سوريا: ساحة لتصفية الحسابات الإسرائيلية-الإيرانية مجدداً
2024-4-3

صافيناز محمد أحمد
* خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

شنت إسرائيل في 29 مارس و1 أبريل 2024 هجومين مختلفين على الساحة السورية فى سياق تصفية الحسابات الإقليمية بينها وبين الخصم الإيرانى على هامش الحرب فى غزة؛ حيث أسفر الهجوم الأول الذى تركز على مواقع حزب الله اللبنانى فى بعض مناطق ريف حلب عن مقتل عدد من القادة الميدانيين للحزب أبرزهم على نعيم نائب قائد وحدة الصواريخ والقذائف بالحزب. بينما أدى الهجوم الثانى إلى مقتل عدد من القادة العسكريين لفيلق القدس الإيرانى التابع للحرس الثورى عبر ضربات على مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق.

الهجومان العسكريان وقعا خلال أربعة أيام فقط، وذلك فى سياق الاستهدافات التى تعمدت إسرائيل شنها على كوادر حزب الله اللبنانى وبعض قيادات فيلق القدس العاملة فى سوريا منذ التصعيد الحاصل فى مسار الحرب الإسرائيلية على غزة، هذا التصعيد الإسرائيلى يعد الأعنف فى مستوى الاستهدافات الإسرائيلية للمصالح الإيرانية فى سوريا خلال العامين الماضيين؛ مما يجعله تطوراً نوعياً مهماً؛ نظراً لحجم الخسائر البشرية الناتجة عن الهجومين، فى ضوء الوزن والمكانة العسكرية للكوادر والقيادات التى تم استهدافها سواء التابعين لحزب الله اللبنانى؛ أو التابعين لفيلق القدس؛ خلال تواجدهم فى مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق؛ والهجوم الأخير تحديداً يعد "نوعياً" باعتباره يمثل اعتداءً على مبنى يتبع البعثة الدبلوماسية لإيران فى دمشق، وهو ما يعنى اعتداءً مباشراً على سيادة كل من سوريا باعتبارها الدولة المعنية بحماية مقرات البعثات الدبلوماسية على أراضيها، وإيران لما يمثله الاعتداء على مقر دبلوماسى يتبع لها من قبل إسرائيل من رمزية باعتباره اعتداءً على مصالحها المباشرة فى سوريا.    

استهداف قواعد حزب الله فى مطار حلب الدولى

شنت إسرائيل هجوماً على بنية عسكرية مهمة لحزب الله اللبنانى بالقرب من مطار حلب الدولى باعتباره البوابة الرئيسية التى عبرها تقوم الفصائل التابعة لإيران فى سوريا بتهريب السلاح لحزب الله اللبنانى؛ حيث استهدفت عدداً من مخازن الذخيرة ومستودعات الأسلحة والصواريخ التى نقلتها إيران إلى سوريا؛ وتهدف إسرائيل بذلك إلى منع إيران من ترسيخ وجودها العسكرى فى سوريا، ومنعها كذلك من تهريب "أسلحة نوعية" إلى حزب الله عبر الساحة السورية؛ حيث أشارت الأنباء إلى أن الشحنة المستهدفة شملت صواريخ موجهة، وطائرات بدون طيار. وقد أسفر الهجوم عن مقتل 7 عسكريين من حزب الله اللبنانى، وعدد من جنود القوات السورية. وترى إسرائيل أن مرحلة جديدة من ملاحقة كوادر وقيادات حزب الله داخل لبنان وخارجها قد بدأت.

فى المقابل، اعتبرت طهران أن التصعيد العسكرى الإسرائيلى ضد بنيتها العسكرية وقادتها العسكريين فى حلب ودمشق يمثل تجاوزاً واضحاً لمسار "ضبط التصعيد" الذى كانت تسير عليه عجلة المواجهات بينهما على الساحة السورية فى سياق الحرب الدائرة فى غزة، وهذا تحديداً ينذر بخروج المواجهات عن مسارها ويدفع طهران إلى إعادة تفعيل عمل مليشياتها العاملة فى العراق وسوريا تجاه استهداف إسرائيل وداعميها بعد فترة هدوء شهدتها تلك المواجهات فى أعقاب الضربات الامريكية على المليشيات العراقية فى فبراير 2024، رداً على استهداف الأخيرة  القاعدة الأمريكية فى شرق الأردن فى يناير من العام نفسه. ويدلل على هذا التصور أنه وفى أعقاب الهجوم على مخازن السلاح ومراكز التدريب فى مطار حلب أعلنت طهران أن هذا الهجوم وعدد الخسائر البشرية التى أحدثها يمثل "تهديداً جاداً للسلام الإقليمى"؛ نتيجة تعمد إسرائيل إحداث خسائر كبيرة فى صفوف قيادات عسكرية تابعة لها فى سوريا منذ أكتوبر 2023، وهو ما وصفته طهران بالمغامرة الإسرائيلية الكبيرة، وأنها بصدد الرد عليها حتى ولو استدعى ذلك "تجاوز الخطوط الحمراء" فى إشارة إلى العودة إلى مسار المواجهات الإقليمية عبر محور المقاومة على وقع تعمد إسرائيل استهداف المصالح العسكرية لإيران فى سوريا واستهداف كذلك قيادات المليشيات التابعة لها هناك.

بعض التفسيرات لتوقيت الاستهداف الإسرائيلى لقواعد حزب الله فى مطار حلب السورى تشير إلى رغبة جامحة لدى الحكومة الإسرائيلية بزعامة نتنياهو جذب لبنان وسوريا على حد سواء إلى جبهة حرب جديدة؛ بهدف التغطية على حالة الفشل فى ملاحقة حماس، والفشل كذلك فى إجبار قادتها على قبول الشروط الإسرائيلية لصفقة تبادل الرهائن بالأسرى الفلسطينيين، بالرغم من استمرار العدوان الوحشى على الشعب الفلسطينى فى غزة وتشديد الحصار ومنع المساعدات وكسر كل عوامل الصمود الممكنة.

وفى هذه الحالة فإن هدف نتنياهو الرئيسى هو نقل مستوى المعركة لمستويات مواجهة إقليمية أوسع وأشمل مع إيران، هروباً من مأزق حكومته المتطرفة داخلياً، فضلاً عن الضغوطات الأمنية التى باتت تواجهها هذه الحكومة فى الضفة الغربية مؤخراً. لكن ما لا تدركه إسرائيل جيداً أن هناك عاملاً آخر إقليمياً لا يرغب فى توسيع نطاق هذه المواجهة وهو الجانب العربى الذي يرفض تماماً مساعى إسرائيل توسيع المواجهة العسكرية لتشمل إلى جانب غزة دولاً عربية أخرى كلبنان وسوريا، حتى وإن كانتا ضمن محور المقاومة الإقليمى المدعوم من قبل إيران؛ لأن ذلك سيؤدى إلى ضرب استقرار الأمن الإقليمى ككل.   

هجوم نوعى على القنصلية الإيرانية فى دمشق

التطور اللافت فعلياً فى نمط التفاعل الإسرائيلى مع الوجود الإيرانى فى سوريا حدث يوم الاثنين الأول من إبريل 2024؛ حيث استهدفت غارة إسرائيلية مبنى للقنصلية الإيرانية فى دمشق، فللمرة الأولى من نوعها تقوم إسرائيل باستهداف مقر رسمي يتبع إيران فى سوريا، ووفقاً للقواعد الدبلوماسية تعد مقار البعثات الدبلوماسية جزءً من أراضى الدولة الممثلة لدى غيرها من الدول، وأن الاعتداء على مثل هذه المقرات يصنف بكونه اعتداءً على الدولة نفسها. فقد كشفت معلومات استخباراتية إسرائيلية وجود اجتماع مهم فى أحد المبانى الملاصقة أو التابعة للقنصلية الإيرانية فى دمشق ضم مسئولى مخابرات إيرانيين، وقادة من فيلق القدس التابع للحرس الثورى الإيرانى العاملين فى سوريا، وقادة من حركة الجهاد الفلسطينية، وأسفر الهجوم عن خسائر بشرية ومادية كبيرة، كما أسفر عن مقتل أحد أهم القادة الميدانيين الإيرانيين فى سوريا وهو محمد رضا زاهدى قائد عمليات فيلق القدس التابع للحرس الثورى الإيرانى فى كل من سوريا ولبنان، والمسئول على تزويد حزب الله اللبنانى بالذخائر والأسلحة الإيرانية على مدار عدة سنوات. وقد أدان السفير الإيرانى فى دمشق الهجوم الإسرائيلى مؤكداً فى تصريحاته على هامش الحدث أن "رد طهران على استهداف القنصلية سيكون قاسياً".

