في 11 يوليو 2024، نشر الجيش الإسرائيلي بعض نتائج التحقيق الذي تم إجراءه داخل الجيش عن الأحداث التي وقعت يوم اقتحام حركة حماس للحدود الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023. وقد أثار نشر التحقيق العديد من التعليقات من جانب وسائل الإعلام الإسرائيلية، والتي أعادت إلى الواجهة الجدل القديم الذي ثار في 4 يناير الماضي بين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين حول الأهداف المرجوة من إجراء مثل هذا التحقيق وعدم إرجائه لما بعد انتهاء الحرب في جبهتي الشمال والجنوب، وهو ما يطرح تساؤلاً آخر -عقب نشر التحقيق- ومفاده: لماذا يتم نشره الآن؟، وما علاقة ذلك بالمواجهة الممتدة منذ بداية الحرب على غزة وحتى اليوم بين المستوى السياسي (رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والائتلاف الحاكم الذي يقوده) والمستويين الأمني والعسكري (أجهزة الاستخبارات والجيش) على خلفية تفسير أسباب إخفاق الدولة بكل مؤسساتها في مواجهة ما جرى في 7 أكتوبر من العام الماضي؟
خلفيات تشكيل لجنة التحقيق
في وقت مبكر بعد هجوم 7 أكتوبر، أعلن العديد من القيادات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية عن تحملهم مسئولية الإخفاق في التنبؤ بالهجوم، والعجز عن التعامل معه بشكل سريع. في المقابل، فوجئ رئيس الأركان هرتسي هاليفي، ووزير الدفاع يؤاف جالنت، ورئيس جهاز الشاباك رونين بار، ومدير الاستخبارات العسكرية أهارون حاليفا، بأن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يسعى لاستغلال اعترافهم بالمسئولية لتبرئة نفسه مما حدث.
لذلك، يمكن القول إن الجيش وأجهزة الشاباك والاستخبارات العسكرية قد بدأوا في التفكير في تشكيل لجنة "فنية" لفحص الإخفاقات وتحديد أسبابها، بهدف وضع نتنياهو في موقف حرج أمام الشارع الإسرائيلي، بتصويره (أي نتنياهو) كشخص لا يتحلى بالأمانة أو الشعور بالمسئولية، بل ويتصرف بشكل لا أخلاقي عندما يحاول التنصل من المسئولية بإلقاء اللوم على أجهزة الاستخبارات والجيش (نشر نتنياهو تدوينة على منصة تويتر في 28 أكتوبر 2023 زعم فيها أن الشاباك وجهاز الاستخبارات العسكرية لم يقدموا له أي تحذير مسبق قبل هجوم حماس).
وكتأكيد على جدية الجيش والاستخبارات في منع نتنياهو من التهرب من المحاسبة، أعلن رئيس الأركان هاليفي في 4 يناير الماضي تشكيل اللجنة العسكرية التي ستبحث في الإخفاقات، وهو ما أدى إلى صدام حاد بينه وبين عدد من وزراء الحكومة، على رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزيرة المواصلات ميري ريغيف، ووزير التعاون الإقليمي دافيد أمسالم.
اعترض الوزراء الأربعة على قرار هاليفي بتشكيل لجنة التحقيق، بحجة أن المحاسبة على الأخطاء في الوقت الراهن يمكن أن تؤثر على أداء الجيش أثناء الحرب، فيما رد هاليفي، ووزير الدفاع يوآف غالانت، والوزير في المجلس الوزاري الحربي بيني غانتس (استقال من المجلس في يونيو الماضي) بأن العكس هو الصحيح، حيث سيقود فحص ما جرى في 7 أكتوبر إلى تمكين الجيش وأجهزة الاستخبارات من التعلم من أخطائهم، وهو ما سيحسن الأداء أثناء الحرب وليس العكس.
اعتراض آخر لم يأت بشكل صريح، ولكن تمت إثارته في النقاش، حيث اعتبر بعض الوزراء السابقين أن تشكيل لجان التحقيق يأتي بقرار من المستوى السياسي (الحكومة ورئيسها) وليس من حق الجيش تشكيل مثل هذه اللجان، ولكن هاليفي أوضح أن تقييم أداء الجيش من الناحية "المهنية" هو أمر يخصه وحده، وأن قرار تشكيل اللجنة ليس "سياسياً" وبالتالي لا يحق للحكومة الاعتراض عليه، وأن عمل اللجنة العسكرية لا يتعارض مع حق الحكومة في تشكيل لجنة قومية لمناقشة الإخفاقات التي حدثت في الحرب وقبلها.
ورغم ذلك، بدا هاليفي متناقضاً مع نفسه عندما طلب من مراقب الدولة في 17 يونيو الماضي منع أي تحقيقات حول ما جري في 7 أكتوبر إذا كانت ستتضمن الاستماع إلى قادة الجيش والاستخبارات لما قد يسببه من أضرار بعمليات الجيش أثناء الحرب، وهو ما استجابت له المحكمة العليا الإسرائيلية!!
والواضح من كل هذه التطورات أن المعركة بين نتنياهو وقادة كل من الجيش والاستخبارات هي معركة "سياسية" بالأساس تعيد إلى الواجهة الجدل الذي امتد على مدى تاريخ الدولة العبرية حول العلاقات المدنية – العسكرية والتوترات التي كانت ولا تزال تعاني منها حتى اليوم.
ملاحظات على تقرير اللجنة
يمكن إجمال الملاحظات حول التقرير في عدة نقاط على النحو التالي:
1- ما تم نشره مجرد جزء من التحقيقات وليس كلها، وبالتالي لا يقدم هذا الجزء تصوراً كاملاً لأحداث يوم 7 أكتوبر.
2- ركز هذا الجزء على ما جرى في موقع واحد فقط من المواقع التي تمت مهاجمتها في ذلك اليوم، وهو كيبوتس بئيري الذي يعتبر أكبر تجمع سكاني في منطقة ما يسمى بغلاف غزة، والتي تبعد عن حدود القطاع بأربعة كيلومترات فقط، رغم أن هجمات حماس قد امتدّت لنحو 22 موقعاً داخل الحدود الإسرائيلية، منها سبعة قواعد عسكرية.
3- يقر بيان اللجنة بأن اختيار البدء بنشر التحقيقات الخاصة بكيبوتس بئيري جاء بهدف "معنوي" أكثر منه "مهني"، حيث استهدف إعادة بناء الثقة بين الجيش والرأي العام الإسرائيلي عامة وسكان بئيري خاصة، كون الكيبوتس كان أكثر المواقع تعرضاً للخسائر، حيث قُتل أكثر من 100 شخص من سكانه، بالإضافة إلى23 من الجنود الذين حاولوا الدفاع عنه أثناء المعارك التي دارت في الساعات الأولى لهجوم حماس، بخلاف تمكن حماس من أسر 32 شخص آخر من المدنيين والعسكريين (لا يزال 11 منهم في قبضة حماس حتى اليوم).
4- أقر التحقيق بأن الجيش لم يكن مستعداً لسيناريو التسلل الكبير لمسلحين إلى إسرائيل، ولم تكن لديه قوات كافية في المنطقة، ولم يتمكن من رسم الصورة الكاملة للأحداث لمدة سبع ساعات كاملة بعد وقوع الهجوم. وحتى بعد إدخال الجيش مزيداً من القوات في المنطقة كانت هناك فوضى واضحة في قيادة المعارك بسبب الافتقار إلى التنسيق بين تلك القوات وبعضها البعض.
5- يعترف التقرير بأن أفضل وحدات الجيش الإسرائيلي التي كانت موجودة في موقع قريب من الكيبوتس وهي وحدة "جولاني"، ووحدة الاستطلاع التابعة لهيئة أركان الجيش، ووحدة شلداغ (قوات النخبة في سلاح الجو)، تعاملت جميعها مع هجوم حماس بنوع من الارتباك، الذي أدى إلى ارتكاب قادتهم أخطاءً جسيمة منها الانسحاب من ميدان المعركة دون إذن من قيادة الأركان، وهو ما يلقي بظلاله حول الأساطير التي روجها الجيش تاريخياً عن كفاءة وشجاعة جنود هذه الوحدات على وجه الخصوص.
6- يذكر التقرير أن قوات الجيش كانت مهتمة بنقل قتلاها وجرحاها بأكثر من اهتمامها بالدفاع عن سكان الكيبوتس، والذين اعتمدوا على عدد محدود من المتطوعين الذين افتقروا للسلاح، إذ أن معظم البنادق والأسلحة كانت مودعة في مخازن، حسبما تقتضي تعليمات قيادة الجبهة الداخلية لتلافي سرقة الأسلحة. لكن منسّق الأمن في الكيبوتس ونائبه، المسئولَين عن مستودع الأسلحة قُتلا في الدقائق الأولى، ولم يكن لدى أيّ شخص آخر مفاتيح للمستودع.
وتستوقفنا هذه الملاحظة لأهميتها البالغة في فضح الأكاذيب التي روجتها إسرائيل عن أن الأسلحة التي بحوذة حماس تأتي عبر تهريبها من سيناء. إذ أن التقرير يعترف بأن سرقة السلاح في إسرائيل ظاهرة واسعة، الأمر الذي اقتضى منع وجود السلاح في متناول يد الجنود خوفاً من سرقته سواء بواسطة هؤلاء الجنود أو سكان الكيبوتس أنفسهم.
تداعيات صدور التقرير
جاءت ردود الفعل على ما ورد في التقرير معبرة عن حالة من الإحباط، فسكان كيبوتس بئيري الذين رحلوا عن منازلهم منذ 7 أكتوبر لم يتمكنوا من العودة مجدداً بسبب استمرار الحرب، وقد أصدر نواب عنهم بياناً طالبوا الجيش بأن يكون أكثر استعداداً للاعتراف بأخطائه وعجزه عن حمايتهم، كما رأت بعض التعليقات في الصحف الإسرائيلية أن التقرير- سواء ما صدر منه أو ما سيتم نشره من أجزاءه الأخرى - لا يجيب عن أسئلة جوهرية فيما يتعلق بأسباب إخفاق الجيش وأجهزة الاستخبارات في التعامل مع الوضع، وطالبت هذه التعليقات بسرعة تشكيل لجنة قومية تبحث في كافة جوانب الفشل، فعلى سبيل المثال كتب المحلل العسكري لهاآرتس عاموس هرئيل في 12 يوليو الجاري، قائلاً: "يجب ألّا يصرف الاهتمام الكبير الذي من المتوقع أن تحظى به التحقيقات العسكرية، النظر عن إخفاقات المستوى السياسي في قضية غزة، وبصورة خاصة في السنوات التي سبقت الهجوم، فالائتلاف الحكومي له مصلحة في توجيه غضب الجمهور نحو الجيش الإسرائيلي، وسط ازدياد الدعوات إلى استقالة كبار مسئولي الجيش الإسرائيلي".
ولا يعبر هرئيل عن موقف استثنائي أو متفرد، حيث حاولت المعارضة الإسرائيلية تمرير مشروع قرار في الكنيست في 17 يوليو الجاري ينصّ على تشكيل لجنة تحقيق رسمية لتقصّي وقائع الهجوم الذي قامت به حركة حماس، قدمته كتلة حزب "المعسكر الرسمي" التي يتزعمها بيني غانتس، ولكن مشروع القانون لم يمر بعدما صوت ضده 53 عضو كنيست، في حين أيّده 51 عضواً.
هذه التطورات تشير إلى أن المعركة التي أثارها تقرير لجنة الجيش ليست سوى معركة سياسية بين الجيش والاستخبارات ومعارضي نتنياهو من جانب، والحكومة من الجانب الآخر. والأثر الأكثر احتمالاً لهذه المعركة على المدى البعيد هو انتشار الانقسامات داخل أجهزة الدولة كل على حدة، وبينها وبين بعضها الآخر أيضاً. ولأجل ذلك، يبدو مفهوماً لماذا نجح نتنياهو وحلفاؤه حتى الآن في منع تشكيل لجنة تحقيق قومية في ملابسات يوم 7 أكتوبر، حيث يخشى الجميع من أن يكون الثمن هو تفاقم الشقاقات والخلافات إلى حد تهديد أسس الدولة نفسها.