تتناول هذه الدراسة بالرصد والتحليل موقف الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران، والمعروفة باسم “الحشد الولائي”، من حرب غزة. فقد كشف هذا الموقف، وما ترتب عليه من تداعيات مجددًا عن بعض جوانب الأزمة البنيوية الداخلية التي تعاني منها الدولة العراقية من ناحية، كما كشفت عن تعقيدات علاقتها مع كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى. فبعض الفصائل المعنية، التي تنتمي إلى “الحشد الشعبي”، وهو جزء من القوات المسلحة العراقية، ويخضع للقائد العام للقوات المسلحة (رئيس الوزراء) مباشرة، راحت تهاجم القوات الأمريكية في كل من العراق وسوريا دعمًا لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في حربها ضد إسرائيل تحت شعار “وحدة الساحات”.
مع استمرار الهجمات، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ عدة غارات ضد مقار ومخازن أسلحة تابعة لبعض الفصائل العراقية المسلحة في كل من العراق وسوريا، ما ترتب عليه مقتل عدد من الكوادر والقيادات البارزة في “الحشد الشعبي”. كما قامت إيران بتنفيذ هجمات داخل العراق ردًا على غارات وعمليات إسرائيلية طالت أهدافًا وشخصيات إيرانية، سواء داخل سوريا أو داخل إيران. وبذلك ظهر العراق مجددًا كساحة للصراع وتصفية الحسابات بين إيران وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. إزاء هذا الوضع، بدت الدولة العراقية، بمختلف أجهزتها ومؤسساتها، عاجزة، فلا هي قادرة على السيطرة على الفصائل المسلحة التي تنتمي إلى “الحشد الشعبي”، بحيث تمنع هجماتها ضد القوات الأمريكية، ولا هي قادرة على منع الولايات المتحدة الأمريكية من مهاجمة وحدات تعد من الناحية الرسمية تابعة للقوات المسلحة العراقية، ولا هي قادرة على منع إيران من تنفيذ هجمات داخل العراق.
نظرًا لأن الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران تمثل تحديًا لسيادة الدولة العراقية وهيبتها، فإن ذلك يقيد من قدرتها على إقامة علاقات متوازنة مع كل من واشنطن وطهران. وإذا كانت حكومة السوداني تطمح إلي تحقيق ذلك في ظل التوجه نحو إنهاء وجود التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” في العراق، وإعادة صياغة علاقة الدولة العراقية مع أطرافه، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، على أسس ثنائية، فإن هناك عدة شروط يتعين توفيرها من أجل تحقيق ذلك، منها: إعادة بناء أجهزة الدولة العراقية ومؤسساتها، خاصة الجيش والأجهزة الأمنية، على أسس جديدة تمكنها من حصر السلاح بيد الدولة، واحتكار حق الاستخدام المشروع للقوة، والتصدي بحسم للخطر الذي لا تزال تشكله خلايا تنظيم “داعش”.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن هناك ضرورة ملحة لإعادة دمج فصائل “الحشد الشعبي” في القوات المسلحة العراقية على أسس جديدة، تضع نهاية للازدواجية داخل هذه القوات، التي تعكس حالة مشوهة من تهجين الأمن، إذ يتمتع “الحشد الشعبي” باستقلالية داخل القوات المسلحة العراقية، حيث لا يخضع لوزارة الدفاع ورئاسة الأركان أسوة ببقية تشكيلات القوات المسلحة. مبعث الخطر هنا هو أن الحشد يضم فصائل بهويات طائفية وولاءات خارجية، وهو ما يتعارض مع العقائد الوطنية للجيوش ومبادئ الاحتراف العسكري. إن إعادة دمج الحشد في القوات المسلحة على أسس جديدة سيؤدي إلى فصله عن أي تنظيمات مسلحة، بحيث تصبح هذه التنظيمات مكشوفة، ويسهل على الأجهزة المعنية التعامل معها. يُضاف إلى ذلك إنهاء علاقته بالأحزاب والتنظيمات السياسية التي اعتادت توظيفه لخدمة أجنداتها السياسية والحزبية، فضلًا عن إنهاء تغلغله في الحياة الاقتصادية والأنشطة التجارية، وإخراج معسكراته ومقاره إلى خارج المدن.
لكن كل الشروط والمتطلبات السالفة الذكر يصعب تحقيقها وإنضاجها من دون معالجة الاختلالات البنيوية التي يعاني منها النظام السياسي العراقي، وفي مقدمتها المحاصصة الطائفية، والتي كثيرًا ما تخلق حالة من الانسداد السياسي في البلاد. من دون ذلك سوف تكون مهمة أي حكومة عراقية في فرض هيبة الدولة وسيادتها، ومحاصرة الميليشيات المسلحة، وحماية الأمن الوطني ضد التهديدات الداخلية والخارجية، وإقامة علاقات متوازنة مع كل من طهران وواشنطن في غاية الصعوبة والتعقيد، الأمر الذي سيبقي العراق، في المستقبل المنظور على الأقل، ساحة للصراع وتوصيل الرسائل وتصفية الحسابات بين إيران وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
رابط دائم: