تشهد عدة دول عربية مثل مصر والسودان وتونس وليبيا والجزائر والمغرب والأردن حملات للمقاطعة، تقودها مجموعات "غير منظمة" على مواقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" و"إكس" وغيرها، أو قوى سياسية أو أحزاب رئيسية حاكمة، لتحقيق أهداف عديدة منها تجنب شراء المنتجات التجارية والسلع الغذائية للشركات التابعة للدول الغربية الداعمة لإسرائيل في الحرب على غزة، أو مواجهة جشع التجار الذين يستغلون آلية العرض والطلب لرفع أسعار المواد الاستهلاكية، أو منع المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، أو الاعتراض على قرارات صادرة من الهيئات القضائية، أو رفض سياسات القوى الإقليمية الراغبة في التوسع والهيمنة في المنطقة العربية.
ويشير التيار الرئيسي في الأدبيات إلى أن فكرة المقاطعة تقوم على رفض التعامل مع منتجات شركة أو جهة أو دولة معينة، بهدف فرض تغيير في الإجراءات السياسية أو الاجتماعية لتلك الجهة، من خلال توظيف تأثير الحركة الجماعية. غير أن المقاطعة لم تعد قاصرة على المصالح التجارية والاقتصادية بل امتدت إلى القضايا السياسية والساحات الرياضية والميادين الثقافية، سواء داخل الدول العربية أو فيما بينها أو وفقاً لعلاقاتها بالقوى الإقليمية الأخرى، وتحديداً مع إسرائيل.
ويمكن القول إن هناك مجموعة من الأبعاد السياسية التي تضمنتها حملات المقاطعة في المنطقة العربية، خلال النصف الأول من عام 2024، يتمثل أبرزها في:
1- عودة تأثير سياسات الشارع في القضايا الاقتصادية والاجتماعية: تعبر بعض حملات المقاطعة في الدول العربية عن دور أفراد المجتمع في التأثير في بعض القضايا مثل قضية ارتفاع الأسعار. إذ أطلقت بعض المجموعات دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي لمقاطعة اللحوم والدجاج والأسماك، مثل حملة "خليها تعفن" للأسماك واللحوم في مصر، و"خليها تقاقي وما تلاقي" لمقاطعة الدجاج في الأردن كنوع من ممارسة الضغوط على التجار لخفض الأسعار بعد تزايدها بشكل غير مبرر، أو ما أطلق عليه البعض حالة سيولة تسعيرية.
وربما تشهد المرحلة المقبلة قفزة كبيرة في أسعار المواشي تزامناً مع قدوم عيد الأضحى في يونيو 2024. فعلى سبيل المثال، يرجع الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري – أكبر منظمة تجمع المزارعين في تونس – القفزة في أسعار المواشي إلى عوامل عديدة، من بينها التغيرات المناخية التي أفضت إلى ندرة الأمطار، وتراجع الأعلاف الخضراء، وارتفاع سعر الأعلاف الموردة كلياً من الخارج واضطرب توريدها بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية. ويعبر ذلك في الحاصل الأخير عن تدهور القدرة الشرائية للمواطن من جهة وتراجع جودة ونوعية الغذاء من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، حثت نقابة الأئمة في تونس مفتي الديار التونسية على إطلاق فتوى تجيز مقاطعة شراء أضحية العيد على خلفية الغلاء المتفشي في الأسواق وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين بعد ارتفاع سعر صرف الدولار، وتكاليف النقل والشحن، وانخفاض قيمة العملات الوطنية.
في حين ساهمت بعض حملات المقاطعة في دولة عربية، مثل السودان، في تبلور أو ظهور مبادرات شعبية لمكافحة غلاء اللحوم في بعض المناطق والأحياء بتبني فكرة المشاركة المجتمعية والعمل التعاوني القائم على رأس المال الاجتماعي، لمواجهة ظاهرة جشع السوق وارتفاع الأسعار بما يفوق طاقاتهم، وتقوم المبادرة على تشارك مجموعة من المواطنين في القرية أو الحي في شراء أضحية وذبحها، وتقاسم لحمها بالتساوي بين المساهمين، وهو ما حدث في مدينة أم درمان.
وعلى الرغم من تحقيق بعض الحملات نتائج إيجابية في بعض البلاد العربية، مثل تراجع أسعار الأسماك في العديد من المحافظات المصرية وخاصة الساحلية منها، إلا أنها لا تستمر بفعل غياب التواصل مع جمعيات حماية المستهلك، فضلاً عن عدم عقد اجتماعات منتظمة مع الغرف التجارية والجهات الحكومية مثل وزارتي التموين والزراعة، إلى جانب عدم وعى المستهلكين بأهمية وتأثير حملات المقاطعة والنفس القصير لدى المواطن "المُقاطِع" لأنه لم يعتد الانخراط الفعال في مثل تلك الحملات حتى تؤتي ثمارها بتدخل الدولة بوضع سقوف سعرية للسلع وتشكيل فرق رقابة متخصصة على الأسواق بما يؤدي إلى مراجعة سياسات التجار وتخفيض الأسعار بعد فترة. فلابد من التوعية بـ"أهمية ثقافة المقاطعة كأداة فعّالة لمواجهة الاستغلال". وتبعاً لذلك الاتجاه، تعد عمليات المقاطعة مثالاً على نشاط المستهلك في المنطقة العربية، وهي قوة فعّالة يمكن أن تؤثر على الممارسات والقوانين التجارية.
2- ممارسة الضغوط على الدول الداعمة لإسرائيل في الحرب على غزة: يعد هذا البعد هو الملمح التقليدي الحاكم لردود فعل قطاعات من الرأي العام في هذه الدولة العربية أو تلك بعد مواصلة إسرائيل حربها على المدنيين –وليس ضد كوادر وقيادات حركة حماس وغيرها من الفصائل المسلحة فحسب- في قطاع غزة على مدى زمني يتجاوز ستة أشهر. وتستند هذه الحملات لدوافع سياسية تارة وأبعاد دينية تارة أخرى. ولم تكن هذه الحملات جديدة بل يتصاعد منسوبها وحدود جدواها ضد إسرائيل خلال مواجهاتها المسلحة مع عناصر المقاومة الفلسطينية، بل تركز المقاطعة في بعض الأحيان على بضع شركات تعتبرها الأكثر دعماً لإسرائيل لمضاعفة الأثر.
وتشير العديد من الكتابات إلى أنه لا تزال فروع "ماكدونالدز" في مختلف الدول العربية أقل إشغالاً من المعتاد مقارنة بفترات سابقة. كما ظهر تأثير المقاطعة في منشور للرئيس التنفيذي لشركة "ماكدونالدز" كريس كيمبنسكي نشره على موقع "لينكد إن" تحدث فيه عن التأثير الملموس و"المُحبِط" الذي تشهده الأسواق في الشرق الأوسط وخارجه بسبب الحرب والمعلومات المضللة المرتبطة بها. كما جاء إعلان المتحدث باسم شركة "بوما" للملابس الرياضية، في ديسمبر 2023، عن إنهاء عقد رعايتها للمنتخب الإسرائيلي لكرة القدم لعام 2024 بوصفه واحداً من أبرز نجاحات حركة المقاطعة طويلة الأمد التي امتدت لما قبل اندلاع هجمات 7 أكتوبر 2023.
ولم تكن المقاطعة مرتبطة بتأثيرات حرب غزة الخامسة فحسب، بل إن دعوات المقاطعة كانت تتردد في بعض الدول العربية ضد المنتجات الأمريكية بعد الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003. وكذلك حظيت حملات مقاطعة بدعم مؤسسات دينية، مثل الأزهر الشريف في مصر، على غرار حملات مقاطعة المنتجات السويدية والدنماركية رداً على سماح الدولتين بحرق المصحف الشريف، وهى تصرفات اعتبرها الأزهر جزءاً من "حملات عنصرية على الإسلام والمسلمين".
وعلى الرغم من أن حملات تلك المقاطعة تحظى باهتمام فئات مجتمعية عديدة في البلاد العربية، إلا أن هناك بعض الآراء المغايرة التي يعبر عنها بعضها أساتذة الاقتصاد، حيث يطالبون بضرورة التفرقة بين حالتين: الأولى، مقاطعة فرع من فروع الشركة الأم. والثانية، مقاطعة شركة مملوكة لمستثمر محلي حاصلة على امتياز أو حق استخدام العلامة التجارية للشركة الأم، ومن ثم، تكون المقاطعة ذات أبعاد سلبية للشركات. وكذلك الأمر في حال استمرت المقاطعة لفترة طويلة، فإنها من الممكن أن تؤدي إلى أن تلغي بعض الشركات العالمية استثماراتها في البلدان المعنية، أو على الأقل تقللها، وهو ما سيؤدي إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية التي تحتاج إليها بعض البلدان العربية بشكل كبير لتعزيز احتياطياتها من النقد الأجنبي وخلق المزيد من فرص العمل. وانخفاض الاستثمار الأجنبي بدوره سيؤثر سلباً على النمو الاقتصادي للبلدان المُقاطِعة، في حين أن هناك اتجاهات أخرى ترى أن المقاطعة من الممكن أن تدعم وتشجع منتجات محلية إذا كانت تلك المنتجات مُنافِسة ولها نفس الجودة، ما سيؤدي إلى نموها وبالتالي توظيف أيدٍ عاملة جديدة.
3- رفض سياسات إيران التوسعية في المنطقة العربية: أطلق مدونون وناشطون عراقيون، في بداية عام 2024، حملات واسعة عبر منصات التواصل الاجتماعي التي انطلقت تحت اسم "خليها تخيس"، أي "دعها تتلف" بالعامية العراقية، لمقاطعة السلع والمنتجات الإيرانية التي تنتشر بكثافة في الأسواق العراقية، تعبيراً عن استنكارهم للهجوم الصاروخي الذي شنته إيران، في 16 يناير الماضي، على أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، وراح ضحيته مدنيون من بينهم أطفال.
وتكتسب هذه الحملات الشعبية أهميتها من كونها صادرة من قبل فعاليات شبابية ومنظمات مجتمع مدني، تحث على مقاطعة السلع والبضائع الإيرانية الصنع، كرد على سياسات طهران التوسعية في العراق والمنطقة العربية عامة، وسعيها لعسكرة المجتمعات وتشكيل الجماعات المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري، لخدمة أجنداتها، وهو ما يظهر بدرجة واضحة في العراق التي تحولت إلى "ساحة مستباحة" وفقاً لرؤية الناشطين.
غير أن هناك اتجاهاً سائداً في الكتابات يشكك في جدوى حملات المقاطعة، فمن الصعب أن تؤثر بشكل واسع على وجود المنتجات والبضائع الإيرانية في الأسواق العراقية الغارقة بتلك المنتجات، ولا توجد بدائل منافسة لها من حيث الأسعار، كونها بصفة عامة رخيصة مما يفسر إقبال المستهلكين عليها أكثر من غيرها.
4-محاولة عرقلة برامج النظم السياسية الحاكمة: ربما ينطبق ذلك بشكل واضح على محاولة قوى المعارضة التونسية، ولا سيما "جبهة الخلاص"، التقليل من معدلات مشاركة القوى السياسية والمجتمعية في الانتخابات الرئاسية التي يحتمل أن يترشح فيها الرئيس قيس سعيّد في أكتوبر القادم، وهو ما يمثل امتداداً لمواقفها تجاه الأخير بعد مشروعه للتغيير في يوليو 2021، الذي أدى إلى حل البرلمان وإقالة الحكومة وتجميد العمل بدستور 2014 وحل مجلس القضاء. وتزامن مع ذلك تراجع متدرج في الرصيد الشعبي لحركة "النهضة" وتوجيه اتهامات قضائية لرئيسها وكوادرها الرئيسية.
ومنذ ذلك الحين، تعمل قوى المعارضة التونسية على إفشال مشروع الرئيس سعيّد بدعوى أنه يرسخ لحكم الفرد مما يستوجب، في رؤيتها، مقاطعة أي دعوات تخص الاستحقاق الانتخابي والتغيير الدستوري. ويبدو أن الرئيس سعيّد يستعد لهذا الاحتمال، على نحو انعكس في التصريحات التي أدلى بها، في 14 فبراير الماضي، وقال فيها أن "من دَعوا (في إشارة إلى المعارضة) إلى مقاطعة انتخابات أعضاء مجلس نواب الشعب (البرلمان) والجهات والأقاليم (الماضية)، يعدون العدّة بكل الوسائل للموعد الانتخابي القادم".
5- الاعتراض على قرارات الهيئات القضائية العليا: أعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان العراق، في 18 مارس الماضي، مقاطعته لانتخابات الإقليم البرلمانية المقررة في 10 يونيو القادم، وذلك اعتراضاً على قرار للمحكمة الاتحادية العراقية (وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد) بشأن قانون الانتخابات، في 21 فبراير الماضي، حددت فيه عدد أعضاء برلمان الإقليم بـ100 عضو بدل 111، وتسليم المفوضية العليا للانتخابات إدارة انتخابات الإقليم بديلاً من هيئة أخرى محلية.
وأصدر الحزب- الذي يتولى رئاسة حكومة الإقليم ويملك الغالبية في البرلمان الحالي- بياناً أكد فيه "عدم الاشتراك في انتخاب يجري خلافاً للقانون والدستور وتحت مظلة نظام انتخابي مفروض"، منتقداً "جميع الخروقات الدستورية التي تمارس من قبل المحكمة الاتحادية ضد إقليم كردستان ومؤسساته الدستورية عامة". وقد استند قرار عدم مشاركة الحزب الديمقراطي في هذه الانتخابات إلى أنها "تجري وفق قانون مفروض من بغداد ويمنع السلطات القضائية في إقليم كردستان من الإشراف عليها، وهو ما يخالف الدستور العراقي". كما أعلنت أحزاب تمثل الأقليات المسيحية والتركمانية مقاطعتها للانتخابات خصوصاً بسبب إلغاء الحصة الخاصة بها.
6- انعكاس تأزم العلاقات الرسمية على منسوب المعاملات التجارية: تؤثر العلاقات بين الدول العربية على حركة التعاملات التجارية، سلباً وإيجاباً. وتعد العلاقات الجزائرية-المغربية نموذجاً دالاً على التأزم منذ أكثر من ثلاثة عقود. ولعل ذلك اتضح في عدم توجه عدد من التجار المغاربة لاستيراد التمور الجزائرية خلال شهر رمضان الكريم في عام 2024، بل تم تغيير الوجهات إلى دول أخرى مثل العراق والسعودية والإمارات، على نحو اعتبره البعض نوعاً من المقاطعة بسبب التوترات المستدامة في العلاقات الثنائية، في حين ساد رأي آخر مفاده أن التمور الجزائرية موجودة داخل الأسواق المغربية لكن لا يتم الإقبال عليها من المستهلك لارتفاع ثمنها.
خلاصة القول، هناك تفاعل واسع مع تلك الحملات الداعية للمقاطعة الاقتصادية المُغلَّفة بأبعاد سياسية، في كثير من الأحيان، ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها المعلنة، وتأثيرها على الاستثمارات الوطنية والعمالة المحلية، فضلاً عن حدود الاستجابة لها من قبل جهات مختلفة في هذه الدولة العربية أو تلك، لأنه لا يمكن تجاهل الأصوات التي أبدت غضبها من غلاء الأسعار وجشع التجار وغياب الرقابة على كل منظومة السلع الاستراتيجية المرتبطة بحياة الناس اليومية. وكذلك التحول إلى المنتجات المنافسة المحلية خلال مقاطعة السلع والمنتجات التي تخص سلاسل شركات غربية وعلامات تجارية داعمة لإسرائيل.
وهنا، تمارس وسائل الإعلام الوطنية والدولية دوراً محورياً في التمهيد والتقييم بقوة تأثير المقاطعة. وتشير نتائج بعض الدراسات إلى أن الشركات التي شهدت انخفاضاً في السمعة العامة كانت أكثر تضرراً من تلك التي شهدت انخفاضاً في مبيعاتها، وأنه كلما زاد اهتمام وسائل الإعلام بالمقاطعة ازدادت فاعليتها، وهو مكمن القوة الحقيقية لحركات المقاطعة. كما أن المعارضة السياسية التي تتبناها قوى سياسية أو أحزاب رئيسية أو جبهات ائتلافية تبعث بإشارات للرأي العام ونخبة الحكم، وتصبح مؤثرة في بعض الأحيان وعديمة التأثير في أحيانٍ أخرى.