من ناحيتها، اعتبرت إيران أن الهجوم الإسرائيلى على قنصليتها لا يمكن أن يتم دون موافقة الولايات المتحدة، بينما سارعت الأخيرة إلى التأكيد على عدم علمها بالضربة مسبقاً، وإنما أبلغتها إسرائيل قبل الهجوم بدقائق. ويبدو من مسارعة الولايات المتحدة لنفى علمها المسبق بضرب القنصلية الايرانية أنها تتحسب لعودة نشاط الفصائل المسلحة الولائية لإيران ضمن محور المقاومة الإقليمى لاستهداف مصالحها فى كل من العراق وسوريا سواء كانت مصالح عسكرية أو امنية أو اقتصادية، لاسيما وأن الإدارة الأمريكية تستعد للانتخابات الرئاسية التى تتراجع فيها حظوظ إدارة الرئيس الحالى جو بايدن فى ظل تفاعلاته مع حالة الحرب الإسرائيلية على غزة.  

نوعية الاستهداف وضخامة خسائره البشرية كان لافتاً لروسيا باعتبارها الداعم الدولى الرئيسى للنظام السورى فضلاً عن علاقة التعاون والتنسيق مع إيران فى الشأن السورى؛ حيث جاء رد الفعل الروسى عبر مستويين رسميين: الأول، عبر عنه مندوب روسيا الدائم فى الأمم المتحدة فى تصريحه قائلاً أن "الغارات الإسرائيلية على سوريا تهدد بمواجهة إقليمية شاملة"، بينما الثانى عبرت عنه المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية واصفة الحدث بأنه "استفزازى وغير مقبول ومحفوف بالمخاطر".

رد الفعل الروسى بهذه المستويات السياسية تجاه الهجوم الإسرائيلى يعبر عن عدم قبول روسيا لأى عملية إسرائيلية من شأنها تهديد حالة الاستقرار – النسبى – الذى بات يتمتع به الحليف السورى، وبالرغم من تكرار الضربات الإسرائيلية على سوريا ضد المصالح الإيرانية فيها على مدار السنوات الثلاثة الماضية، إلا أن استهداف مقر القنصلية الإيرانية يعنى بالنسبة لروسيا فتح جبهة إسرائيلية جديدة للصراع داخل سوريا من شأنها التأثير سلباً على معادلات "ثبات التفاعلات الإقليمية" داخلها على مدار السنوات الثلاثة الماضية، والزج بالنظام السورى فى أتون حرب إقليمية من شأنها خسارة كافة المكتسبات التى حققها النظام السورى، والتى جاهدت روسيا طوال السنوات الماضية فى الحفاظ عليه، والتأثير كذلك على المصالح التى تجمعه بروسيا على المستويات العسكرية والأمنية تحديداً.

فضلا عن ذلك، فإن رفع إسرائيل لوتيرة استهدافها للمصالح الإيرانية فى سوريا من وجهة النظر الروسية يقضى كلية على مسار "التفاهم الأمنى" المعمول به بين روسيا وإسرائيل فوق سماء سوريا منذ عام 2017، وفى هذا السياق تؤكد روسيا أنه لا يوجد اتفاق رسمي بينها وبين إسرائيل بشأن أى نوع من الاتفاقات الأمنية فى سوريا، وإنما هو نوع من التنسيق فرضته طبيعة الصراع الإقليمى والمصالح المشتركة بين روسيا وإسرائيل فى سوريا، ولا يخرج هذا التنسيق عن كونه مجرد "تفهم روسى" لاحتياجات إسرائيل الأمنية فى سوريا. فى المقابل ثمة قراءة أخرى تقول بأن روسيا ترغب فى الحفاظ على التفاهمات الروسية الإسرائيلية فى سوريا، والتى نجحت فى إبعاد المليشيات الإيرانية من الجنوب السورى، بدليل عدم اعتراضها على تجاوز الطيران الإسرائيلى، طوال السنوات الماضية، مناطق الجنوب ليضرب دمشق وحمص وحماة وصولاً إلى ضرب حلب مؤخراً، ومن ثم فإن الاعتراض الروسى الحالى على السلوك الإسرائيلى مرتبط بالحدث الإقليمى الأبرز وهو الحرب الإسرائيلية على غزة، باعتباره المتغير الجديد الذى قد تؤدى تفاعلات إسرائيل الجامحة بشأنه إلى التأثير السلبى على مستوى التفاهم المشترك الروسى-الإسرائيلى فى سوريا؛ لأنه يعيد فتح باب الصراع الإقليمى فيها مجدداً على مصراعيه. بينما ترى قراءة ثالثة أن نوعية الاستهداف الإسرائيلى هذه المرة لمقر رسمى لبعثة دبلوماسية للخصم الإيرانى هدفه التصعيد وفتح جبهة مواجهة مع حليف روسيا الإيرانى بغية التوصل معها إلى "اتفاق أمنى" حقيقى وفعلى بخصوص المتطلبات الأمنية الإسرائيلية فى سوريا، بدلاً من نمط "التفاهم الضمنى" المعمول به قبل اندلاع أحداث غزة فى 7 أكتوبر.

ماذا بعد؟

تترقب الأوساط السياسية الإقليمية رد الفعل الإيرانى جراء العدوان الإسرائيلى على القنصلية الإيرانية فى دمشق، وما أسفر عنه من اغتيال محمد زاهدى قائد عمليات فيلق القدس فى سوريا ونائبه، لاسيما وأن حجم الخسائر ونمط الاستهداف هذه المرة يضع المسئولين الإيرانيين فى موقف حرج للغاية خاصة مع تزايد مطالبة الرأى العام فى إيران بضرورة الرد على هذا الاستفزاز الإسرائيلى.

فى هذا السياق، ثمة عدة احتمالات فى هذا الشأن: الأول، أن تشهد جبهة إسرائيل الشمالية مستوى عالٍ من التصعيد من جانب حزب الله اللبنانى، وقد بدأت مؤشراتها فى ضربات شنها الحزب داخل العمق الإسرائيلى وصولاً لأهداف فى المستوطنات واستهداف نقاط عسكرية داخل الكيان وفى منطقة التفاعل الحدودية. الثانى، عودة العمل بين صفوف المليشيات المسلحة العراقية الموالية لإيران باستهداف القواعد العسكرية الأمريكية فى العراق وسوريا مجدداً وبمستويات عالية بهدف إحداث خسائر قاسية، يضاف إلى ذلك استهداف إسرائيل نفسها وتبدو مؤشرات ذلك فى استهداف الميليشيات العراقية مؤخراً نقاطا عسكرية جنوب مدينة إيلات الإسرائيلية.

الثالث، أن تستهدف إيران بنفسها أهدافاً داخل إسرائيل وخارجها؛ قياساً على استهداف إيران المباشر للمصالح الإسرائيلية-الأمريكية فى إقليم كردستان العراق خلال يناير 2024. الرابع، أن تستهدف إيران السفارات الإسرائيلية فى مناطق متفرقة فى المنطقة والعالم.     

يمكن القول إنه وعلى مدار الشهور السبعة الماضية منذ أكتوبر 2023، واندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة فإن تكرار الاستهدافات الإسرائيلية للمصالح الإيرانية وقادة فصائلها المسلحة فى سوريا ولبنان لم يقابله رد قوي من قبل طهران، لاسيما وأن إسرائيل نجحت فى بعض تلك الاستهدافات في اغتيال عدد كبير من قادة عسكريين ميدانيين إما تابعين لميليشيات ولائية لها فى العراق، وإما تابعين لحزب الله اللبنانى فى سوريا، وإما تابعين لقادة الحرس الثورى الإيرانى نفسه.

وفى كل هذه الاستهدافات، لم يكن رد الفعل الإيرانى يتناسب وحجم الخسائر التى تتكبدها طهران فى مناطق نفوذها الإقليمية فى المنطقة، ما قد يؤشر على أن الرد الإيرانى هذه المرة أيضاً "ربما" لن يخرج عن حدوده المتوقعة والتى أبرزها إعادة تفعيل جبهات المقاومة الإقليمية لضرب المصالح الأمريكية تارة، أو استهداف إسرائيل نفسها تارة أخرى، وذلك من منطلق عدم رغبة إيران فى الزج بملفات نفوذها فى كل من العراق وسوريا ولبنان إلى جبهة مواجهة عسكرية شاملة.


رابط دائم: