هل يستمر تحالف "كونفدرالية دول الساحل"؟
2024-7-15

د. أحمد عسكر
* باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

لم يكن مفاجئًا إعلان القمة الاستثنائية الأولى لقادة دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو عن تشكيل كونفدرالية دول الساحل في 6 يوليو 2024، خاصة بعد تشكيل تحالف دول الساحل في سبتمبر 2023 عقب توقيع ميثاق ليبتاكو-غورما بين الدول الثلاث، والذي عكس بدوره تطلع العسكريين الجدد للبحث عن مسار إقليمي آخر يلبي تطلعات شعوبهم بعيدًا عن تكتل إيكواس وحلفائها الغربيين، وبمساندة حلفاء جدد لا سيما الروس.

وتمثل هذه الخطوة في الوقت ذاته تحولًا استراتيجيًّا لافتًا ضمن تحولات جوهرية في المشهد الإقليمي بمنطقة الساحل التي يبدو أنها بصدد إعادة تشكيل توازنات القوة الإقليمية والدولية فيها من جديد في ضوء سياق إقليمي يتسم بدينامية التفاعلات المتشابكة والمعقدة على الصعيدين الإقليمي والدولي.

والمتتبع للمشهد الراهن في منطقة الساحل يدرك دوافع قادة الدول الثلاث لتأسيس هذا التحالف، بينما يظل التساؤل الأكثر إلحاحًا في اللحظة الراهنة هو؛ هل يستمر هذا الاتحاد الكونفدرالي؟ وما هو مدى ترابطه بالتفاعلات الدولية في المنطقة؟ وكيف يبدو مستقبل هذا التحالف الجديد؟. 

عوامل محفزة للاستمرار

يجد قادة الدول الثلاث في التحالف الكونفدرالي الجديد كيانًا يضمن لدوله الأعضاء استقلاليتها وحماية سيادتها الوطنية بعيدًا عن التدخل الأجنبي بمباركة من تكتل إيكواس الذي صعّد عداءه لتلك الدول عقب اندلاع الانقلابات العسكرية فيها على مدى السنوات الأربع الأخيرة من خلال فرض عقوبات اقتصادية على مالي وبوركينا فاسو والتلويح بالتدخل العسكري في النيجر في عام 2023. وذلك بالرغم من إدراك النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة إخفاق إيكواس في معالجة التحديات الرئيسية التي تواجه دولها الأعضاء وفي مقدمتها الإرهاب، إضافة إلى تبعيتها للقوى الغربية، ما دفعهم إلى تشكيل الكيان الإقليمي الجديد باعتباره كيانًا موازيًا يمثل فرصة جيدة لإنجاز ما أخفق فيه تكتل إيكواس فيما يتعلق بقضايا الأمن والتنمية في الساحل على مدار السنوات الماضية، وربما يكون منافسًا لإيكواس مستقبلًا في حالة انضمام أعضاء جدد إليه.

كما أن السياق الإقليمي المضطرب في منطقة الساحل يجعل من الضروري البحث عن حلول مبتكرة ومختلفة بدلًا من النمط التقليدي لإيكواس في معالجة الأزمات في المنطقة، وهو ما قد يفسر تمسك القادة الثلاثة بحتمية استمرار التحالف الكونفدرالي خلال المرحلة المقبلة. إذ يتسم المشهد الإقليمي في الساحل بدرجة كبيرة من التعقيد، ويغلب عليه الاضطراب السياسي والأمني على الصعيدين المحلي والإقليمي، وذلك في ضوء تصاعد نشاط الإرهاب الذي يهدد بدوره استقرار دول المنطقة وبالتبعية الإقليم على نطاق واسع. إضافة إلى احتدام التنافس الدولي في المنطقة بين روسيا والغرب بشكل أساسي، وما قد يترتب عليه من تهديد صريح لأمن واستقرار دول المنطقة خلال المرحلة القادمة.

ويتبنى العسكريون الجدد في بعض دول الساحل لا سيما الكابتن إبراهيم تراوري، الرئيس الانتقالي لبوركينا فاسو، خطابًا سياسيًّا مناهضًا للغرب وفرنسا، فهناك رغبة متنامية في فك الارتباط بين دول تحالف الساحل مع الغرب لا سيما فرنسا، خاصة أن قادتها يرون أن الغرب يتبنى سياسة أبوية في علاقته مع الأفارقة وتحديدًا فيما يتعلق بالسيادة الوطنية والاستحواذ على الموارد والثروات الطبيعية الأفريقية. لذلك، يدفع قادة الكيان الجديد نحو تأكيد أن تلك الحقبة قد انتهت للأبد، وأن الأفارقة سوف يستفيدون من مواردهم وثرواتهم، وهو يمثل جزءًا كبيرًا من شرعيتهم السياسية عقب اندلاع موجة الانقلابات الأخيرة، ويدعم شعبيتهم لدى الرأي العام الأفريقي الرافض للوجود الأجنبي في دول المنطقة.

ويعكس ذلك تحولًا بارزًا في توجهات النخبة الحاكمة الجديدة التي لم يعد فيها الغرب هو الشريك المفضل لدى دول الاتحاد الكونفدرالي الجديد الداعمة للتحول نحو استقطاب المزيد من الحلفاء الدوليين الجدد بدلًا من الاعتماد على شريك واحد فقط لم يفلح في تحقيق أي أهداف ذات صلة بمصالح دول المنطقة. بما يعني وجود بديل كفء وحليف استراتيجي في عدد من القضايا لا سيما الحرب على الإرهاب، وهو ما يبرر التقارب مع روسيا التي بات نفوذها يتصاعد بشكل واسع في الساحل بصفة عامة وفي دول الاتحاد الكونفدرالي الجديد بصفة خاصة.

كما يحرص قادة الدول الثلاث على الاستفادة الوطنية من الموارد والثروات التي تتمتع بها بلدانهم، عقب عقود طويلة من استيلاء القوى الغربية على تلك الموارد، وحرمان الأفارقة منها،بما انعكس سلبًا على الدول الأفريقية، لا سيما أن كلًّا من النيجر ومالي وبوركينا فاسو تعد من بين أفقر دول العالم في ضوء اقتصادات زراعية هشة، ومحدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة وارتفاع معدلات البطالة. وهو ما يدفع إلى محاولة الاستفادة من الموارد والإمكانات الاقتصادية في تعزيز التعاون الاقتصادي وتنفيذ مشروعات مشتركة وتحقيق الأمن الغذائي وتفعيل عملية التكامل الإقليمي باعتبارها الفرصة الوحيدة للتغلب على التحديات التي تواجهها هذه الدول. فمن شأن الاتحاد الكونفدرالي الجديد أن يُسهّل التجارة عبر الحدود بين الدول الثلاث والوصول لأسواق جديدة للشركات هناك، ما قد يحفز النمو الاقتصادي ويخلق المزيد من فرص العمل، الأمر الذي يبرر التأييد الشعبي لتحركات العسكريين الجدد للإطاحة بالحكومات السابقة التي تحالفت مع الغرب، وطرد القوى الغربية لا سيما فرنسا من المنطقة من أجل حماية الثروات الأفريقية والاستفادة منها في إعادة بناء دول الساحل.

وقد يقلل قادة الدول الثلاث من تداعيات العزلة السياسية المحتملة التي ربما تفرضها إيكواس حال فشل مساعيها لإقناع الدول الثلاث بالعودة للتكتل الإقليمي مجددًا، في ظل إدراكهم أن إيكواس سوف تضطر للتعاون مع الدول الثلاث فيما يتعلق بجهود مكافحة الإرهاب لا سيما أن مثلث تيلابيري -الذي يقع على الحدود المشتركة بين دول النيجر ومالي وبوركينا فاسو- يعد أخطر البؤر الإرهابية في منطقة الساحل، وبالتالي تتزايد المخاوف من انتقال العناصر الإرهابية إلى باقي دول الساحل وغرب أفريقيا، وما يعنيه ذلك من تهديدات مستمرة لها.

كما أن تصاعد التهديدات الأمنية في منطقة الساحل من شأنه أن يدفع دول الجوار المباشر للدول الثلاث مثل نيجيريا والسنغال وتشاد إلى ضرورة التنسيق والتعاون الأمني مع الاتحاد الكونفدرالي من أجل التصدي لأي تهديدات أمنية وإرهابية في ظل سيولة الحدود بين دول الساحل.

ومع الإعلان عن بعض المشروعات الإقليمية التي تسهّل وصول دول الساحل وخاصة الحبيسة إلى المياه الدافئة سواء البحر الأبيض المتوسط أو المحيط الأطلنطي عبر شمال أفريقيا، ربما يزداد إصرار الدول الثلاث على الاستمرار تحت مظلة الكيان الكونفدرالي الجديد في ظل وجود بديل إقليمي يقلل من اعتماديتها على دول الجوار الإقليمي وإيكواس. وإن كان العامل الزمني لإتمام هذه المشروعات قد يمثل عائقًا أمام الدول الثلاث خلال الفترة القادمة.

فقد أعلنت كلُّ من تونس وليبيا في أغسطس 2023 عن مشروع الممر التجاري القاري التونسي الليبي الذي يربط البلدين مع خمس دول في منطقة الساحل هي مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وأفريقيا الوسطى، وذلك في إطار المساعي لتعزيز عملية التكامل الإقليمي وحركة التجارة الإقليمية في أفريقيا جنوب الصحراء[1]. إضافة إلى المبادرة الأطلسية التي أعلنت عنها المغرب في نوفمبر 2023 بهدف تمكين دول الساحل من الاستفادة من فرص الانفتاح على الساحل الأطلسي وتطوير البنية التحتية على طول الساحل الأفريقي، من أجل التغلب على التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها على مدار السنوات الأخيرة[2].

حضور روسي لافت

تبدو روسيا الطرف الدولي الأكثر استفادة من فك الارتباط بين الدول الثلاث وبين إيكواس، وتدشين الكيان الإقليمي الجديد، وانعكاسات ذلك على تعقد التفاعلات الدولية في الساحل، بما في ذلك تحجيم أكبر للنفوذ الفرنسي في المنطقة، وهو ما يصب في مصلحة الروس الذين يُتوقع أن تتوسع علاقاتهم مع الحكام العسكريين الجدد، وما يرتبط بذلك من تأكيد النفوذ والحضور الروسي في المنطقة خلال المرحلة المقبلة، خاصة أن موسكو قد عززت دعمها العسكري واللوجستي لدول التحالف الجديد لمواجهة التهديدات الأمنية ونشاط التنظيمات الإرهابية في بعض المناطق، مستغلة تراجع النفوذ الغربي في هذه الدول والمنطقة.

ويلاحظ تماهي المشروع الإقليمي الجديد في الساحل مع المشروع الروسي في المنطقة، حيث يضم الاتحاد الكونفدرالي الجديد أبرز حلفاء موسكو في الساحل، ومع الوقت، ربما يتحول إلى كيان إقليمي ومرتكز أساسي لموسكو تعزز من خلاله شبكة حلفائها الإقليميين في المنطقة وجوارها الإقليمي أيضًا، بما يعزز النفوذ والدور الروسي هناك.

ويدلل على ذلك زيارة صدام حفتر، رئيس أركان الجيش الوطني الليبي، إلى بوركينا فاسو في 9 يوليو الجاري، التي يعتبرها البعض مرتبطة بجهود موسكو لتعزيز التعاون بين حلفائها في أفريقيا لمواجهة الضغوط الغربية، لا سيما أن موسكو تنظر لليبيا باعتبارها بوابة مهمة للتغلغل في العمق الأفريقي وخاصة منطقة الساحل، وهو ما يعززه التواجد العسكري الروسي بما في ذلك وجود السفن الروسية الحربية في قاعدة طبرق البحرية الليبية، بما يعكس أهمية ليبيا الاستراتيجية بالنسبة للسياسة الروسية.

من هنا، ربما يمهد توسع علاقات موسكو الاستراتيجية مع التحالف الإقليمي الجديد الطريق لها للحصول على امتياز تأسيس قاعدة عسكرية روسية جديدة في الساحل، الأمر الذي يعزز مخاوف الغرب لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا اللتين تتهمان موسكو بمحاولة زعزعة الاستقرار الإقليمي في الساحل، وهو ما دفع واشنطن لمحاولة تعزيز التعاون مع بعض الميلشيات في غرب ليبيا من خلال تشكيل الفيلق الليبي الأوروبي عبر شركة أمريكية عسكرية[3]، مما يعكس احتمال تصاعد التنافس الدولي لا سيما الأمريكي الروسي في الساحل، وما قد يترتب عليه من توترات إقليمية تعزز انعدام الأمن والاستقرار في المنطقة.

مخاوف محتملة

تحمل خطوة تدشين كونفدرالية دول الساحل العديد من التداعيات المحتملة على أكثر من صعيد في منطقة الساحل. إذ تشكل المعضلة الجغرافية لدول مالي والنيجر وبوركينا فاسو باعتبارها حبيسة مصدر قلق في حالة فرض عقوبات إقليمية ودولية جديدة عليها، ما يعني عزلها عن العالم الخارجي، وتعطيل حركة التجارة الخارجية من وإلى الداخل، بما يشكل تهديدًا صريحًا لدول الاتحاد الكونفدرالي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وتتزايد المخاوف الإقليمية بشأن تصاعد النزعات الانفصالية بين دول الساحل بما قد يدفع بعضها للخروج من تكتل إيكواس والانضمام للكيان الثلاثي الجديد، وهو ما يهدد وحدة وتماسك الكتلة الإقليمية في غرب أفريقيا والساحل. ويرتبط ذلك بتنامي حالة الاستقطاب الإقليمي نتيجة توتر العلاقات الإقليمية التي ربما تهدد أمن واستقرار المنطقة ككل.

وفي ضوء التوقع بأن يعزز التحالف الجديد التعاون فيما بين دوله الثلاث في مجال الحرب على الإرهاب بمساندة روسية، بما في ذلك التنسيق وتبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات العسكرية وأمن الحدود، وما قد يترتب عليه من استجابة أكثر تنسيقًا للتهديدات التي تشكلها التنظيمات الإرهابية في المنطقة. إلا أن ذلك لا ينفي احتمال تصعيد التنظيمات الإرهابية لعملياتها وهجماتها في الدول الثلاث في إطار رفضها للتحالف الجديد وعلاقاته مع الشريك الروسي، بما يهدد الأمن الإقليمي.

وفي سياق متصل، من المتوقع أن تستغل موسكو هذا الزخم في السياق الإقليمي لتعزيز حضورها ونفوذها الإقليمي في الساحل على حساب النفوذ الغربي والفرنسي، وذلك من خلال مساعدة الدول الثلاث في تجاوز هذه المرحلة الحرجة، بما يعزز شرعية الكيان الإقليمي الجديد في المنطقة، وتحسين صورة موسكو على الصعيد الإقليمي، والتي تدفع هي الأخرى نحو تأليب الرأي العام الأفريقي ضد الغرب في مقابل توسع الترحيب بالحضور الروسي في الساحل وغرب أفريقيا.

إجمالًا، تشهد منطقة الساحل خلال السنوات الأخيرة تحولات استراتيجية تسهم في إعادة تشكيل توازنات القوة من جديد على المستويين الإقليمي والدولي، في ضوء تنامي التنافس الدولي بين روسيا والغرب هناك مؤخرًا. وإذ يمثل تشكيل دول كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو للاتحاد الكونفدرالي ملمحًا بارزًا ضمن هذه التحولات في المنطقة، إلا أنه يظل محاطًا بالعديد من التحديات الداخلية والخارجية، ويتوقف نجاحه في تجاوزها على قدرة الدول الأعضاء على التصدي للضغوط الإقليمية والدولية وإزالة كافة العراقيل والعقبات الداخلية، بما يسهم في تثبيت أركان التكتل الإقليمي الجديد في المنطقة.

ومع ذلك، من المرجح أن يضغط كل من تكتل إيكواس والغرب لإفشال هذا الكيان الإقليمي، إذ لن تغامر إيكواس بفقدان مكانتها وزعزعة قوتها الإقليمية المهددة بشكل كبير منذ اندلاع سلسلة الانقلابات الأخيرة، كما أن الغرب لن يسمح بترك الساحة الإقليمية في الساحل فارغة أمام نفوذ موسكو، ولن يقبل بوجود كيانات مناوئة له في الساحل التي هي بالأساس منطقة نفوذ تقليدي للقوى الغربية وعلى رأسها فرنسا.


[1]. The Libya Observer, Libya, Tunisia launch "African Trade Transit Corridor", 12 August 2023, accessible at: https://tinyurl.com/yckxd2dw

[2]. Rama Yade and Abdelhak Bassou, Behind Morocco’s bid to unlock the Sahel, The Atlantic Council, 24 May 2024, accessible at: https://tinyurl.com/3backmh6

[3]. The Libya Observer, Haftar sends his son Saddam to Burkina Faso to meet interim president, 11 July 2024, accessible at: https://tinyurl.com/43x4fk52


رابط دائم: