قام الرئيس السورى بشار الأسد بزيارة لموسكو فى 25 يوليو 2024. الزيارة جاءت فى سياق مرور 80 عاماً على إقامة العلاقات الدبلوماسية الروسية-السورية، لكنها فى الحقيقة تحمل أهدافاً وتطرح دلالات تتعدى سياق الاحتفال بالعلاقات الثنائية؛ حيث تأتى فى ظل متغيرات إقليمية ودولية جديدة تؤثر بصورة أو بأخرى على الحالة السورية، منها ما يتعلق بالتصعيد الذى تشهده المنطقة على وقع العدوان الإسرائيلى على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، والذى يدخل شهره العاشر ملقياً بتأثيرات شديدة الوطأة على بؤر الصراعات فى المنطقة الداخلة ضمن ما يسمى بـ"محور المقاومة الإقليمى"، ومنها الساحة السورية التى تعمل فيها العديد من المليشيات التابعة لإيران، الراعى الإقليمى لهذا المحور. ومنها ما يتصل بترتيبات خرائط النفوذ فى الشمال السورى ما بين تركيا والولايات المتحدة وروسيا والنظام السورى فى ضوء متغير الانتخابات الأمريكية المرتقبة فى 5 نوفمبر 2024. ومنها أيضاً ما يتعلق بمسار تركيا تجاه تطبيع العلاقات مع النظام السورى على وقع أربعة إشكاليات تتوسط العلاقات الثنائية:
أولها؛ إشكالية العودة الطوعية للاجئين السوريين. وثانيها؛ إشكالية الوجود العسكرى التركى فى شمال سوريا وما خلّفه من منطقة عازلة بعمق 15-30 كيلومتر داخل الأراضى السورية. وثالثها؛ إشكالية مناطق الإدارة الذاتية الكردية بإشراف قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وتحديداً وحدات حماية الشعب التى تمثل هاجساً أمنياً لتركيا من ناحية، وتشكل انتقاصاً من السيادة السورية على مجمل أراضيها من ناحية ثانية، مما يجعلها إشكالية بإمكانها خلق فرص مشتركة للتقارب بشأنها بين الجانبين التركى والسورى. ورابعها؛ مستقبل المعارضة السورية المسلحة التى تدعمها تركيا فى الشمال السورى سواء كان الجيش السورى الحر أو هيئة تحرير الشام.
روسيا وصعوبات التطبيع التركى-السورى
الدعوات المتكررة من قبل الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بخصوص لقاء نظيره السورى بشار الأسد بهدف استئناف العلاقات بين البلدين، بدأت تتبلور رؤيتها من الجانبين مؤخراً؛ فأنقرة ترى أن هناك خطوة تستبق التطبيع الكامل للعلاقات وهى خطوة "تأطير الإشكاليات" بوضع أطر وخطوط عامة لحلول ممكنة بشأنها على المدى الطويل، وأن البدء فى تأطير الإشكاليات والقضايا العالقة بين البلدين يكون خطوة تمهيدية تستبق عودة العلاقات إلى مسارها الذى كانت عليه قبل 13 عاماً. أما دمشق فقد تدرج رد فعلها على الخطوة التركية؛ ففى البداية ربطت تطبيع العلاقات مع أنقرة بعدة شروط أبرزها الانسحاب التركى من مناطق التمركز فى الشمال والشرق السورى (مناطق النفوذ التركى التى أقرتها العمليات العسكرية الثلاثة: درع الفرات عام 2016، وغصن الزيتون عام 2018، ونبع السلام عام 2019)، ووقف الدعم العسكرى التركى لما تبقى من المعارضة السورية المسلحة سواء الجيش الحر، أو هيئة تحرير الشام.
لاحقاً، أبدت دمشق قدراً من المرونة تجاه تلك الشروط، فى ظل إصرار أنقرة على سرعة تطبيع العلاقات الثنائية، وقد جاء هذا التحول على لسان الرئيس السورى بشار الأسد نفسه حينما أعلن مؤخراً "الانفتاح على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا"، على أن تكون تلك المبادرات مستندة إلى مطالب "احترام سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها ومحاربة الإرهاب وتنظيماته". وهنا يلاحظ أن مقولة انفتاح دمشق على مبادرات تركيا جاءت سابقة على شروط دمشق التى سبق وأن أعلنتها لتحقيق هذا الانفتاح، وهى الانسحاب العسكرى التركى الكامل من الأراضى السورية، وهو ما يعد بادرة من قبل الرئيس السورى قد تعطى دفعة قوية لإجراء حوار مباشر من خلال زيارة محتملة قد يقوم بها وزير الخارجية التركى هاكان فيدان لدمشق بهدف وضع "أسس محددة لإطار تفاوضى" يُبنى عليه لقاء نوعي يجمع الرئيسين التركى والسورى فى موسكو خلال الشهرين المقبلين على أقصى تقدير.
قد يبدو من زيارة الأسد لروسيا، فى السياق السابق، أن الأخيرة بصدد الدخول على خط التطبيع بين أنقرة ودمشق بصورة تكاد تكون مباشرة، وكانت الجهود الروسية لإحداث حلحلة فى العلاقات التركية-السورية كانت قد بدأت فى ديسمبر 2022، ونتج عنها عقد عدة لقاءات بين وزراء دفاع البلدين، ثم وزراء الخارجية، فضلاً عن لقاءات أمنية واستخباراتية، حيث تؤسس روسيا علاقات قوية مع أنقرة، وعلاقات تحالف مع دمشق، هذا بخلاف دورها فى الأزمة السورية على مدار الـ 13 عاماً الماضية، فروسيا هى القوة الدولية الممسكة بكافة خيوط الأزمة على كافة مستوياتها الداخلية (بين النظام والمعارضة) والخارجية (ضبط تفاعلات القوى الدولية المنخرطة فيها سواء من حيث: علاقات تحالف مع إيران، أو علاقات توازن مع تركيا، أو علاقات مناوئة مع الولايات المتحدة).
كما أن الظرف الداخلى فى تركيا بات يفرض تأثيراته على توجهات أردوغان، خاصة فى ظل التداعيات الحادة لقضية اللاجئين السوريين على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن نجاح المعارضة التركية فى توظيف هذه الورقة بشكل جيد برزت انعكاساته فى نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية الأخيرة. يضاف إلى ذلك ازدياد الهواجس الأمنية لدى أنقرة من تزايد التهديدات الكردية على حدودها الجنوبية مع اتجاه الإدارة الذاتية الكردية السورية فى شمال سوريا إلى إجراء انتخابات جديدة – أول انتخابات تمت فى عام 2017- من شأنها فى حالة إجراؤها تقليص دور تركيا العسكرى فى مناطق نفوذها فى شمال وشرق سوريا. هذا بخلاف مخاوف أنقرة المتزايدة من فكرة التقارب بين النظام السورى وبين تلك الإدارة، حيث لوحظ وجود مسار ما للتفاوض بين النظام السورى وبين حزب الاتحاد السورى الكردى - العدو اللدود لأنقرة نظراً لعلاقته الوثيقة بحزب العمال الكردستانى التركى المعارض- برعاية "هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطى". هذا المسار إذا نجح فى تحقيق مصالحة أو موائمة بين النظام السورى والإدارة الذاتية الكردية، فإن تركيا ستكون أمام معضلة أكبر من معضلة مواجهة حزب العمال الكردستانى المعارض، لأنها ستواجه الإدارة الذاتية الكردية السورية أيضاً، والتى ستكون حينها قد "تصالحت" مع النظام السورى.
بات أيضاً الظرف الدولى والإقليمى ضاغطاً بدوره على مصالح روسيا وتركيا فى سوريا، وتحديداً متغيران: الأول، مستجدات الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة وتداعياتها، فضلاً عن احتمالات توسعها وتنامى التصعيد الإقليمى بشأنها لاسيما الجبهة اللبنانية، ومن ثم تأثر سوريا بالضرورة بهذه التطورات وهو ما يؤرق روسيا التى ترغب فى إبعاد سوريا عن أى انخراطات عسكرية جديدة. والثانى، اقتراب توقيت الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى نوفمبر المقبل، وما سيترتب عليها من نتائج لاسيما مع ارتفاع حظوظ المرشح الجمهورى دونالد ترامب فى العودة إلى البيت الأبيض مجدداً، وما يحمله ذلك من احتمالين: الأول، احتمالية الانسحاب الأمريكى من شمال شرق سوريا، وهو ما سيعنى استغلال النظام السورى فرصة هذا الانسحاب فى تصعيد مواجهته للمعارضة السورية (الجيش السورى) الذى ترعاه تركيا. والثانى، حدوث انعكاسات حادة على التفاعلات الأمريكية مع كل من: النظام السورى وتركيا وروسيا. وبالتالى فإن ترتيباً ما للأوضاع داخل سوريا بين روسيا وتركيا من شأنه أن يستبق نتائج تلك الانتخابات بأوضاع وخريطة جديدة للنفوذ الإقليمى والدولى فى سوريا عنوانها العريض خروج تركيا من صف المعارضة للنظام السورى، الأمر الذى يستدعى ترتيباً جديداً للعلاقات التركية معه ينطلق من فكرة تأطير الإشكاليات العالقة (وهى الإشكاليات الأربعة التى سبقت الإشارة إليها فى المقدمة)، ثم الانتقال من هذا التأطير إلى مرحلة البحث عن حلول لهذه الإشكاليات، وصولاً إلى مرحلة التطبيع شبه الكامل، أو التطبيع الكامل للعلاقات التركية-السورية.
المصالح الروسية فى التطبيع التركى-السورى
من أهم المصالح التى يمكن أن تحققها المصالحة السورية-التركية عبر الوساطة الروسية هى تلك المتعلقة بتقويض أى تغيير محتمل فى خرائط النفوذ فى شمال سوريا من قبل الإدارة الذاتية الكردية؛ وهى مصلحة ثلاثية روسية-تركية-سورية. وربما أرادت موسكو لفت انتباه أنقرة إلى خطورة الخطوة الكردية السورية بإجراء انتخابات فى مناطق الإدارة الذاتية للأكراد السوريين– رغم تأجيلها – مما يتطلب تعاوناً ثنائياً تركيا-سوريا باعتبار أن مصلحة الطرفين هنا واحدة؛ فأنقرة ستقوض من تمدد الكيان الكردى فى الشمال السورى وتمنع قيام كيان كردى سورى يتعاون ويحتضن فصائل حزب العمال الكردستانى التركى المعارض، والنظام السورى سيحافظ على وحدة أراضيه بمنع تحول الإدارة الذاتية للأكراد فى الشمال إلى نواة لكيان كردى مستقل يهدد تركيا والعراق على حد سواء. فضلاً عن أن قبول تركيا دخول قوات النظام لمناطق النفوذ فى الشمال من شأنه تصدير النظام السورى فى مواجهة الإدارة الذاتية؛ أى مواجهة قوات سوريا الديمقراطية مباشرة، بما يزيد من مناطق سيطرة النظام ودخوله معقل الأكراد وهى مناطق لاتزال خارج سيطرة قوات النظام. إلى جانب ما توفره المصالحة بين النظام السورى وتركيا من فرصة للضغط على الوجود العسكرى الأمريكى فى شمال شرق سوريا، خاصة مع الوضع في الاعتبار احتمال أن يؤدي فوز المرشح الجمهورى دونالد ترامب إلى إعلان الانسحاب الأمريكى من سوريا، لاسيما وأنه سبق وأعلن فى عام 2019، وخلال ولايته الأولى، تخفيض عدد القوات الأمريكية الموجودة هناك.
ويبدو من الزيارة أن الرئيس السورى بشار الأسد أراد أن ينقل – بصورة مباشرة - رأيه لنظيره الروسى بشأن مسار تطبيع العلاقات مع تركيا، على وقع الدعوات المتتالية التى أطلقها الرئيس التركى طيب أردوغان خلال الأسابيع الماضية بخصوص استعداده لمقابلة الرئيس السورى، والبدء فى مسار تطبيع للعلاقات بعد انقطاعها منذ عام 2011. كما يبدو أن ثمة اهتماماً روسياً خاصاً بتحقيق المصالحة بين تركيا وسوريا، فى ظل المستجدات الإقليمية والدولية لاسيما مع اقتراب فعاليات موسم الانتخابات الأمريكية التى قد تؤشر إلى قدوم إدارة أمريكية جديدة، الأمر الذى يتطلب "ترتيب أوراق الحلفاء" بهدف مواجهة أى تغيير محتمل فى سياسات الإدارة الأمريكية تجاه سوريا. ومن ثم، فإن تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السورى يصب فى مصلحة روسيا، التى بمقدورها حالياً دفع نظام الأسد لإبداء مرونة تتعلق بالانسحاب التركى من الشمال السورى، وبالتالي وضع جدول زمني يرتب لهذا التطبيع، والذي يرجح أن تكون تركيا قد سلمته بالفعل لروسيا وعرضته الأخيرة على الرئيس السورى لبدء مسار جديد تجاه تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السورى.
رابط دائم: