تتجه الأنظار في الوقت الحالي صوب الائتلاف الحكومي الإسرائيلي وموقفه المرتقب بشأن التعامل مع مقترح الهدنة الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جو بايدن في 31 مايو 2024، والذي مرره باعتباره مقترحاً إسرائيلياً، وما يعنيه ذلك من الموافقة المفترضة من جانب إسرائيل، وهو ما لم يعكسه تعامل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع البيان، حيث أعلن مكتبه في 1 يونيو 2024، التمسك باستمرار الحرب، والتأكيد على أن فكرة موافقة إسرائيل على وقف دائم لإطلاق النار قبل تلبية شروطها المتعلقة -بحسب البيان- بـ"تدمير قدرات حماس العسكرية وحكومتها، وإطلاق سراح جميع الرهائن والوعد بأن غزة لن تشكل بعد الآن تهديداً لإسرائيل "هي "فكرة غير مقبولة"[1]، وذلك في الوقت الذي أكد فيه كبير مستشاري نتنياهو للسياسة الخارجية أوفير فولك، أن ما عرضه بايدن يعد "صفقة غير مجزية" لكن إسرائيل قبلتها[2].
وتثير هذه المواقف المتضاربة حالة من الضبابية التي تكتنف المشهد في الوقت الراهن، وتطرح التساؤل حول فرص التوافق حول مقترح الهدنة المطروح والمآلات المحتملة للرفض وبدائل الحركة المتوقعة في ظل الرهانات المصلحية لنتنياهو ومناوراته السياسية.
معطيات السياق الراهن وحسابات اللحظة الحالية
تُثار في الوقت الراهن العديد من التساؤلات التي تزامنت مع إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن عن مقترح الهدنة الذي أكد بأنه مقترح إسرائيلي بالأساس، وهو ما يُفترض معه الموافقة الضمنية من جانب الحكومة الإسرائيلية، إلا أن الموقف المراوغ لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التعامل مع المقترح، بحسب البيان الذي أصدره مكتبه وكذلك تصريحاته ومستشاريه على مدار اليومين الماضيين، يطرح التساؤل حول ما إذا كان هذا المقترح الذي يسوّقه الرئيس الأمريكي قد تم تنسيق الإعلان عنه مع نتنياهو، وفي غالب الظن فإن الخطوط العريضة التي تضمنها المقترح، وهي قريبة في مضمونها من صيغة مقترح الهدنة السابق، قد أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي مرونة بشأنها في إطار جلساته واتصالاته التي جمعته بالرئيس الأمريكي وكبار المسئولين الأمريكيين خلال الفترة الماضية، وذلك في إطار هامش المناورة المعتاد الذي يتبعه نتنياهو لكسب مزيد من الوقت، ومحاولة إبداء مرونة في موقفه بشأن المسار السياسي للتفاوض لتخفيف الضغط الأمريكي – الغربي، خاصة وأنه يرى أنه نجح خلال جولة التفاوض السابقة في إلصاق فشل المفاوضات في حركة حماس، رغم موافقة الحركة على المقترح السابق في اللحظات الأخيرة، بيد أن الإعلان الأمريكي المفاجئ عن هذه الخطوط العريضة ضمن مقترح للهدنة يبدو أنه قد باغت نتنياهو وأفسد عليه مناورته لتأمين الدعم الغربي أو على الأقل تخفيف الضغط بشأن مخططاته لإطالة أمد الحرب نحو سبعة أشهر إضافية بحسب ما أعلنه تساحي هنغبي رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي وأحد المقربين من نتنياهو، في 29 مايو 2024، خلال مقابلة مع القناة الثانية حيث أوضح أن "القتال سيستمر لمدة سبعة أشهر أخرى على الأقل".
ومن ثم، يكتسب إعلان الرئيس الأمريكي بشأن مقترح الهدنة في الوقت الراهن أهمية تتجاوز عامل كونه صدر عن الحليف الأكبر لتل أبيب، إلى كونه يأتي في سياق ضاغط تحفزه جملة من المتغيرات التي يمكن إيضاحها على النحو التالي:
1- حسابات الموقف الأمريكي: يأتي الإعلان الأمريكي في التوقيت الراهن ارتباطاً ببعض المتغيرات التي يشهدها السياق الأمريكي، ومن أبرزها: ضغط عامل الوقت لقرب انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر القادم، والحاجة لتهدئة الأوضاع بقطاع غزة التي ألقت بظلالها على تصاعد الاحجاجات هناك، وسيكون له انعكاساته أيضاً على اتجاهات التصويت لدى الكتلة العربية المسلمة في الانتخابات القادمة. أيضاً تشكل الرغبة في دفع مسار اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع السعودية الذي تم الإعلان عن الوصول لصيغة شبه نهائية للاتفاق في أعقاب اللقاء الذي جمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ومستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان خلال زيارته للمملكة في 18 مايو 2024. هذا فضلاً عن حسابات تهدئة الإقليم وخفض التوترات، حيث تسعى واشنطن إلى تحقيق ذلك من خلال جهود مبعوثها الخاص آموس هوكشتاين، تأسيساً على جهودها لدفع اتفاق التهدئة داخل القطاع، وهو ما يساعد في تجنيب المنطقة حرباً تتصاعد مؤشراتها على وقع تسخين الجبهة الشمالية، التي لن تكون في مصلحة الولايات المتحدة، حيث من شأن هذه الحرب الإضرار بمصالحها وتشتيت قوتها التي ستجد صعوبة في فتح أكثر من جبهة في وقت واحد خاصة على وقع تطوير دعمها مؤخراً لأوكرانيا على نحو ينذر بتـأجج الصراع وتصعيده هناك.
ومن ثم، تستهدف واشنطن عبر هذا الإعلان من ناحية، إبعاد صفة الاتهام عنها بتوفير الدعم المطلق لمخططات الائتلاف الحكومي بإطالة أمد الحرب، وهو ما سيساعد في استمالة موقف الكتلة العربية المسلمة. ومن ناحية أخرى، سيساعد في تخفيف ضغط اللوبي الصهيوني المؤيد لإسرائيل خاصة وأن الإعلان أكد على أنه مقترح إسرائيلي وليس أمريكياً، وفي الأخير يفرض هذا الإعلان مزيداً من الضغوط ضد الائتلاف الإسرائيلي المطالب بأن يتجاوب مع مسارات الحل المطروحة لإطلاق سراح الأسرى خاصة في ظل فشله عسكرياً في تحقيق هذا الهدف حتى الآن.
2- حسابات الائتلاف الحكومي الإسرائيلي: من المتوقع أن تتحدد حسابات أعضاء الائتلاف الحكومي وعلى رأسهم نتنياهو بشأن التعامل مع مقترحات التهدئة وفقاً للاعتبارات والمحددات التالية:
أ- الحسابات الانتخابية واعتبارات العائد والتكلفة: قد يكون من المحفزات التي عوّلت عليها واشنطن في احتمالية إبداء الائتلاف الحكومي درجة من المرونة في التعامل مع مقترح الهدنة التحولات التي لحقت بخريطة الأوزان الانتخابية وتحسن وضع أحزاب الائتلاف، وفي مقدمتهم حزب الليكود وفقاً لنتائج أحدث استطلاع للرأي أجرته القناة 12 الإسرائيلية في 29 مايو 2024، والتي كشفت عن التحسن النسبي لحزب الليكود حيث حصل على 21 مقعد في مقابل 18 مقعد في السابق، في حين تراجع حزب "معسكر الدولة" بزعامة بيني غانتس إلى 25 مقعد في مقابل 29 مقعد في السابق، أيضاً تعزز وضع نتنياهو حيث عكست النتائج حصوله على 37% في مقابل 30% لكل من بيني غانتس ويائير لابيد باعتباره الأنسب لمنصب رئيس الوزراء[3].
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن هذا التحسن يعزز الإدراك لدى نتنياهو وشركائه في الائتلاف بأنه يأتي لصيق الالتزام بخط التشدد في سياسات إدارة الحرب، وكذلك مواقف الرفض للضغوط الغربية وضغوط أعضاء مجلس الحرب مثل إنذار بيني غانتس الأخير، وهو ما يستغله نتنياهو لتغذية الشعور لدى مؤيديه بأنه الشخص الوحيد القادر على معارضة الغرب ومنهم واشنطن، وكان لذلك أثره على ما يبدو في ارتفاع نسبة تأييده باعتباره الأنسب لرئاسة الوزراء على النحو المبين سلفاً بعد أن كان وصل إلى نسب 23% و27% خلال الشهور الأولى للعام الجاري. ومن ثم، قد لا يكون هذا المتغير حاضراً بشكل إيجابي في استمالة موقف نتنياهو وشركائه بشأن مسارات التهدئة إلا أنه في المقابل قد يجد أعضاء الائتلاف أنفسهم مضطرين للتعامل بشكل تكتيكي مع هذه المسارات لتخفيف تأثيرها على شعبيتهم في الصورة الكبيرة لدى المجتمع الإسرائيلي بأطيافه الواسعة وفي مقدمتها بالأساس كتلة اليمين، خاصة وأن هناك اتجاهاً متصاعداً في استطلاعات الرأي من قطاع واسع يؤكد على ضرورة إطلاق سراح الأسرى، وهو ما يفشل الائتلاف في تحقيقه عبر المسار العسكري حتى الآن.
ب- نقل معادلة الضغط إلى الطرف الآخر: هذه الحسابات السابقة من شأنها أن تفسر حالة المراوغة التي عليها موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، خلال جولات التفاوض المختلفة، وكان آخرها، مقترح التهدئة الذي أعلنته واشنطن، حيث يراوغ نتنياهو في قبوله أو رفضه بشكل واضح وحاسم، ويعمل في هذا الصدد على تعزيز هامش المناورة من خلال إلقاء خيار الرفض في جعبة حركة حماس، لكسب الوقت من ناحية، ومن ناحية أخرى، إبعاد صفة التعنت عن موقفه.
ج- اتساع هوة الخلاف بين أعضاء الائتلاف: من بين الاعتبارات التي قد تكون حاضرة في حسابات قادة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، وتؤثر على مواقفهم بشأن اتفاقات التهدئة، اعتبار احتمالية اتساع هوة الخلاف المتصاعد في الوقت الحالي بين أعضاء الائتلاف على خلفية بعض الملفات الداخلية نتيجة تضارب المصالح المرتبطة بقانون تجنيد الحريديم، والتي مرشح أن تعيد المشهد إلى ماقبل 7 أكتوبر من ناحية حالة الجمود والتصعيد الاحتجاجي، خاصة في ضوء بدء المحكمة العليا الإسرائيلية في 2 يونيو 2024، مناقشة مسألة تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريدية (المتطرفين) ومدى مشروعية توفير التمويل للمدارس الدينية[4]، وهو ما قد يؤدي، من بين خيارات أخرى، إلى أن تحول المحكمة الأوامر المؤقتة إلى أوامر نهائية، وتأمر بإصدار أوامر التجنيد للشباب الأرثوذكسي المتطرف، بالإضافة إلى الوقف الدائم لدعم المدارس الدينية للمتهربين من الخدمة العسكرية، ومن شأن هذا البند أن يؤدي إلى تفاقم الأزمة السياسية، وربما يؤدي حتى إلى انسحاب الأحزاب الحريدية المتطرفة من الائتلاف، وبالتالي حل الحكومة. هذا فضلاً عن التوتر الناشئ نتيجة تخفيض المخصصات المالية لمجتمع الحريديم التي التزم بها أعضاء الائتلاف من قادة الأحزاب الأرثوذكسية.
هذه المعطيات ستعقد بدورها حسابات نتنياهو في التعامل مع مقترح الهدنة بالرفض أو القبول. فمن ناحية، قد يرى في قبوله للاتفاق بأنه سيكون بمثابة القشة التي ستقود لانهيار الائتلاف، خاصة في ظل تصاعد مواقف الرفض التي عبر عنها قادة أحزاب الائتلاف الذين هددوا بالانسحاب من الحكومة إذا ما قبل نتنياهو الذهاب لاتفاق يقود إلى وقف كامل لإطلاق النار. ومن ناحية أخرى، قد يرى نتنياهو في التجاوب مع اتفاق التهدئة مساراً جيداً لتخفيف الضغوط والتعامل معه باعتباره ثمناً لمقابل أن يبدى بعض عناصر المعارضة على غرار بيني غانتس ويائير لابيد المرونة بشأن مسودة قانون التجنيد المطروحة في الكنيست، كما يمكن أن يلعب الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ الذي وعد بأنه سيمنح حكومة نتنياهو "دعمه الكامل للصفقة التي ستشهد إطلاق سراح الرهائن"، دوراً في هذا الصدد من خلال حث المحكمة العليا على أن تعيد القرار بشأن مسألة تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريدية الذي تناقشه في الوقت الحالي، إلى الكنيست لاعتماد قانون بترتيب المسألة كما جرت العادة على مدار السنوات الماضية.
د- اعتبارات الداخل والمشهد الاحتجاجي: تتصاعد في الداخل الإسرائيلي ضغوط النازحين من مستوطنات غلاف غزة ومستوطنات البلدات الشمالية المحاذية للبنان، والتي قدرت أعدادهم بنحو أكثر من 100 ألف إسرائيلي بحسب الاحصاءات الإسرائيلية، وليس أدل على ذلك من تصريحات رئيس المجلس الإقليمي الإسرائيلي (شلومي)، غابي نعمان، لموقع "والا" في 10 مايو 2024، خلال الاحتجاجات التي نظمها سكان المستوطنات الشمالية، قائلاً: "نعم، (نحن نحتج) في يوم الاستقلال..نحن نواجه حكومة لا تعرف كيف تقرر ماذا وكيف، وهناك شعور صعب بأن الحكومة انفصلت عنا - لذلك نحن ننفصل عنها"[5]. هذا فضلاً عن ضغط الإعانات الاقتصادية التي يتم تقديمها لهؤلاء النازحين. ومن ثم، من المتصور أن تكون هذه الاعتبارات حاضرة ضمن حسابات الائتلاف الحكومي، حيث ستشكل تهدئة هذه الجبهات التي ستمكن هؤلاء النازحين من العودة مصلحة إسرائيلية، وهو ما يمكن أن يُسهم في تحقيقه مقترح الهدنة الأخيرة إذا ما دخل حيز النفاذ.
3- حسابات المعارضة الإسرائيلية: من المتوقع أن تتلقف المعارضة الإسرائيلية الإعلان الأمريكي لتزيد الضغط ضد الائتلاف الحاكم، خاصة وأنه يأتي تزامناً مع الانهيار الوشيك لحكومة الحرب نتيجة قرب انتهاء المهلة الزمنية التي منحها عضو مجلس الحرب بيني غانتس لنتنياهو حتى 8 يونيو القادم، من أجل صياغة خطة عمل والموافقة عليها، لتحقيق ستة أهداف استراتيجية، يأتي في مقدمتها إعادة الأسرى ووضع تصور للحكم في قطاع غزة، وهو ما يتلاقى مع الخطوط العريضة لمقترح الهدنة الذي أعلنته واشنطن، وبالتالي سيعد رفض نتنياهو وشركاءه في الائتلاف للمقترح بمثابة رفض واضح للمرونة مع شروط غانتس، على النحو الذي قد يدفعه لتنفيذ تهديده بالانسحاب من حكومة الحرب.
هذه المتغيرات من شأنها فرض مزيد من الضغوط ضد الائتلاف الحكومي وتعزيز تآكل شرعيته الداخلية لاستكمال مخططات الحرب التي كان يوفرها انضمام أحزاب من المعارضة التي ستكون قد انسحبت جميعها إذا ما انسحب حزب "معسكر الدولة" بعد انسحاب حزب "أمل جديد" الذي يتزعمه جدعون ساعر، وهو ما سيؤثر بدوره على زيادة الضغوط الدولية ضد الائتلاف، خاصة إذا ما رفض التجاوب مع المسار السياسي لمقترح الهدنة الذي أعلنته واشنطن، حيث سيظهر بمظهر المتعنت في مقابل مرونة حركة حماس التي عبرت عن قبولها المبدئي بالتجاوب مع المقترح.
وفي هذا الإطار، تسعى المعارضة ممثلة في قادة بعض الأحزاب على غرار أفيغدور ليبرمان زعيم حزب "يسرائيل بيتنا"، ويائير لابيد زعيم حزب "يش عتيد"، وجدعون ساعر زعيم حزب "أمل جديد"، ومن المحتمل أن ينضم إليهم أيضاً رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، لتكثيف الحركة وتعزيز الضغوط من خلال السعي لتشكيل جبهة للمعارضة للتعبير عن موقف موحد يساعدها على حشد الشارع الإسرائيلي من ناحية، ومن ناحية أخرى، السعي لمحاولة استقطاب بعض أعضاء الليكود المحتمل انشقاقهم، وهو ما سيسهل انهيار الائتلاف.
وقد يضعف من هذا التحرك، ويحيد تأثيره بالنسبة لنتنياهو وشركاءه تحسن وضع أحزاب الائتلاف على خريطة استطلاعات الرأي المُشار إليها سلفاً، والتي تعكس عدم قدرة أحزاب المعارضة على تحقيق الأغلبية المطلوبة دون انضمام الأحزاب العربية باعتبارها "صانع الملوك" على غرار سيناريو حكومة بينيت السابقة، وهو أمر قد لا يكون سهل تحقيقه خاصة في ظل الرفض المحتمل من جانب الأحزاب العربية للمشاركة في أي حكومة إسرائيلية على وقع العدوان الإسرائيلي الذي يشنه ضد قطاع غزة، خاصة وأن إبداء الرغبة أو المرونة في إمكانية قبول الانضمام لحكومة إسرائيلية من جانب الأحزاب العربية ستؤثر على كتلتها التصويتية.
سيناريوهات محتملة
ارتباطاً بمعطيات السياق الراهن والحسابات المعقدة المُشار إليها سلفاً، فإن سيناريوهات التعامل المحتملة من جانب الائتلاف الإسرائيلي مع مقترح الهدنة، يُمكن إيضاحها على النحو التالي:
1- إبداء المرونة المراوغة وكسب الوقت: تشير مؤشرات تفاعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مع مقترح الهدنة الحالية، إلى الاتجاه نحو المراوغة من أجل الموازنة ما بين موقف الرفض الواضح الذي عبر عنه شركاؤه في الائتلاف وخاصة كل من وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سيموتريش، والقبول تحت الضغط الأمريكي، والعمل بدلاً من ذلك على سيناريو "كسب الوقت" من خلال نقل معادلة الضغط إلى الطرف الأخر، وإلقاء خيار الرفض في جعبة حركة حماس، من أجل إبعاد صفة التعنت عن موقف تل أبيب، وذلك عبر إطلاق تصريحات تثير بذور الشك لدى حماس بشأن مدى جدية والتزام تل أبيب بتنفيذ التزاماتها في أية اتفاقات تهدئة خاصة فيما يتعلق بمرحلة التفاوض حول التهدئة المستدامة والوقف الكامل لإطلاق النار، وهو ما بدا واضحاً خلال جولة التفاوض السابقة التي كان قد صرح فيها نتنياهو بعزمه استكمال الأعمال العسكرية بمدينة رفح سواء تم الاتفاق أو لم يتم، قائلاً: "فكرة أننا سنوقف الحرب قبل تحقيق جميع أهدافها ليست خياراً..سوف ندخل رفح وسنقضي على كتائب حماس هناك –سواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا– من أجل تحقيق النصر الكامل"[6]، وهو النهج ذاته الذي يبدو أنه يتبعه في جولة التفاوض الحالية، ولكن هذه المرة ليست من خلال تصريحات مباشرة له، وإنما من خلال تصريحات مسئولين في حكومته، على سبيل المثال، صرح مسئول سياسي إسرائيلي في 1 يونيو 2024، لصحيفة "معاريف"، بأن تل أبيب تقبل معظم تفاصيل المقترح الجديد، لكنها ستحتفظ بالحق في استئناف القتال إذا خرقت حماس التزاماتها، ومن هذه الخروقات بحسب هذا المسئول "عندما يكون لدى إسرائيل انطباع بأن المفاوضات عقيمة وغير مجدية وتهدف فقط لإهدار الوقت"[7].
2- القبول بصيغة اتفاق جزئي دون الوصول لاتفاق شامل: قد يجد نتنياهو في صيغة اتفاق جزئي يرتبط فقط بعملية تبادل للأسرى وتسهيل دخول المساعدات دون الالتزام بوقف شامل لإطلاق النار حلاً وسطاً يمكن من خلاله أن يقنع به شركاءه المتطرفين من أجل ضمان عدم انهيار الائتلاف في ضوء حالة الابتزاز والمساومة التي يتعرض لها من جانبهم، بيد أن هذا السيناريو يعقده الإعلان الأمريكي بأن المقترح المطروح هو مقترح إسرائيلي بالأساس، وبالتالي لن يكون هناك مساحة لقبول تعديلات تضر بجوهر الاتفاق خاصة فيما يتعلق بالمرحلة الثانية من الاتفاق التي تستهدف الوصول إلى اتفاق هدنة مستدامة تسمح لحركة حماس بقبول المقترح بصيغته الحالية، وهو ما كان أحد معوقات فشل المفاوضات السابقة.
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى احتمالية أن يقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بالصيغة المطروحة مع تضمينها بشكل غير مباشر شرط الاحتفاظ بالحق في استئناف القتال إذا خرقت حركة حماس التزاماتها، بحسب ما جاء على لسان أحد المسئولين الإسرائيليين.
3- القبول بالهدنة المقترحة وتأمين البقاء عبر المعارضة: قد يتجه رئيس الوزراء الإسرائيلي تحت وطأة ضغوط الداخل خاصة مع احتمالية الانهيار الوشيك لحكومة الحرب، وهو ما سيكون له تداعياته على تآكل شرعية الائتلاف للاستمرار في الحرب، خاصة في ظل تصاعد الاحتجاجات المتوقعة من جانب الشارع الإسرائيلي الذي ستقوده في هذه الحالة جبهة واسعة للمعارضة وليس فقط أهالي الأسرى والنازحين، هذا فضلاً عن حسابات الضغط الأمريكي – الغربي الذي من المتوقع أن يتصاعد في الفترة القادمة إذا ما أفشل الائتلاف الحكومي المقترح المطروح، والذي سيكون بدافع المصالح الائتلافية الضيقة وعملية الابتزاز التي يتعرض لها نتنياهو، نحو القبول بالهدنة وتأمين بقاء حكومته من خلال المعارضة، وهو ما عبر عنه زعيم المعارضة يائير لابيد الذي حث نتنياهو على قبول مقترح الهدنة، وتأكيده توفير شبكة أمان لمنع انهيار الحكومة إذا تعنت أعضاؤها من اليمين المتطرف، وحالوا دون قبول المقترح[8].
قد يعرقل هذا التحرك الحسابات الشخصية لنتنياهو المرتبطة بمعادلة الانتخابات، حيث يدرك نتنياهو أن تعزيز صفوف حكومته من المعارضة سيؤثر على فرصه الانتخابية بين صفوف تيار اليمين، للمنافسة مرة أخرى على منصب رئيس الوزراء، وذلك لصالح شخصيات من المعارضة، ومن أبرزهم نفتالي بينيت الذي عكست نتائج استطلاع الرأي للقناة 12 تضاؤل الفجوة بينهما، حيث حظى نتنياهو بتأييد 34% بينما حصل بينيت على 32%.
إجمالاً، تعكس هذه المعطيات السابقة درجة التعقد التي عليها المشهد التفاوضي نتيجة لتداخل المصالح والحسابات الشخصية لأعضاء الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، والتي تعزز منظور التعامل مع أية مقترحات للحل أو التهدئة باعتبارها عائقاً لرؤيتهم ومصالحهم السياسية التي تستند على استمرار الحرب باعتبارها الباب الخلفي الذي سيضمن عودتهم مرة أخرى للحكم في أية انتخابات قادمة. بيد أن هذه الرؤية وإن كانت تعزز مقاومة الضغط الخارجي وتخفف ضغوط الداخل عبر تكتيكات المراوغة وتحفيز الشعور القومي اليميني لدى قطاعات الرأي العام الإسرائيلي هناك، إلا أنها قد تفشل في إدارة الخلافات بين مكونات الائتلاف التي بدأت تظهر إلى السطح، كما أن إحكام حلقة الضغط الداخلي على النحو الراهن دون تفريغها بمسارات جادة للحل وليس فقط التسكين ستقود إلى جمود المشهد والنزوع نحو نقطة الانهيار.
[4]Shlomit Ravitsky, A Historic Supreme Court Hearing on Haredi Conscription and Yeshiva Funding, The Israel Democracy Institute,June 02, 2024. Retrieved from: https://en.idi.org.il/articles/54292