مدنيين ومؤسسات وهيئات غير تابعة للدولة. وتظل هوية الجماعات التي تقف وراء هذه الهجمات محاطاً بالغموض، إذ أن ثمة تبايناً في الإشارة إلى هذه الجماعات في مختلف المصادر الرسمية. ويرجع هذا في جزء منه إلى تفادي الحكومة في البداية توصيف الهجمات باعتبارها أعمالاً إرهابية. إذ وصفتها الحكومة في البداية بأنها أعمال يقترفها قطاع للطرق Bandits، ثم تم توصيفها باعتبارها تمرداً insurgency، وذلك قبل أن يستقر توصيف الحكومة لهذه الهجمات باعتبارها أعمالاً إرهابية.

وفيما يتعلق بتسمية هذه الجماعات، فتارة يطلق عليها "جماعة الشباب" بالنظر إلى الفئات العمرية المنضمة إلى هذه الجماعات، مع ملاحظة أنه لا يوجد علاقة مؤكدة بين هذه الجماعة وحركة الشباب المجاهدين في الصومال. وتارة أخرى تشير إليها بعض المصادر الرسمية بـ "جماعة أهل السنة والجماعة" وهو أيضاً مسمى شائع الاستخدام في أوساط الجماعات الإرهابية. وتارة ثالثة، يشار إليه باسم "داعش- موزمبيق" والتي تعد فرعاً لتنظيم "داعش-ولاية وسط أفريقيا"، وهو المسمى الرسمي الذي يعتمده "داعش" لفروعه في كل من موزمبيق والكونغو الديمقراطية.[7] وتتركز عمليات الجماعات الإرهابية في مقاطعة كابو ديلجادو وهي المقاطعة الواقعة في أقصى شمال البلاد على الحدود مع تنزانيا.

وفيما يتعلق بالأسباب المفسرة لنشأة الجماعات الإرهابية في موزمبيق فتجدر الإشارة إلى أن تفسير ظاهرة الإرهاب لا يبتعد عن الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدفع الأفراد لاسيما من الشباب إلى الانضمام إلى الجماعات المتطرفة والعنيفة. فضلاً عن ذلك، فإن أنشطة الجماعات الإرهابية لا يمكن بحال فصلها عن عوامل محفزة تتمثل في وفرة الموارد الطبيعية كونها تشكل أساساً للتجارة غير المشروعة التي تمثل مصدراً مهماً لتمويل أنشطة الجماعات المتطرفة العنيفة، فضلاً عن انتشار الأسلحة الصغيرة والخفيفة التي من شأنها تعزيز قدرات هذه الجماعات في مواجهة الدولة.

وتعتبر الأسباب ذات البعد الاقتصادي من العوامل المفسرة لظهور الجماعات الإرهابية في موزمبيق وتحديداً في مقاطعة كابو ديلجادو. ويأتي على رأس العوامل المفسرة، المظالم التي تعاني منها المقاطعة. الفقر، الإحباط المتزايد نتيجة عدم تلبية التطلعات المرتبطة بالمكاسب التي سوف يتحصل عليها الإقليم جراء اكتشافات الغاز الطبيعي.[8] فبعد سنوات من تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي أدت اكتشافات الغاز الطبيعي وتدفق الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد إلى ظهور توقعات إيجابية فيما يتعلق بمعدلات النمو وما سيترتب عليها من تحسن في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين. بيد أن اكتشافات الغاز الطبيعي وزيادة الاستثمارات الأجنبية من قبل الشركات متعددة الجنسيات، لم يترتب عليه تحسناً في أوضاع المواطنين بشكل عام وفي أوضاع مواطني مقاطعة كابو ديلجادو على وجه الخصوص حيث تركزت أنشطة واستثمارات الشركات متعددة الجنسيات. وتعكس المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التهميش الذي طالما عانى منه الإقليم الشمالي بما لا يتناسب مع استغلال ثرواته. إذ يعتبر إقليم كابو ديلجادو الأسوأ في العديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، فعلى صعيد مؤشرات التعليم على سبيل المثال لا يتجاوز سكان المقاطعة الحاصلين على شهادات بعد المرحلة الثانوية 0,3 فقط من إجمالي السكان. فضلاً عن ذلك، فإن 35% فقط من إجمالي الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة والخامسة والعشرين تم تقييدهم بشكل نظامي في المؤسسات التعليمية. كما تبلغ نسبة الأمية في كابو ديلجادو نحو 50,2% من إجمالي سكان المقاطعة وهي نسبة أعلى من المتوسط على المستوى الوطني البالغة 38%. ولا تقتصر المؤشرات المتدنية على مؤشرات التعليم فحسب، إذ تبلغ نسبة الأسر التي لا تملك مصدراً للمياه النظيفة في المقاطعة نحو 56% مقارنة بـ40% على المستوى الوطني. وفي ذات الإطار فإن أقل من 13% من السكان في كابوديلجادو تصلهم الكهرباء. كل هذه المؤشرات عززت إحساس المواطنين في المقاطعة بالتهميش حتى بات يطلق على المقاطعة اسم كابو المنسية بدلاً من كابو ديلجادو.

واتصالاً بما سبق، فقد تفاقم الإحساس بالتهميش من جراء سياسة الاستحواذ على الأراضي. فقد قامت الحكومة بالتعاون مع الشركات متعددة الجنسيات بالاستحواذ على مساحات شاسعة من الأراضي تمهيداً لإقامة المنشآت اللازمة لاستخراج الغاز وتسييله في كابو ديلجادو. وتشير التقديرات إلى إعادة توطين نحو 550 أسرة، ومنع 900 أسرة أخرى من الوصول إلى أراضيهم من أجل الزراعة، إضافة إلى 3000 أسرة فقدت مصادر رزقها من الصيد. ومع إعادة توطين هذه الأسر ظهرت مشكلات جديدة متعلقة بسياسات استغلال الأرض في موزمبيق، إذ أن الأراضي التي تم تخصيصها لهؤلاء الذين أعيد توطينهم إما وقعت بعيداً عن مناطق سكناهم وإما كانت مخصصة بالفعل لانتفاع أسر أخرى الأمر الذي خلق توترات مجتمعية جديدة. أما فيما يتعلق بالصيادين فقد تم إعادة توطينهم في أماكن تبعد عشرات الكيلومترات عن مناطق الصيد، هذا فضلاً عن التأثير السلبي الذي خلفته عمليات اكتشاف الغاز على المخزون السمكي في هذه المناطق. وأخيراً فإن وعود تشغيل هؤلاء المتضررين في مشروعات اكتشاف الغاز واستخراجه وتسييله لم تتحقق. كل ما سبق عمّق لدى مواطني المقاطعة -لاسيما من الشباب- الشعور بالتهميش والاستبعاد، الأمر الذي جعلهم أهدافاً سهلة لتجنيد الجماعات الإرهابية.[9]

ولا يمكن فهم أسباب التطرف العنيف في موزمبيق بمعزل عن سلطوية النظام الحاكم. فقد عززت حكومة FRELIMO من قبضتها على السلطة، وأضحت العملية السياسية حكراً على دوائر محدودة جداً من النخبة التي قامت باستغلال النفوذ السياسي لتحقيق مكاسب اقتصادية تقاطعت مع مصالح جماعات الجريمة المنظمة المحلية والدولية.[10] وعلى الرغم من أن الحزب الحاكم (FRELIMO) عمل على استقطاب المسلمين وجذبهم إلى دوائر النخبة السياسية المحلية، إلا أن الغالبية العظمى من مسلمي موزمبيق تنتمي إلى الطبقات الفقيرة في اثنيتي كيمواني Kimwani وماكواس Makhwas غير المؤيدين للحزب الحاكم على عكس المسلمين الذين نجحت الحكومة في استقطابهم في إطار المجلس الإسلامي لموزمبيق. هذه المجموعة الكبيرة من المسلمين والذين تم تهميشهم سياسياً واقتصادياً شكلوا القاعدة التي شنت الهجمات التي بدأت في عام 2017.

وإضافة إلى الأسباب الجذرية لتنامي وجود الجماعات المتطرفة، فإن ثمة مجموعة من العوامل التي عززت من قدرات هذه الجماعات في مواجهة الدولة. ولعل من أهم هذه العوامل تدفقات السلاح إلى شمال موزمبيق. فقد أشارت الدراسات إلى أن تدفقات السلاح إلى شمالي موزمبيق ساعدت على تقوية شوكة الجماعات الإرهابية. وتتعدد هذه المصادر ما بين مصادر محلية تمثلت في المتبقي من السلاح خلال الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد بين عامي 1976- 1992 والتي لم تشملها برامج نزع السلاح. وتنتشر هذه الأسلحة لاسيما في المناطق المعروفة بتعاطفها مع حركة المقاومة الوطنية الموزمبيقية المعروفة بـ RENAMO أو على الأقل غير المؤيدة للحزب الحاكم FRELIMO. [11]

وتعد منطقة البحيرات العظمي مصدراً آخر لتدفق السلاح إلى شمال موزمبيق، لاسيما من بوروندي، والكونغو الديمقراطية. وبينما استهدفت تدفقات السلاح تلك جماعات الصيد غير القانوني إلا أنه مع تناقص الطلب من هؤلاء تم توجيه هذا السلاح لجماعة الشباب لاسيما في بداية نشأتها. وقد استفادت الجماعات الإرهابية من طرق التهريب القديمة والنشطة في مجال تهريب المخدرات والأحجار الكريمة والأخشاب. [12]

إضافة إلى ذلك، فثمة تقارير تشير إلى نجاح الجماعات المتطرفة في الحصول على السلاح من القوات المسلحة نفسها من خلال الاستيلاء على السلاح من مستودعات الأسلحة الجيش ونقاط التفتيش الحدودية في المدن والقوى التي تسيطر عليها هذه الجماعات. كما كشفت بعض التقارير عن تورط بعض العسكريين في عمليات تزويد الإرهابيين بالسلاح.[13]

وأخيراً، فإنه مما عزز من قدرات الجماعات المتطرفة في موزمبيق، تجاهل الحكومة للمؤشرات المبكرة لتنامي خطر الفكر الراديكالي المتطرف في أواسط الشباب المسلم في شمال البلاد. فعلى الرغم من أن بداية الأعمال الإرهابية في موزمبيق كانت في العام 2017، إلا أن تقارير استخباراتية- دولية ومحلية- سبقت ذلك بنحو سبع سنوات تحدثت عن مخاطر الجماعات المتطرفة والعنيفة في موزمبيق. وعزت هذه المخاطر إلى جملة من الأسباب منها: الحدود المفتوحة، ضعف الحكومة، تورط النخب السياسية مع جماعات الجريمة المنظمة. بيد أن الحكومة استمرت في الاعتقاد بأن هذه المسالة شأن يتعلق بالمجتمع المسلم وأن هذه الجماعات لا تستهدف الدولة وإنما هي خلافات داخلية داخل المجتمعات المحلية في الشمال.

وعلى صعيد تداعيات هذه الظاهرة، فوفقاً للمفوضية العليا لشئون اللاجئين فإن أكثر من 580 ألف شخص يعتبروا في عداد النازحين داخلياً في شمال موزمبيق بسبب الهجمات المتكرر للفاعلين المسلحين من دون الدولة منذ عام 2017.[14] ولا تتوقف التداعيات على حدود موزمبيق، وإنما تتعداها إقليمياً. فموزمبيق تتشارك الحدود مع ستة دول هي تنزانيا، سوازيلاند، جنوب أفريقيا، زيمبابوي، زامبيا وملاوي. ومن بين هذه الدول الست فإن خمساً منها حبيسة ومن ثم فهي تعتمد على موزمبيق كمنفذ للأسواق الدولية. ومن ثم فإن عدم الاستقرار في كابو ديلجادو من شأنه تهديد هذه التجارة. كما خلق نشاط الجماعات المتطرفة تهديداً للأمن البحري في قناة موزمبيق وعلى سواحلها وهي السواحل التي تعاني من مهددات أخرى كالتهريب والصيد غير القانوني والقرصنة. [15]

مقاربات مكافحة الإرهاب في الجنوب الأفريقي

تعددت الأطر التي من خلالها تسعى دول الجنوب الأفريقي إلى مواجهة تحدي تنامي خطر الجماعات الإرهابية والمتطرفة. فما بين أطر وطنية وأخرى إقليمية، وما بين مقاربات أمنية خالصة وأخرى أكثر شمولية تتضمن أبعاداً تنموية. ولعل تنامي ظاهرة الإرهاب في موزمبيق جعلها نموذجاً دالاً في تعدد المقاربات، ومن ثم مرآة لجوانب القوة والضعف والنجاح والإخفاق في هذه المبادرات. 

ويمكن تقسيم الاستجابات إلى عدة أنماط وفقاً لنطاق الاستجابة والفواعل المنخرطة فيها، وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن استجابات وطنية وأخرى إقليمية ودولية. كما يمكن تقسيم الاستجابات بحسب المجال الذي تركز عليه إلى استجابات ذات طبيعة أمنية وأخرى ذات طبيعة اقتصادية وتنموية.

وتجدر الإشارة إلى هيمنة المقاربات الأمنية على تعاطي حكومة موزمبيق مع ظاهرة الإرهاب. وثمة ثلاثة تدخلات تدلل على هذا الأمر وهي: (أ) تدخل الشركات العسكرية الخاصة متمثلة في فاجنر الروسية ودايك الجنوب أفريقية،(ب) تدخل القوات الرواندية، (ج) تدخل بعثة السادك في موزمبيق.

أما أولى هذه التدخلات ذات الطبيعة العسكرية والأمنية فتمثلت في لجوء الحكومة إلى نشر قوات أمن خاصة على رأسها قوات مجموعة فاجنر الروسية، إذ تجمع روسيا وموزمبيق علاقات تاريخية بالنظر إلى الدعم الروسي لحركات التحرير في موزمبيق. فإزاء عجز الحكومة على مواجهة الإرهاب توجه الرئيس الموزمبيقي إلى روسيا في زيارة رسمية في أغسطس 2019، وقد أعقب هذه الزيارة نشر لقوات فاجنر مدعومة بطائرات مروحية هجومية وطائرات مسيرة. إلا أن هذا الوجود تم إنهاؤه بعد شهرين فقط أي في نوفمبر 2019 إذ واجه نشر قوات فاجنر مجموعة من الإشكاليات أبرزها التكتم الشديد الذي أحاط بنشر قوات فاجنر ومدته وشروطه، فضلاً عن الاختلاف حول آليات العمل بين فاجنر والقوات المسلحة الموزمبيقية وأخيراً اختلاف هذا النشر عن توقعات الحكومة بأن تنشر روسيا عناصر من قواتها المسلحة وليس من فاجنر. [16]

ثم ما لبثت الحكومة أن تعاقدت مع إحدى الشركات العسكرية في جنوب أفريقيا وهي مجموعة دايك الاستشارية Dyck Advisory Group والمعروفة اختصاراً بـ DAG في أبريل 2020 بهدف تقديم الدعم الجوي واللوجستي والاستشارات العسكرية للقوات المسلحة الموزمبيقية. بيد أن عمل هذه الشركة واجه بدوره مشكلات تتعلق بآلية عمل هذه القوات وما تردد في بعض التقارير من استهدافها للمدنيين في معرض بحثها عن عناصر الجماعات الإرهابية على نحو ما أشار تقرير لمنظمة العفو الدولية. وتم إنهاء وجود هذه القوات في أبريل 2021.

أما فيما يتعلق بالبعثة الرواندية، فقد جاءت في إطار اتفاقية بين حكومة موزمبيق والحكومة الرواندية أرسلت الأخيرة بمقتضاها نحو ألف جندي من القوات المسلحة والقوات الشرطية في 9 يوليو 2021 لتنفيذ عمليات أمنية وقتالية بهدف "دعم جهود استعادة سلطة الحكومة في مقاطعة كابو ديلجادو". وبحلول أبريل 2023 ارتفع عدد القوات الرواندية إلى نحو 2800.

وبينما رفضت موزمبيق في البداية نشر قوات إقليمية على أراضيها، إلا أن ضعف قدرات الحكومة دفعتها إلى طلب المساعدة من الجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي (السادك). وقد بدأ الحديث عن هذه البعثة في يونيو 2021، عندما أجمعت الدول الأعضاء على ضرورة إنشاء هذه البعثة كجزء من استجابة الإقليم للتهديدات التي تواجها موزمبيق في مقاطعتها الشمالية. وقد جاء تشكيل هذه البعثة اتساقاً مع الأطر القانونية للمنظمة وعلى رأسها الاتفاقية المُنشِئة للجماعة والبروتوكول الخاص بالتعاون في مجال الأمن والدفاع وكذلك اتفاقية سادك للدفاع المشترك. وقد تم نشر البعثة في 15 يوليو 2021 فى أعقاب موافقة السادك في قمتها الاستثنائية المنعقدة في مابوتو في موزمبيق في 23 يونيو 2021.

أما نطاق الولاية المبدئي لبعثة السادك فقد شمل: تحييد الخطر الذي تمثله الجماعات الإرهابية، وخلق بيئة آمنة، وتعزيز الأمن والسلم والمحافظة عليهما، واستعادة حكم القانون والنظام في المناطق المتأثرة بالهجمات الإرهابية في مقاطعة كابو ديلجادو، وتقديم الدعم الجوي والبحري واللوجستي للقوات المسلحة الوطنية، وتدريب هذه القوات لتعزيز قدراتها العملياتية، وأخيراً مساعدة موزمبيق -بالتعاون مع الوكالات والمنظمات الإنسانية- في تقديم المساعدة الإنسانية للفئات المتأثرة سلباً بالأنشطة الإرهابية بما فيهم النازحين داخلياً.[17]

وإضافة إلى ما سبق، دشن الاتحاد الأوروبي بعثة تدريب أطلق عليها البعثة الأوروبية للتدريب في موزمبيق (EUTM) والتي تركز عملها على التدريب العسكري بما فيها التجهيز العميلياتي، التدريب المتخصص في مجال مكافحة الإرهاب، التدريب في مجال حماية المدنيين، التدريب في مجال الامتثال للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتعزيز أجندة المرأة والأمن والسلام.[18]

وفيما يتعلق بتقييم هذه المقاربات الأمنية، فقد حققت بعثة السادك وكذلك القوات الرواندية إنجازات تمثلت في مساعدة الحكومة في تهدئة الأوضاع في المقاطعة الشمالية، واستعادة قدر من الأمن والنظام، ومساعدتها في تدريب ورفع قدرات قوات الجيش والشرطة العاملة في المقاطعة مما عزز من جهود استعادة الأمن والنظام.  إلا أن الأمر لم يخل من تحديات يمكن الإشارة إليها فيما يلي: [19]

أولاً: على الرغم من خطورة التهديدات التي مثلتها الجماعات الإرهابية في موزمبيق، فقد تأخر نشر قوات السادك والقوات الرواندية لأكثر من ثلاث سنوات بعد بدء أول هجمات الجماعات الإرهابية. ويمكن أن نعزو هذا التأخر إلى تردد الحكومة في نشر قوات إقليمية على أراضيها، متعللة بأن الوضع في كابو ديلجادو ما هو إلا عمليات من النهب والسرقة banditry وليس إرهاباً الأمر الذي لا يتطلب نشر قوة إقليمية. كما عكس أيضاً انقسامات داخل السادك فيما يتعلق بالتعاطى مع الصراعات الداخلية في الدول الأعضاء وأيضاً فيما يتعلق بالهيراركية داخل التجمع ومكانة الدول الأعضاء فيه.

ثانياً: إن تعدد الفاعلين على الأرض أفرز غياباً في التنسيق فيما بينهم الأمر الذي انعكس على فعالية التدخل. فعلى الرغم من تأكيد رواندا على أن قواتها ستعمل بتنسيق وثيق مع بعثة السادك إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك. فمن ناحية أوضحت الأمين التنفيذي للمنظمة الدكتورة ستيرجوميناتاكس أن موزمبيق لم تبلغ السادك رسمياً بعزم رواندا نشر قوات، وأن هذا النشر كان يتعين عليه أن يكون لاحقاً لنشر بعثة السادك وليس سابقاً لها.

ثالثاً: إن هذه التدخلات لم تحظ جميعها بدعم الرأي العام في موزمبيق الذي تحفظ على نشر القوات العسكرية الخاصة، كما انتقد الرأي العام وكذا الأحزاب السياسية المعارضة، والمنظمات الحقوقية، نشر القوات الرواندية بسبب السرية التي أحاطت بهذه الخطوة وعدم طرح المسألة في البرلمان ومن ثم عدم وضوح قضايا مثل تكلفة هذا النشر، ومدته وهدفه.[20]

وإضافة إلى ما سبق، وفي خطوة عكست إدراك الأمم المتحدة بالرابطة بين انتشار التطرف العنيف والصراعات الدائرة بالفعل في موزمبيق لاسيما بين الحزب الحاكم والمعارضة الرئيسية متمثلة في RENAMO فقد عين الأمين العام للأمم المتحدة جويتيريش السفير ميركومانزوني من سوازيلاند كمبعوث شخصي له في موزمبيق تتركز مهمته على بذل المساعي الحميدة بين الحكومة ورينامو والعمل على توقيع وتنفيذ اتفاقية سلام بين الطرفين.[21]

وعلى المستوى الجماعي، أنشأت السادك في فبراير 2022 مركزاً إقليمياً لمكافحة الإرهاب، ويهدف المركز الذي يتخذ من العاصمة التنزانية دار السلام مقراً له، إلى تعزيز التعاون بين دول الإقليم وتقوية الشراكات وصياغة استجابات سريعة للإرهاب والتطرف العنيف في الإقليم. [22]

وعلى الصعيد الوطني، اهتمت موزمبيق بملء الفجوة القانونية والتشريعية ذات الصلة بمكافحة الإرهاب. فحتى بدء العمليات الإرهابية في 2017، لم يكن لدى موزمبيق أية أطر قانونية لمكافحة الإرهاب، الأمر الذي دفع الحكومة إلى ملء هذه الفجوة من خلال القانون رقم 5 لسنة 2018، والذي أوجد نظاماً قانونياً لمنع ومكافحة الإرهاب. ثم عززت موزمبيق هذه المنظومة بقانون آخر وهو القانون رقم 13 لسنة 2022 والذي أضاف إلى القانون السابق شقاً متعلقاً بانتشار أسلحة الدمار الشامل. [23]

ملاحظات ختامية ودروس مستفادة

على الرغم من النجاح النسبي الذي أحرزته القوات الرواندية وبعثة السادك في إعادة سيطرة الدولة على بعض الأقاليم التي سبق وسيطرت عليها الجماعات الإرهابية، إلا أن الصراع لا يزال موجوداً في مناطق من إقليم كابو ديلجادو بل وانتشر إلى أقاليم أخرى. وتشير خبرة موزمبيق بوجه خاص وخبرة الجنوب الأفريقي بوجه عام إلى خطورة تجاهل مؤشرات الإنذار المبكر الدالة على تنامي التطرف العنيف والإرهاب. إذ يتطلب تصميم الاستجابات المبكرة لمواجهة التطرف العنيف وتنامي مخاطر الجماعات الإرهابية، ضرورة التشخيص الدقيق والمبكر للمشكلة. ففي موزمبيق على سبيل المثال ما فتأت الحكومة على إنكار وجود الجماعات الإرهابية إذ قامت بتوصيف الظاهرة بشكل مختلف، خشية أن يؤثر الاعتراف بوجود تهديدات من قبل الجماعات المتطرفة والارهابية بالتأثير سلباً على الاستثمارات الأجنبية لاسيما في مجال التنقيب على الغاز الطبيعي وتسييله. وفي المقابل حددت حكومة موزمبيق المخاطر المرتبطة بالقرصنة في قناة موزمبيق والمخاطر السياسية التي تشكلها المعارضة متمثلة في حزب المعارضة الرئيسي (رينامو) باعتبارهما مصادر التهديد ذات الأولوية، متجاهلة بذلك الهجمات العنيفة التي شهدتها مقاطعة كابو ديلجادو. وقد أثر ذلك بطبيعة الحال على سرعة وطبيعة الاستجابة لتهديد الجماعات المتطرفة والعنيفة. [24]

أما جنوب أفريقيا، فقد قللت بدورها من خطر التهديدات الإرهابية معتبرة إياه "هوساً غربياً"، فضلاً عن ذلك فإن جنوب أفريقيا بدت مترددة من تصنيف أي عنف مدفوع سياسياً باعتباره إرهاباً. فخبرة الأبارتهيد جعلت جنوب أفريقيا أكثر حرصاً على احترام حقوق الانسان وأكثر خشية من تقويض هذه الحقوق. هذا الموقف حد من قدرة جنوب أفريقيا على التعاطي مع قضية تمويل الجماعات الإرهابية على نحو ما أشرنا آنفاً. [25] فضلاً عن ذلك، فقد أخفقت جنوب أفريقيا مراراً في الاعتراف بالمخاطر الكامنة لجماعات التطرف العنيف في البلاد على الرغم من التحذيرات التي أشارت لها التقارير الاستخباراتية المختلفة.[26]

كذلك تشير خبرة موزمبيق إلى ضرورة اعتماد استراتيجيات متكاملة للتصدي لظاهرة الإرهاب وعدم الاعتماد بشكل كامل على الاستراتيجيات والمقاربات العسكرية والأمنية. فمثل هذه المقاربات لا تعالج الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالظاهرة. فضلاً عن إخفاق المقاربات العسكرية في تحقيق استقرار دائم. بعبارة أخرى، لابد من مقاربات شاملة تعالج عدم الاستقرار السياسي، ومشكلات الحوكمة، والتهميش السياسي والاقتصادي وغيرها من العوامل التي تشكل بيئة خصبة لعمل جماعات التطرف العنيف.


[1] Institute for Security Studies,’ Spotlight: Africa Could Become an Islamic State Caliphate Base, ISS Warns Security Council’, 7 December 2022. Available at: http://tiny.cc/4uz8zz

[2] Financial Action Task Force

[3] Peter Fabricius, ‘Are Red Flags About Islamic State in South Africa Alarmist?’, 11 November 2022. Available at: https://tinyurl.com/3uaf63em

[4] Hussein Solomon, ‘Researching Terrorism in South Africa: More Questions Than Answers’, In Scientia Militaria, South African Journal of Military Studies, Vol.40, No.2, 2012, pp 153

[5] Counter Terrorism Guide, ISS- DRC, available at: https://rb.gy/uecwz6

[6] Victor Ojakorotu, ‘The Paradox of Terrorism. Armed Conflict and Natural Resources: AN Analysis of Cabinda in Angola’, In Perspectives on Terrorism, September 2011, Vol.5, No. 3/4, pp. 96-109

[7] EvanildeRofinaAlfİado, “Terrorism in Mozambique: Analysis of the Factors That Challenged The Mozambican Government on Resolution of the Problem. In Africania, Vol.3, Issue 2. pp 38-39

[8] Alexandar MadanhaRusero, Kudzai Arnold Maisiri, ‘Regionalism and the Fight Against Terrorism in Southern Africa: Reflections on Cabo Delgado in Mozambique’. In African Journal of Conflict Resolution, 2023 p.12

[9] Luca Bussotti& Charles Torres, ‘The Risk Management of Islamic Terrorism in a Fragile State: The Case of Mozambique’, In Problems of Management in the 21st Century. Vol.15, No.1, 2020,p. 14. Also see: EvanildeRofinaAlfİado,Op.Cit,p.40

[10] Jeremy Astill-Brown and Markus Weime, Mozambique Balancing Development, Politics and Security, Chatham House, August 2010.P. vii-viii

[11] Global Initiative Against Organized Crime, Investigating Potential sources of arms flows to al-shabab in northern Mozambique’, In Risk Bulletin No. 23, Jan-Feb 2022.

[12] Idem

[13] Idem.

[14] Hélène Caux , ‘Displaced people in Mozambique’s Cabo Delgado plead for peace’, 1 March 2024. available a at: https://rb.gy/yk9lp1 

[15] Alexandar MadanhaRusero, Kudzai Arnold Maisiri, Op.Cit, pp 11-12

[16] EvanildeRofinaAlfİado,Op.Cit., p. 44

[17] Alexandar MadanhaRusero, Kudzai Arnold Maisiri, Op.Cit., p.14

[18]Alexandar MadanhaRusero, Kudzai Arnold Maisiri,Op.Cit., p.16

[19]Borges Nhamirre, ‘Mozambicans divided over Rwandan Deployment’, Institute For Security Studies, 19 July 2021.available at: https://rb.gy/atqkbb, See also
- ACCORD, Lessons From The SADC Mission in Mozambique (SAMIM), 24 April 2024.  available at: https://rb.gy/s0vjba

- Alexandar MadanhaRusero, Kudzai Arnold Maisiri, Op.Cit., pp. 15-16

[20]Borges Nhamirre, Op.Cit

[21] Alexandar MadanhaRusero, Kudzai Arnold Maisiri, Op.Cit., p. 17

[23] EvanildeRofinaAlfİado, OP.Cit. Pp. 35-36

[24] Luca Bussotti& Charles Torres,Op.Cit., pp.9-10

[25] Peter Fabricius, ‘Are Red Flags about Islamic State in South Africa Alarmist?’, 11 November 2022. Available at: https://tinyurl.com/3uaf63em

[26] Hussein Solomon, Op.Cit., pp. 154-156


رابط دائم: