جدل داخل إسرائيل حول مغزى وتداعيات الضربة ضد حزب الله
2024-8-31

سعيد عكاشة
* خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

أثارت العملية العسكرية التي نفذتها إسرائيل ضد حزب الله في 25 أغسطس 2024، الكثير من الجدل حول مدى أهميتها في تحقيق اختراق ملموس لوضع التوتر الدائم علي الحدود الشمالية لإسرائيل منذ ما يقرب من أحد عشر شهراً. وبدا بوضوح أن الارتباك في فهم حدود العملية لم يكن قاصراً علي الرأي العام الإسرائيلي وحده، بل عانى منه كبار المحللين الأمنيين والسياسيين في إسرائيل. أيضاً كان هناك اختلاف كبير بينهم حول التداعيات المنتظرة لهذه العملية على المدى المنظور. وسوف نستعرض هنا ملامح الارتباك والخلافات في الداخل الإسرائيلي حول تلك العملية من خلال المحاور التالية:

الخلاف حول تحديد طبيعة العملية

في الوقت الذي تشير الرواية الرسمية على لسان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى وصف العملية كضربة استباقية Preemptive Strike استهدفت تفكيك هجوم وشيك من جانب حزب الله نحو إسرائيل، تحت مبرر الانتقام من اغتيال إسرائيل للقائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر في 30 يوليو الماضي، فإن التغطية الإعلامية الإسرائيلية للعملية أوحت بنوعٍ من الإحباط الذي يعتمل في أوساط النخبة الإسرائيلية، بسبب تحولها لمناقشة الدواعي الافتراضية لهذه العملية والتي كان ينبغي ألا تكون أقل من إجبار حزب الله على الانسحاب إلى شمال نهر الليطاني الذي يبعد نحو 30 كيلومتر من الحدود اللبنانية–الإسرائيلية. بمعنى آخر، لم تتعامل النخب والجمهور الإسرائيليين مع العملية كضربة استباقية كما تقول الرواية الرسمية، بل كحرب وقائية Preventive War فشلت في تحقيق أهدافها، حيث أن مثل تلك الحرب، حسب التعريف السائد في المفاهيم الأمنية عامة، أنها تستهدف ضمن ما تستهدف منع العدو من حيازة ميزة استراتيجية تساعده على تنفيذ ضربة عسكرية كبيرة مستقبلاً. ولأن تواجد حزب الله بالقرب من الحدود الإسرائيلية من شأنه أن يُسهِّل توجيه مثل هذه الضربة، فضلاً عن أنه أدى إلى نزوح ما يقرب من 80 ألف مواطن إسرائيلي من مدنهم في الشمال، فإن العملية التي نفذها الجيش الإسرائيلي لم تؤدي إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي منها. بمعنى آخر، كانت التعليقات في الإعلام الإسرائيلي تعكس عدم الرضا عن أهداف العملية بسبب الفجوة بين الأهداف التي حددها المستوى السياسي وبين رؤية وتوقعات أصحاب هذه التعليقات من النخبة الإسرائيلية لمثل هذه العملية.

جانب آخر من الخلاف حول طبيعة العملية تجسد في تصريح للعقيد عنان عباس، رئيس الرقابة في غرفة العمليات المركزية للقيادة الشمالية الإسرائيلية، في مقابلة مع جريدة  معاريف في27  أغسطس الجاري، ذكر فيه أن "العملية الأخيرة ضد حزب الله تطلبت أشهراً من التحضير الدقيق".

وإذا ما صدق هذا التصريح، فإن العملية التي نفذها الطيران الإسرائيلي لم تكن ضربة استباقية رداً على محاولة حزب الله الانتقام لمقتل فؤاد شكر أواخر شهر يوليو الماضي، بل كانت جزءاً من الحرب المستمرة بين حزب الله وإسرائيل منذ أكتوبر الماضي، وكان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله قد أنكر بدوره أن تكون الضربة الإسرائيلية استباقية، واصفاً إياها بالعمليات العدائية المستمرة من جانب إسرائيل ضده.

وحتى بافتراض صحة الرواية الإسرائيلية عن أن العملية كانت ضربة استباقية، فلماذا لم تمنع هذه الضربة (كما هو مفترض) حزب الله من إطلاق 340 صاروخ وطائرة مسيرة صوب إسرائيل؟

تحاول الرواية الإسرائيلية حل هذا التناقض عبر تسريب تقارير تفيد بأن حزب الله كان يخطط لإطلاق ستة آلاف صاروخ، وبالتالى فإن عدم تمكن الحزب من إطلاق سوى قرابة 6 % فقط من الحجم الذي كان يخطط له يعتبر بمثابة نجاح كبير للعملية الاستباقية. ولكن في كل الأحوال لا يمكن الحكم على مدى صحة أي من رواية حزب الله أو إسرائيل عن حجم العملية وأهدافها وأيضاً نتائجها.

تناقضات الرؤية الإسرائيلية للعملية

خلافاً للتأكيدات العديدة من جانب نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يؤاف جالانت من أن جبهة الشمال تٌعد المصدر الأكبر للخطر بسبب امتلاك حزب الله لمئات الآلاف من الصواريخ الأكثر دقة وتدميراً من مثيلتها لدى حماس والجهاد في غزة، فإن العملية "الاستباقية" التي نفذتها إسرائيل ضد حزب الله احتوت على رسالة مؤداها أن إسرائيل ليست مشغولة في الوقت الراهن بالمواجهة الشاملة مع حزب الله، وأنها ما تزال تتبنى سياسة دفاعية بحتة هناك، وهو ما عبر عنه الكاتب عاموس هرئيل في هارتس في 27   أغسطس الجاري قائلاً: "إسرائيل، من خلال تصرفاتها الأخيرة، عندما كان حزب الله يحضّر لإطلاق طائرات مسيّرة في اتجاه قواعد استخباراتية في منطقة جليلوت، شمالي تل أبيب، أوصلت رسالة مفادها، عملياً، بأن مسألة قصف الشمال مقبولة منها"، وهي رسالة مضمونها عكس ما ادعاه يؤاف جالانت من أن حزب الله أدرك جيداً أن إسرائيل جاهزة لأي تصعيد بما في ذلك الحرب الشاملة إذا ما استمر القصف على مدن الشمال الإسرائيلية.

جانب آخر من تناقض الروايات الإسرائيلية يتعلق بحجم الضربة ونتائجها، فقد نشر الموقع الإخباري الإسرائيليynet  خرائط توضح الأهداف التي قصفها الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، وادعى الموقع أن تلك الأهداف كانت موجودة في مناطق مدنية!، ولكن هذه الرواية لا تقدم تفسيراً لعدم وجود ضحايا من المدنيين اللبنانيين بعد انتهاء القصف، وهو ما يعني أن تلك الخرائط ربما ليست صحيحة، وأنها استهدفت فقط تأكيد الادعاءات الإسرائيلية السابقة في غزة، والتي عزت ارتفاع عدد القتلى المدنيين الفلسطينيين بسبب وضع حماس لأسلحتها ومقاتليها في داخل التجمعات السكانية. كما يمكن فهمها أيضاً على أنها تمهيد مستقبلي لتبرير سقوط أعداد كبيرة من المدنيين اللبنانيين في أي مواجهة محتملة في المدى القريب.

التداعيات المنتظرة للعملية

اعتبرت بعض التعليقات في الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية أن العملية كانت بمثابة فرصة ضائعة لتصفية الخطر الكامن في جبهة الشمال، وأنها منحت حزب الله الفرصة لمعرفة حجم الاستعداد العسكري الإسرائيلي لمواجهة أكثر اتساعاً، وبالتالي فقد تتسبب في خطر أكبر على الداخل الإسرائيلي خاصة مع توعد حزب الله بأن يحدد خطوته التالية بعد تقييم نتائج الضربات التي وجهها لإسرائيل أثناء العملية الاستباقية الإسرائيلية.

كما أكدت تعليقات أخرى على أن الأيام القادمة ستحدد أثر العملية الاستباقية على سلوك حزب الله، حيث لوحظ انخفاض حجم الضربات المتبادلة بين الجانبين بعد إعلان حزب الله نهاية رده الانتقامي، ولأنه من الصعب على حزب الله التوصل إلى معلومات مؤكدة عن حجم التدمير الذي أحدثته صواريخه ومسيراته التي أطلقها نحو إسرائيل في وقت متزامن مع العملية الاستباقية الإسرائيلية، فإن الاحتمال الأكبر أن يعود الحزب للمحافظة على سخونة الجبهة في الشمال مع إسرائيل، من ناحية للتأكيد على مزاعمه بأن العملية الإسرائيلية لم تكن ناجحة ولم تتسبب في ردعه، ومن ناحية أخرى لأن الحزب يدرك أن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية ضد قادته ستستمر وبالتالي لا يمكن التوقف عن الاشتباك والقيام بالرد على تلك العمليات.

غير أن أخطر النتائج التي ستترتب على الضربة الإسرائيلية ستكون من نصيب الداخل الإسرائيلي الذي بات منقسماً حول سياسة المواجهة مع حزب الله، حيث عبّرت بعض مقالات الرأي في إسرائيل عن غضب فئات واسعة من سكان الشمال الذين يرون في الإحجام عن الدخول في حرب واسعة ضد حزب الله لإنهاء الخطر الجاسم عليهم، بمثابة نوع من التمييز غير المفهوم في حق كافة مواطني الدولة في التمتع بالأمن، إذ أنه في حين أدى تركيز الجيش على تدمير حماس في الجبهة الجنوبية إلى عودة بعض سكانه إلى مناطقهم رغم استمرار الحرب في القطاع ليقينهم بأن حماس لم تعد خطراً كبيراً كما كان الأمر منذ أشهر قليلة، فإن الدولة لا تبدو مهتمة بإعادة سكان الشمال إلى مدنهم وتحرص على عدم استفزاز حزب الله، وهو ما عبّرت عنه الكاتبة نوعا لنداو في مقال نشرته في صحيفة هارتس في25  أغسطس الجاري بقولها: "صحيح أن منطقة تل أبيب والوسط تصرفت بشكل عادي، وعادت إلى روتين الحياة النسبي سريعاً بعد تنفيذ الضربة الاستباقية الإسرائيلية، لكن بالنسبة إلى سكان الشمال الذين أرسلوا رسائل غاضبة للحكومة، وأطلقوا على العملية اسم "سلام تل أبيب"، فإن هذه الحقيقة شددت أكثر على أن الدولة لم تنجح في إزالة التهديد المستمر لمناطق سكناهم، حتى إنها لم تدفع حزب الله إلى التراجع بشكل فعلي".

كذلك أظهر استطلاع للرأي نشرته معاريف في 28  أغسطس الجاري الواقع التالي:

1- رداً على سؤال ما إذا كان ينبغي أن تكون الضربة الاستباقية التي وجهتها إسرائيل ضد حزب الله في بداية الأسبوع أوسع نطاقاً، حتي لو أدت إلى حرب شاملة؟، قال نحو 54% بأنه كان يجب أن تكون واسعة، وأجاب 25% بـلا، فيما رد الـ21% الباقون بلا أعرف أو بإجابات أخرى.

2- رداً على سؤال ما إذا كانت إسرائيل تكسب الحرب أم تخسرها؟، فإن 60% من المستطلعين لا يعتقدون أن إسرائيل تنتصر، في حين يعتقد 26% أن إسرائيل تنتصر، و27% يعتقدون أنها تخسر، و40% يعتقدون أن إسرائيل لا تنتصر ولا تخسر، و7% لا يعرفون.

وكما هو واضح من هذا الاستطلاع، فليس هناك رضاء كبير عن أهداف الضربة التي وجّهت لحزب الله، كما أن هناك حالة تشاؤم عامة من النتائج المنتظرة لحروب إسرائيل الحالية. ويعني ذلك تزايد الضغوط على نتنياهو للدخول في حرب واسعة مع حزب الله في المدى القريب، ويبقى السؤال الأهم: هل يتمكن نتنياهو من كبح مطالب الرأي العام بتصفية الخطر على جبهة الشمال مرة واحدة وإلى الأبد ومهما كانت التكلفة، أم تظل الجهود الدولية والإقليمية التي تسعى لعدم توسع الحرب قادرة على موازنة الضغوط الداخلية في إسرائيل والتي تذهب في مسار عكسي؟


رابط دائم: