منذ التاسع من شهر أغسطس الماضي (2024) عندما تمكنت القوات الأوكرانية من اختراق الحدود مع روسيا والدخول إلى مقاطعة كورسك وروسيا تحذر من إمكانية إقدام القوات الأوكرانية على مهاجمة محطة الطاقة النووية في الإقليم الروسي بقنبلة قذرة، مضيفة بذلك اتهاماً آخر للقوات الأوكرانية طالما رددته بخصوص محطة زابوريجيا للطاقة النووية والتي تقع ضمن الأراضي الأوكرانية التي أعلنت روسيا عن ضمها.
الخطاب الروسي القديم الجديد بخصوص استخدام القنبلة القذرة في عمل أوكراني ضد المنشآت النووية يقابله نفي قاطع من قبل أوكرانيا وحلفائها. فضلاً عن رد الاتهام إلى روسيا، فإن أوكرانيا دائماً ما تطالب بإعادة السيطرة على محطة زابوريجيا متهمة روسيا بأنها من يهدد الأمن النووي عبر تخزين الأسلحة في المحطة المذكورة واتخاذها منطلقاً لشن هجمات عسكرية.
في ظل التطورات التي شهدها ملف وضع المنشآت النووية السلمية في الصراع الروسي-الأوكراني منذ فبراير من العام 2022 كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تسعى بكل ما أوتيت من أجل الحفاظ على أمن وأمان المنشآت النووية في منطقة العمليات العسكرية بما في ذلك الزيارات المتكررة للمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفائيل جروسي وآخرها زيارته لمحطة كورسك وتحذيره من خطورة وجود عمليات عسكرية بالقرب من المحطة وضرورة الالتزام بالركائز السبع الضرورية من أجل ضمان سلامة المنشآت النووية في ظل الصراعات المسلحة، ناهيك عن ضرورة تطبيق المبادئ الخمسة التي قدمت لحماية محطة زابوريجيا للطاقة النووية والتي تنطبق على كل المحطات النووية[1]. فما هي تلك الركائز والمبادئ وإلى أي مدى تم الالتزام بها خلال هذا الصراع؟، وماذا بخصوص الاتهامات المتبادلة من طرفي الصراع المباشرين؟، وكيفية تحقق الوكالة الدولية للطاقة الذرية منها نفياً أو إثباتاً؟، ولماذا دائماً يظل الوضع خطيراً في هذا الصراع الذي يشهد عمليات عسكرية بالقرب من محطات الطاقة النووية؟، وإذا كان وجود المحطات النووية في مناطق العمليات القتالية يرفع من احتمالات المخاطر بشأن وقوع حوادث نووية فهل يمكن أن يؤدي وجود هذه المواقع في عمليات القتال إلى كبح جماح العمليات العسكرية حولها؟، ومن ثم ما هو مستقبل الأمن والأمان النووي في مناطق القتال؟.
سرديتان نوويتان متعارضتان
منذ بداية العمليات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا والمنشآت النووية أحد الموضوعات الساخنة. ففي البداية، كانت سيطرة القوات الروسية على محطة تشرنوبيل النووية، التي ما زالت ومحيطها يخضعان لعمليات التعامل مع تداعيات الحادث الشهير الذي وقع في المحطة في أبريل 1986 زمن الاتحاد السوفييتي، حيث كانت كل من روسيا وأوكرانيا جزءاً من هذه الدولة المترامية الأطراف التي ضمت إلى جانبهما ثلاثة عشرة جمهورية أخرى. وعندما انفرط عقد الاتحاد السوفييتي، كانت أوكرانيا ضمن الجمهوريات التي تخلت عما كان على أراضيها من أسلحة نووية بحيث انحصرت أسلحة الاتحاد السوفييتي النووية في حيازة روسيا. وفي الوقت الذي تخلت فيه أوكرانيا عن الأسلحة النووية، ظلت المحطات النووية السلمية التي تولد الطاقة النووية وغيرها من المنشآت النووية، بما في ذلك البحثية تعمل تحت السيادة الأوكرانية التامة. ولم يكن هناك أي نزاع بخصوص ذلك. وبعد أربعة أيام من بدء ما أسمته روسيا عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، نقلت موسكو إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية عزمها "ضمان الأمان والأمن النووين اللازمين لجميع المرافق النووية الواقعة في منطقة العمليات العسكرية الخاصة". وفي الإخطار ذاته، بيّنت روسيا أنها قد سيطرت بصورة كاملة على محيط محطة تشرنوبيل معللة ذلك بـ"الحيلولة دون استخدام التشكيلات القومية الأوكرانية أو غيرها من التشكيلات الإرهابية للوضع الراهن لارتكاب عمل نووي استفزازي"[2].
من الواضح أن روسيا من البداية تشير إلى ما أسمته بالعمل النووي الاستفزازي، وهذا ما كررت الإشارة إليه مراراً فيما بعد. كما أنها تدرك منذ البداية أهمية الأمن والأمان النووي بالنسبة للمرافق النووية في منطقة العمليات العسكرية. وفي البداية، لم تكن روسيا تمتنع عن وصف هذه المرافق النووية بالأوكرانية كما ورد في مذكرتها المرسلة إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث ورد نصاً أن بعثتها الدائمة لدى المنظمات الدولية في فيينا "تبلغ عن الوضع الراهن لأمان المرافق النووية الأوكرانية الموجودة في منطقة العمليات العسكرية الخاصة التي تجري في أوكرانيا"[3].
الخطاب الروسي الواضح حول المنشآت النووية الأوكرانية في منطقة العممليات العسكرية التي تجري على الأراضي الأوكرانية تغير تماماً بعدما أعلنت روسيا عن ضم جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك وكذلك مقاطعتي خيرسون وزابوريجيا، وفي الأخيرة تقع المحطة النووية الأكبر في أوروبا، والتي أصدر الرئيس بوتين مرسوماً خاصاً بنقل ملكيتها ومن ثم إدارتها بالكامل إلى روسيا. وعلى ذلك، باتت موسكو تتحدث في إفادتها للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن تلك المحطة بوصفها "مرفقاً نووياً روسياً"[4].
بينما تحدثت روسيا عن عمل نووي استفزازي تقوم به التشكيلات التي وصفتها بالقومية أو الإرهابية، فإن أوكرانيا ومنذ البداية أيضاً تتحدث عن مواصلة روسيا "ارتكاب أعمال إرهاب نووي ضد المرافق النووية الأوكرانية وبنيتها الأساسية وموظفيها". كما أنها طالبت مبكراً أيضاً بعدم الالتفات للمعلومات التي تقدمها روسيا بخصوص المرافق النووية الأوكرانية معللة ذلك بـ"اعتبار روسيا دولة معتدية ترتكب جرائم حرب على الأراضي الأوكرانية ذات السيادة"[5]. واستمرت أوكرانيا على اتهاماتها تلك لروسيا فحتى بعد مرور أكثر من عام على بدء الحرب، وبعدما غيرت روسيا في الكثير من المعادلات بما فيها ملكية محطة زابوريجيا وإدارتها، تحدثت أوكرانيا عن الإرهاب والابتزاز النووي الذي تقوم به روسيا، حيث أعرب المجلس الأعلى لأوكرانيا عن "قلقه إزاء قيام الاتحاد الروسي بالتخطيط لعمل إرهابي أو إزاء تسببه عمداً بحادث في محطة زابوريجيا"[6].
أوكرانيا من جانبها اعتبرت نقل ملكية محطة زابوريجيا إلى روسيا عملاً عدوانياً، وأن مرسوم الرئيس الروسي في هذا السياق كأن لم يكن، مع المطالبة بفرض عقوبات على شركة روس أتوم الروسية، وما يلحق بها من شركات ومؤسسات[7]، حيث أن هذه الشركة باتت هي المسئولة عن إدارة محطة زابوريجيا.
لم يقف التعارض في السرديتين الروسية والأوكرانية بخصوص ما يجري على صعيد المنشآت النووية الأوكرانية عند هذه المسائل المبدئية، وإنما انتقل إلى تفصيلات كل التطورات تقريباً، بما في ذلك الحوادث التي تقع بالقرب من المحطات. وكان أولها ما وقع في محيط محطة زابوريجيا مساء الثالث من مارس 2022. فقد ذهبت أوكرانيا مباشرة إلى أن روسيا قد قامت بقصف المحطة معتبرة أن ذلك ضمن أعمال "الإرهاب النووي". وتحدثت أوكرانيا عن قتلى من العاملين في المحطة جراء القصف.
من جانبها، نفت روسيا تماماً القيام بقصف المحطة، موضحة أن ما حدث هو تعرض دورية روسية في محيط المحطة لإصلاق نار كثيف من نوافذ أحد مباني التدريب الواقعة خارج المحطة، وأن من قام بذلك مجموعة من المخربين الذين أشعلوا النار في مبنى التدريب قبل مغادرتهم إياه، وأن فرق الإطفاء الروسية هي من قامت بإطفاء الحريق لاحقاً. ومن ثم فقد أدرجت روسيا المبالغات التي سيقت حول الحادث في إطار ما أطلقت عليه "الهيستيريا المصطنعة"[8].
فيما بعد، امتد التعارض بين السرديتين لكل ما وقع من حوادث في المحطات النووية أو بالقرب منها، سواء أكان ذلك ما يتعلق بالعاملين فيها أو بسقوط صواريخ بالقرب منها أو مرورها في أجوائها. ويشمل ذلك باقي محطات أوكرانيا النووية بخلاف زابوريجيا وتشرنوبيل. وكذلك ما يتعلق بمحطة كورسك الروسية. إذ أفادت روسيا بعد ثلاثة أيام فقط من شن الهجوم الأوكراني على كورسك بأنها قد "اكتشف شظايا وبقايا- افترض أنها أجزاء من صواريخ تم اعتراضها- في أرض المحطة، بما في ذلك منطقة مجمع معالجة النفايات المشعة". وقد اعتبرت روسيا أن "تأثير الأعمال الهوجاء التي يرتكبها نظام كييف لا ينحصر في تهديد محطة القوى النووية الروسية فحسب، بل إن هذه الأعمال تعرض قطاع الصناعة النووية العالمي بأسره للخطر"[9]. ويلاحظ هنا أن روسيا تتحدث عن خطر يؤثر على الصناعة النووية العالمية، تماماً كما كانت أوكرانيا تتحدث عن مخاطر قد تطال أوروبا والعالم كله في حال وقوع حوادث نووية في محطاتها النووية. فهل انتقلت حالة "الهيستريا" التي وصفت بها روسيا ردود الفعل الأوكرانية والغربية في هذا الملف إلى روسيا ذاتها؟.
على مستويات مختلفة، تحدثت روسيا عن خطر يتهدد محطتها النووية في كورسك سواء عبر وزارة الخارجية أو أعضاء في البرلمان الروسي وحتى الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين تناول هذا الأمر[10].
وفي السياق نفسه الذي تحدثت فيه روسيا بخصوص محطة كورسك، كانت أوكرانيا قد تحدثت قبل حوالي ثلاثة أسابيع من عمليتها في كورسك عن وجود مسيرات روسية بالقرب من محطاتها النووية في كل من ريفيني وخميلينتسكي وجنوب أوكرانيا في تواريخ مختلفة. وقد اعتبرت أن ذلك يمثل "انتهاكاً جسيماً للمبدأ الأول من المبادئ الملموسة الخمسة التي حددها المدير العام للوكالة"[11]. وقد كررت أوكرانيا ذلك التحذير في إفادتها إلى الوكالة في الثالث والعشرين من أغسطس 2024، فبعد أن عددت حوادث مرور مسيرات روسية بالقرب من محطاتها النووية، ووجود حطام بعضها بالقرب من بعض المواقع النووية، انتهت إلى أن ذلك "يشكل تهديداً خطيراً لكل أجهزة التوزيع المفتوحة لمحطات القوى النووية والمحطات الفرعية الرئيسية التي ترتبط بها خطوط الكهرباء لتلك المحطات"[12]. بينما روسيا كانت قد أفادت قبل ذلك بيوم واحد بأمر مشابه تماماً متهمة أوكرانيا بما اتهمتها به بخصوص الطائرات المسيرة، لكن هذه المرة تجاه محطة زابوريجيا والهدف من السلوك الأوكراني كما تراه روسيا هو "شن هجمات وأعمال استفزازية ضد محطة زابوريجيا ومدينة إنيوجودار"[13].
هذا التعارض بين السرديتين النوويتين هو جزء من التعارض بين سرديتين أعم بخصوص ما يجري بين البلدين ليس فقط منذ العام 2022 عندما بدأت العمليات العسكرية، وإنما قبل ذلك بسنوات. وتماماً كما أن لكل سردية عامة منطقها المتسق، فإن كل سردية نووية لها منطقها المتسق أيضاً. ويبقى الفارق في السردية النووية أنها قد تنقلب إلى حادث مأساوي لن تجدي معه كل الحجج والمبررات سواء أكانت صحيحة أم مختلقة.
جدلية القنبلة القذرة
القنبلة القذرة هي قنبلة تحتوي على مواد متفجرة تقليدية مضافاً إليها مواد مشعة لكنها ليست في نقاء المواد التي تكون في القنبلة النووية. ومن ثم فإنها لا تعد من أسلحة الدمار الشامل وإنما تعد سلاح اضطراب شامل بحكم ما تحدثه من آثار في مساحة قد تضيق أو تتسع بحسب مجموعة من الاعتبارات منها حالة الطقس. ويبقى أثرها النفسي كبيراً على سكان المنطقة التي تُلقى فيها وبالقرب منها جنباً إلى جنب مع آثارها الجسدية بطبيعة الحال[14].
الاتهامات الروسية لأوكرانيا بالإعداد لاستخدام القنبلة القذرة ضد محطة كورسك كانت واضحة، حيث أن وزارة الدفاع الروسية حذرت من "تخطيط نظام كييف لاستهداف محطة كورسك بقنبلة قذرة، واتهام روسيا بافتعال تسرب إشعاعي"[15]. كما أن مصادر روسية أشارت إلى أن محطة كورسك ليست وحدها التي ستكون محلاً لتلك الهجمات الأوكرانية بالقنابل القذرة، وإنما أدرجت محطة زابوريجيا أيضاً ضمن أهداف هذه القنابل[16]. والجدير بالذكر أن روسيا كانت حتى قبل اندلاع الحرب مع أوكرانيا تحذر من الاستخدام الأمريكي لمعامل بيولوجية وكيميائية في أوكرانيا للعمل على تصنيع أسلحة ملوثة أو إنتاج فيروسات يمكن استخدامها ضد روسيا وغيرها من الدول.
في شهر أكتوبر من العام 2022، قدمت روسيا سيناريو كاملاً لما اعتبرته خطة أوكرانية لاستخدام القنبلة القذرة مع التخطيط لإلصاق التهمة بروسيا. السيناريو الروسي يبدأ بالتأكيد على أن أوكرانيا قد قامت بصنع نموذج للصاروخ الروسي المعروف باسم إسكندر، وأن الرأس الحربي لهذا النموذج سوف يحتوي على مواد مشعة، ومن ثم تقوم أوكرانيا بعملها الاستفزازي المتمثل في إطلاق هذا النموذج المطابق للصاروخ الروسي، وعند تنفيذ هذا العمل تقوم قوات الدفاع الجوي الأوكرانية بالإعلان عن اعتراض صاروخ روسي من طراز إسكندر في أجواء المنطقة المحظورة حول محطة تشرنوبيل، ويترافق مع ذلك حملة إعلامية عالمية يتم فيها عرض شظايا النموذج الذي صنعته أوكرانيا لصاروخ إسكندر على أنه الصاروخ الروسي ذاته[17].
هذه الاتهامات ليست بالجديدة، حيث أن روسيا ترددها منذ بداية الصراع، وقد استدعت هذه الاتهامات ردوداً من أوكرانيا، ومن قبل حلفائها، وكذلك من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أوكرانيا نفت تماماً سعيها لتصنيع هذا النوع من الأسلحة فضلاً عن السعي لاستخدامها فعلياً، ناهيك عن التأكيد على سيطرتها التامة على معاملها البحثية في تلك المجالات، وأنه لا وجود أجنبي فيها. إلى جانب التأكيد على طابعها العلمي وأهدافها الصحية، وشفافية عملها[18]. لم تكتف أوكرانيا بالنفي، بل إنها ذهبت إلى أن روسيا وتحت ستار اتهاماتها تلك يمكنها أن تستخدم ذلك النوع من القنابل على الأراضي الأوكرانية مع إلقاء اللوم على كييف، أو أنها تسوق تلك الاتهامات تبريراً لما اعتبرته أوكرانيا في حينه اعتداءً غير مشروع على هدف نووي سلمي، حيث لم تكن روسيا في ذلك الوقت قد سيطرت بعد على محطة زابوريجيا، أو أن ذلك يمثل عامل تهديد للغرب الذي يدعم أوكرانيا. وزادت أوكرانيا على كل ذلك بأن روسيا لم تستطع أن تقدم دلائل مقنعة على اتهاماتها تلك، ومن ثم فإنها ذهبت إلى المطالبة بإجراء تحقيق دولي في الاتهامات الروسية على هذا الصعيد معتبرة أن ذلك يمثل "تهديداً نووياً وإشعاعياً مباشراً لأوروبا والعالم أجمع"[19].
وعادت أوكرانيا في أبريل 2024 ورداً على اتهامات روسية بخصوص القنبلة القذرة معتبرة أن الحملة الروسية هدفها التنصل من المسئولية عما تقوم به موسكو من أفعال في محطة زابوريجيا وصفتها أوكرانيا بـ"المتهورة"، وأن الحملة الروسية لها دلالات من حيث التوقيت سواء لناحية التركيز الدولي المتزايد على أمن وأمان محطة زابوريجيا أو بسبب ما تتعرض له روسيا من انتقادات[20].
فضلاً عن المواقف الأحادية من قبل حلفاء أوكرانيا الرئيسيين، فإن مجموعة السبع الصناعية والتي وقفت منذ البداية مع أوكرانيا كان لها موقف واضح بخصوص هذه القضية. ففي نوفمبر 2022، أعلن وزراء خارجية المجموعة عن رفضهم لما تسوقه روسيا من اتهامات، وأن عمليات التفتيش التي قامت بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أثبتت أن تلك الاتهامات لا أساس لها. ولم يكتف الوزراء بذلك بل إنهم أشادوا بما اعتبروه شفافية من قبل أوكرانيا على هذا الصعيد[21].
الوكالة الدولية للطاقة الذرية من جانبها وفي قرار اعتمدته في السابع عشر من نوفمبر 2022، توصلت إلى أنها "لم تجد أي مؤشرات تدل على وجود أنشطة أو مواد نووية غير معلنة تتعلق بتطوير أجهزة لنشر الإشعاعات (أو "قنابل قذرة") في ثلاثة مواقع في أوكرانيا، بعد معاينات تكميلية بناءً على طلب أوكرانيا، وفقاً لاتفاق الضمانات الشاملة والبروتوكول الإضافي المعقودين مع أوكرانيا، رداً على ادعاءات أدلى بها الاتحاد الروسي وتبين بذلك أنها لا أساس لها من الصحة"[22].
إذن فما بين اتهامات روسية ونفي أوكراني وغربي ومن قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية تبقى مسألة القنبلة القذرة قائمة. فهل يتفاجأ الجميع باستخدامها أم أن المفاجأة ستكون آثارها أكبر بكثير من آثار ذلك النوع من القنابل في حال وقوع حادث نووي في أي من محطات الطاقة النووية في منطقة الصراع الدائرة رحاه منذ أكثر من عامين ونصف؟، وهل تفلح جهود الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الحفاظ على أمن وأمان المحطات النووية في منطقة الصراع رغم استمرار العمليات القتالية؟.
بين الركائز السبع والمبادئ الخمس
منذ بدأت الحرب في أوكرانيا والوكالة الدولية للطاقة الذرية في حالة استنفار بخصوص المسائل النووية المتعلقة بهذه الحرب. فكما ذكر هناك محطات نووية في ساحات المعارك. وقد أرسلت الوكالة بعثات متوالية إلى المحطات النووية. وكان على رأس البعض منها المدير العام للوكالة. وكانت آخر زياراته إلى محطة كورسك في روسيا في الأسبوع الأخير من أغسطس 2024، والذي كانت له زيارات عديدة إلى روسيا من قبل للقاء المسئولين الروس والتنسيق معهم بخصوص أمن وأمان المحطات النووية في أوكرانيا. ومن الطبيعي والأمر كذلك أن يكون قد زار أوكرانيا أيضاً مرات ومرات، حيث أن زيارته المقررة إلى أوكرانيا في الأسبوع الأول من سبتمبر 2024 هي العاشرة. كما أن الوكالة تصدر بشكل متوالٍ بيانات بخصوص ما يستجد في المحطات النووية في منطقة الصراع، والتي قاربت المائتين وخمسين بياناً منذ بدء الحرب. وقد أصدرت تقارير بعد الزيارات التي يقوم بها خبراؤها. فضلاً عن تواجد خبراء لها على الأرض لمراقبة ما يحدث.
ويأتي هذا انطلاقاً من مسئوليات الوكالة، والتي تتطلب التصرف بالسرعة والحسم اللازمين طالما كان هناك تهديد للأمن والسلامة النوويين، حيث أن الحضور المسبق للوكالة يساعد في استقرار الوضع على حد وصف المدير العام، الذي أكد على وضوح رسالته منذ بداية الحرب والمتمثلة في "ضرورة تجنب وقوع حادث نووي بأي ثمن" ومن ثم التأكيد على أن لا تكون المحطات النووية هدفاً لأي هجمات[23].
وخلال هذه الحرب، وضعت الوكالة مجموعة من الركائز الضرورية من أجل استمرارية عمل المحطات النووية في منطقة الصراع بشكل آمن. وقامت برصد مخالفات تلك الركائز. كما أنها وضعت مجموعة أخرى من المبادئ في ظل استمرار الحرب، وتزايد المخاطر.
الركائز التي وضعتها الوكالة تتمثل في سبع: أولها، المحافظة على السلامة المادية للمرافق النووية، ويشمل ذلك المفاعلات وأحواض الوقود وأماكن تخزين النفايات المشعة. وثانيها، استمرار عمل نظم ومعدات الأمان والأمن بكامل طاقتها وفي كل الأحوال. وثالثها، ضرورة تمكن الموظفين القائمين بأمر تشغيل المنشآت النووية من القيام بواجباتهم المرتبطة بالأمن والأمان، وأن يكونوا قادرين على اتخاذ القرارات دون ضغوط. ورابعها، أن تتوفر لكل المواقع النووية إمدادات آمنة بالكهرباء عبر الشبكة الكهربائية خارج تلك المواقع. وخامسها، توفر سلاسل الإمداد اللوجستية ووسائل النقل دون انقطاع من الموقع وإليه. وسادسها، توفر النظم الفعالة للرصد الإشعاعي وتدابير التأهب والتصدي للطوارئ داخل الموقع. وسابعها، توفر وسائل الاتصال الموثوقة مع الهيئة الرقابية وغيرها[24]. وقد دأبت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقاريرها على رصد مدى تطبيق تلك الركائز. ودون الدخول في التفاصيل، فإنها في تقريرها الصادر في نوفمبر من العام 2022 انتهت فيما يتعلق بمحطة زابوريجيا إلى أنه قد حدث إخلال متواصل بهذه الركائز السبع مما يجعل الوضع في المحطة خطيراً وهشاً وصعباً بدرجة كبيرة[25]. وكانت الوكالة في تقريرها الصادر في سبتمبر من العام 2022 أفادت أيضاً بأن كل الركائز السبع قد تعرضت للخطر، وأنها لذلك قدمت توصيات تفصيلية خاصة بكل ركيزة من الركائز[26]. وفي تقريرها الصادر نهاية فبراير من العام 2024 والذي يغطي الفترة من منتصف نوفمبر 2023 وحتى الثالث والعشرين من فبراير من العام 2024، انتهت الوكالة إلى أن ست من الركائز السبع قد تعرضت لإخلال جزئي أو كلي[27].
من الواضح أن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتحدث عن إخلال جزئي أو كلي بكل أو بمعظم الركائز السبع التي كان قد تم وضعها في الأيام الأولى للحرب، حيث تمت مناقشتها في مجلس محافظي الوكالة في الثاني من مارس 2022 ومن ثم أصدر المدير العام للوكالة بياناً بها في الرابع من الشهر نفسه، وهو اليوم التالي لوقوع الحادث الذي أشير إليه في القسم الأول من الدراسة في محيط محطة زابوريجيا، والذي على إثره عقد مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة جلسة لمناقشة الوضع. وقد تكررت جلسات المجلس لمناقشة الشق الخاص بمحطات الطاقة النووية في ظل الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وفي جلسة المجلس المنعقدة في الثلاثين من مايو 2023، قدم المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية المبادئ الخمس الملموسة بغرض توفير الحماية لمحطة زابوريجيا. وتتمثل هذه المبادئ في[28]:
1- عدم شن أي هجمات من أي نوع من المحطة أو ضدها، لاسيما الهجمات التي تستهدف المفاعلات أو أماكن تخزين الوقود المستهلك أو البنى الأساسية الحيوية الأخرى أو الموظفين.
2- عدم استخدام محطة زابوريجيا للقوى النووية مخزناً أو قاعدة للأسلحة الثقيلة (أي قاذفات الصواريخ المتعددة ونظم المدفعية وذخائرها والدبابات) أو للأفراد العسكريين الذين يمكن استخدامهم لشن هجوم من المحطة.
3- عدم تعريض إمدادات الكهرباء من خارج الموقع إلى المحطة للخطر. وفي سبيل ذلك، ينبغي بذل كل الجهود اللازمة لضمان أن تظل إمدادات الكهرباء من خارج الموقع متاحة وآمنة في جميع الأوقات.
4- حماية جميع الهياكل والنظم والمكونات الأساسية لتشغيل محطة زابرويجيا للقوى النووية بأمان وأمن من الهجمات أو الأعمال التخريبية.
5- عدم اتخاذ أي إجراء يخل بهذه المبادئ.
ومن ثم فإن التقارير التالية للوكالة بدأت تشير إلى مدى التقيد بهذه المبادئ الخمسة جنباً إلى جنب مع الركائز السبع. ففي تقريرها الذي يغطي الفترة من الأول من سبتمبر إلى الرابع عشر من نوفمبر 2023، أشارت الوكالة إلى أنها لم تجد مؤشرات على عدم مراعاة تلك المبادئ. وعلى الرغم من أن ذلك يعني أنه لا يوجد إخلال بهذه المبادئ، إلا أن التقرير استدرك بالقول إن "عدم إمكانية الوصول في الوقت المناسب ودون قيود يحد من قدرة الوكالة على التأكد بشكل كامل من التقيد في جميع الأوقات من المبادئ الخمسة الملموسة".[29]. وقد استمر التقويم نفسه في التقرير الصادر نهاية فبراير 2024 فيما يتعلق بعدم وجود إخلال بالمبادئ الخمسة، وإن كان قد تم التوسع في الاستدراك بحيث باتت "هناك ملاحظات تفيد بأن بعض المبادئ معرضة للخطر خلال الفترة المشمولة بالتقرير" مع إضافة القيود المفروضة على بعثة الدعم والمساعدة الخاصة بالوكالة في المحطة مما يحد من القدرة التي تحدث عنها التقرير السابق فيما يتعلق بالتأكد الكامل من الالتزام بتلك المبادئ في جميع الأوقات[30].
هذه الركائز وتلك المبادئ من الواضح أنها لم تعد قاصرة على محطة زابوريجيا فقط، ولا على مختلف المحطات النووية الأوكرانية، وإنما بات من المطلوب تطبيقها على محطات روسية أيضاً، خاصة في ظل التأكيد الروسي على وجود اعتداءات ضد واحدة من المحطات النووية الروسية على الأقل، مع الجزم بأن من قام بتلك الهجمات هي أوكرانيا[31] وفي ظل زيارة المدير العام للوكالة إلى المحطة المقصودة محطة كورسك، وفي ظل تأكيد الأخير على أن أي هجوم على أي محطة نووية مرفوض بشكل قاطع.
ماذا بعد؟
الوضع المعقد الذي ظهر مع بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا فيما يتعلق بالمنشآت النووية السلمية الأوكرانية كان وضعاً غير مسبوق. وقد ازداد تعقيداً مع تطورات الحرب وما رافقها من قرارات سياسية فيما يتعلق بواحدة من تلك المحطات. وهاهي ساحة الحرب تشمل أراضٍ روسية وبالقرب منها محطة نووية قد تصبح محطات أيضاً. فهل تخطط أوكرانيا لتكرار السيناريو الروسي في محطة زابوريجيا في محطة كورسك، ومن ثم تكون المساومة محطة نووية مقابل محطة نووية، تماماً كمنطق أرض مقابل أرض؟.
لا شك أن الوضع يزداد خطورة مع توسع رقعة العمليات العسكرية، وعدم وجود أفق فيما يتعلق بمفاوضات وقف الحرب في ظل التعارض التام بين مطالب كلا الجانبين. فهل يمكن أن تكون هناك اتفاقات خاصة بتحييد محطات الطاقة النووية وتجنيبها المخاطر؟. حتى هذا الأمر يبدو صعباً للغاية. لكن ينبغي مواصلة الجهود على كل المستويات لتجنب وقوع كارثة نووية. وهذا ما يؤكد عليه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية دائماً.
بما أن الصراع الروسي-الأوكراني المباشر هو الأول من نوعه في مناطق توجد فيها منشآت نووية، فإنه قد أفرز مجموعة من القواعد المهمة بخصوص كيفية تعامل الجهة الدولية المعنية بالأمن والأمان النووي في العالم وتطبيق نظم الضمانات ممثلة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن يبقى الأهم هو الالتزام بتلك القواعد من قبل الأطراف المتحاربة أولاً. وفي الوقت نفسه، يطرح السؤال عما يمكن أن يترتب على الجهة التي تخل بهذه القواعد؟، وقبل ذلك ما هي الجهة المخولة ببيان أي الجهات تخل بالقواعد؟، وماذا لو كانت كل الجهات المتحاربة ترتكب مخالفات لتلك القواعد؟، وإذا كانت ثمة عقوبات قد تفرض على المخالفين فما هي الجهة التي يمكنها تطبيق هذه العقوبات؟، وماذا لو لم تؤت العقوبات المرجو منها؟.
في ظل الإقبال المتزايد على تشييد محطات الطاقة النووية في العالم بعدما تم تجاوز تداعيات كارثة فوكوشيما اليابانية على ضوء تداعيات الزلزال وتسونامي في مارس من العام 2011 على صناع القرار وإلى حد ما الرأي العام يحتاج العالم إلى ضمانات أكثر لأن لا يكون هناك حادث نووي في أي من تلك المحطات جراء عمل عسكري حتى لو لم تكن المحطة النووية هي المستهدفة مباشرة بالعمل العسكري.
الحالة الروسية-الأوكرانية أثبتت أن وجود المحطات النووية لم يكن رادعاً لبدء عمليات عسكرية في المناطق التي تقع فيها تلك المحطات. ناهيك عن توسع هذه العمليات وتأثيرها بشكل مباشر أو غير مباشر على سير العمل في تلك المحطات. فهل يمكن القول أنها قد حدت من تلك العمليات على الأقل في محيط تلك المحطات؟. لا يمكن الوصول إلى إجابة شافية بهذا الخصوص لا سيما وأن المحطات النووية باتت هدفاً لفرض السيطرة العسكرية عليها، ومن ثم التحكم في تشغيلها وصيانتها وصولاً حتى إلى نقل ملكيتها بالكامل.
هناك استنتاجات كثيرة بالفعل خلصت إليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بخصوص وضع المحطات النووية في أوقات النزاعات المسلحة. والأمر لا يقف فقط عند ما ذكر عن الركائز السبع والمبادئ الخمس، وإنما تبقى هناك أمور فنية تفصيلية كثيرة. لكن ومرة أخرى الأمر في مثل هذه الحالات لا يتعلق بمسائل فنية فقط. الأمر مرتبط برؤى استراتيجية ومن ثم خطط عسكرية وتحركات سياسية. هذه الرؤى والخطط والتحركات تحتاج إلى ناظم قانوني فيما يتعلق بالمنشآت النووية السلمية في أوقات النزاعات المسلحة. وربما يحتاج الأمر إلى تطوير ما هو قائم من تلك القواعد. لكن سيستمر السؤال مطروحاً عن الضمانات التي تكفل الالتزام بتلك القواعد.
مما يلفت النظر فيما يتعلق بالشق النووي الخاص بالمنشآت النووية السلمية في الصراع الروسي-الأوكراني أن ما كان يساق من مخاوف بخصوص استغلال جماعات إرهابية مواد نووية لممارسة ما أطلق عليه الإرهاب النووي والابتزاز النووي عبر الإضرار بالمنشآت النووية السلمية أو تصنيع قنابل بها مواد مشعة يطلق عليها القنابل القذرة بات ينسب إلى دول. وباتت دول تكرر هذه الاتهامات، وتحدد المواقع التي تصنع فيها مثل هذه القنابل، بينما تنفي دول أخرى. وهنا يطرح السؤال بخصوص تجدد الاتهامات الروسية لأوكرانيا على هذا الصعيد بخصوص محطتى زابوريجيا وكورسك، فهل ستقوم الوكالة الدولية بإجراء تحقيقات جديدة بعدما نفت الاتهامات الروسية السابقة على هذا الصعيد؟، وهل ستبادر أوكرانيا كما فعلت في السابق بطلب إجراء تحقيق دولي بخصوص هذه الاتهامات؟.
إذا كان من المعلوم أن الحروب على مدار التاريخ كان لها تأثيرات على سيادة الدول المتحاربة، فإن الحرب الروسية-الأوكرانية أضافت بعداً جديداً لهذه النوعية من التأثيرات يمكن تسميته بـ"السيادة النووية". فحتى هذه السيادة إن جازت التسمية لم تعد بعيدة عن التأثير الذي قد يصل إلى الإلغاء التام.
ومما يزيد الأمور تعقيداً في الصراع الروسي-الأوكراني أنه قد اجتمعت المخاطر النووية في شقيها المدني والعسكري. فإذا كانت السطور السابقة قد قدمت صورة لما وقع في الشق النووي المدني، فإن الشق العسكري شهد ارتفاعاً حاداً في لهجة الخطاب النووي، كما صاحب ذلك إجراءات وإجراءات مضادة على صعيد الاتفاقيات الدولية بين القوى النووية، ناهيك عن وجود إجراءات تتعلق بنشر أسلحة نووية تكتيكية في مناطق لم تكن موجودة فيها، أو أنها كانت قد أزيلت منها، ناهيك عما يمكن أن يطال العقائد النووية من تغيير. إضافة إلى استمرار نهج تطوير الترسانات النووية، والظلال الكثيفة التي ألقيت على فرص تخلي الدول الحائزة للسلاح النووي خارج نطاق معاهدة حظر الانتشار النووي، فضلاً عن إمكانية التحاق دول أخرى بركب هذه الدول، مما يعني أن النظام الدولي لمنع الانتشار النووي يواجه تحديات كبيرة وغير مسبوقة قد تؤدي إلى تصدعه بالكامل.
[8] لتفاصيل أكثر حول الروايتين الروسية والأوكرانية حول الحادث المذكور راجع: السيد صدقي عابدين، الحالة الأوكرانية: إشكاليات أمن المنشآت النووية المدنية في ظل النزاعات العسكرية.. (أبوظبي: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، سلسة دراسات المستقبل العدد 14 أغسطس 2022). ص ص 26 ـ 27.
[24] السيد صدقي عابدين، مرجع سابق. ص 16.
[30] الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأمان النووي والأمن النووي والضمانات في أوكرانيا. 28 فبراير 2024، مرجع سابق، ص 35.