أثار اليمين المتطرف في ألمانيا جدلاً سياسياً لازالت تداعياته مستمرة على الساحة السياسية الألمانية والأوروبية. إذ قالت أليس فايدل، رئيسة حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AFD)، في 23 يناير الماضي (2024)، أن حزبها "سيدفع لإجراء استفتاء على خروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي إذا وصل إلى السلطة"[1]، على غرار ما فعلته بريطانيا، مما فرض ردود فعل سلبية داخل ألمانيا، التي تُعد معقلاً للديمقراطية الليبرالية، كما طرح العديد من المخاوف والتساؤلات أيضاً بشأن مدى إمكانية تحقيق ذلك، وحدود تأثيره على مستقبل ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
سياقات الدعوة
لطالما كان حزب البديل من أجل ألمانيا مناهضاً للاتحاد الأوروبي بشكل علني، حيث وصفه في برنامجه الانتخابي بأنه "مشروع فاشل لا يمكن إصلاحه". ومع ذلك، فإن طرح الحزب فكرة خروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي -التي عُرفت باسم "Dexit"- في هذا التوقيت يمكن تفسيرها في إطار عدة سياقات سياسية، وذلك على النحو التالي:
1- استمرار تدفق المهاجرين بنسب عالية إلى ألمانيا: أظهرت بيانات الشرطة الألمانية تسلل أكثر من 92 ألف شخص إلى ألمانيا بشكل غير قانوني خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر 2023،[2] فيما قدّر مكتب الإحصاء الفيدرالي صافي الهجرة لعام 2023 بين 680 ألفاً إلى 710 آلاف مهاجر.[3] كما وصل إجمالي عدد طالبي اللجوء في ألمانيا في العام نفسه إلى 352 ألف شخص بزيادة قدرها 51% مقارنةً بعام 2022، أغلبهم من السوريين والأتراك والأفغان.[4] إضافة إلى 1.1 مليون لاجئ أوكراني استقروا في ألمانيا منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية.
ومع زيادة تدفق المهاجرين لألمانيا، يزداد الهجوم على الحكومة الفيدرالية من جانب المعارضة، خاصةً حزب "البديل من أجل ألمانيا". ومن المعروف أن اليمين المتطرف عموماً في أوروبا وجد ضالته في قضية المهاجرين التي أعادت تمركزه في السياسة الأوروبية خلال السنوات الماضية، من خلال تبني خطاب معادٍ للمهاجرين وداعٍ لطردهم نظراً لتأثيراتهم السلبية على المجتمعات الأوروبية.
2- اقتراب الانتخابات الوطنية والأوروبية: من المقرر انعقاد انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024. وتشير التوقعات إلى حدوث تحول كبير نحو اليمين في العديد من البلدان الأوروبية، في مقابل تراجع أحزاب اليسار والوسط. وفي ألمانيا تحديداً، يُتوقع أن يأتي حزب البديل في المركز الثاني أو الثالث من حيث عدد المقاعد. لذلك من المحتمل أن يظهر ائتلاف يميني شعبوي داخل البرلمان الأوروبي يضم الديمقراطيين المسيحيين، والمحافظين، وأعضاء البرلمان الأوروبي من اليمين المتطرف بأغلبية للمرة الأولى.[5]
من ناحية أخرى، من المقرر إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة في ألمانيا في عام 2025، وسيقدم حزب البديل من أجل ألمانيا مرشحاً لمنصب المستشار لأول مرة، مستغلاً تزايد شعبيته في السنوات الأخيرة التي وضعته استطلاعات الرأي في المركز الثاني بحوالي 23% من الأصوات بعد المحافظين مباشرة، في مقابل تراجع الخضر واليسار.
3- تصاعد غضب الشارع الألماني ضد اليمين المتطرف: أثار الاجتماع السري، الذي كشفه موقع "كوريكتيف (Correctiv)" للصحافة الاستقصائية في منتصف يناير 2023، والذي ضم أعضاء من حزب البديل وأشخاص من النازيين الجدد ورجال أعمال وغيرهم، احتجاجات حاشدة على مستوى البلاد بمشاركة مئات الآلاف في ألمانيا ضد حزب البديل الألماني، وصلت لحد المطالبة بفرض حظر كامل على الحزب، خاصةً أن هذا الاجتماع ناقش خطة شاملة ذات معالم ودوافع عنصرية تهدف لترحيل جماعي للأجانب وطالبي اللجوء وحتى الألمان من أصول مهاجرة الذين فشلوا في الاندماج.[6] لذا، يمكن فهم دعوة حزب البديل الآن لـDexit، كمحاولة لتشتيت الانتباه وتحويل التركيز عن خطة الترحيل الجماعي للمهاجرين، أي كمهرب سياسي لتهدئة الاحتجاجات ضدهم، خاصةً مع اقتراب الانتخابات الوطنية والأوروبية.
4-تزايد معدلات البطالة وتراجع دولة الرفاه الألمانية: رغم قوته، تضرر الاقتصاد الألماني كغيره من الاقتصادات العالمية بتداعيات جائحة كوفيد-19، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية، وهو ما انعكس على انكماش الناتج المحلي الإجمالي، وتزايد علامات الركود الوشيك على الاقتصاد العام. وقد كان ذلك أكثر وضوحاً في تزايد معدلات البطالة، والتي وصلت لأعلى معدلاتها في ألمانيا في نوفمبر 2023 بنسبة 5.9%، والذي اعتبره مكتب العمل الفيدرالي أعلى معدل بطالة منذ مايو 2021.[7]
تطور معدلات البطالة في ألمانيا (2005 – 2023)
Source: Statista, 2024: https://tinyurl.com/2bjwxa7m
ويوظِّف اليمين المتطرف هذه المؤشرات للهجوم على الائتلاف الحكومي من ناحية، وربطها بقضية المهاجرين من ناحية أخرى بصفتهم المتسبب في هذه الأزمة، لإبراز تراجع دولة الرفاه في ألمانيا، بما يخدم أغراضه السياسية وكسب مزيد من الشعبية في الشارع الألماني.
اتجاهات ردود الفعل على الدعوة
تركزت ردود الفعل السياسية الرافضة لدعوة حزب البديل من أجل ألمانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي في ثلاثة اتجاهات رئيسية؛ لعلَّ أبرزها ما يلي:
1- الهجوم على حزب البديل وسط تشكيك في نوايا الدعوة: شن بعض السياسيين، خاصةً من الائتلاف الحاكم، هجوماً على حزب البديل نفسه في أعقاب هذه الدعوة؛ قائلين إنه "لا أحداً في كامل قواه العقلية" سيدعم مثل هذه الفكرة. كما شكك آخرون في نوايا حزب البديل من وراء الدعوة بسبب أمرين؛ أولهما، أن أحدث استطلاع رأي أجرته مؤسسة "كونراد أديناور ستيفتونج" (KAS) كشف أن 87٪ من الألمان يؤيدون عضوية ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، و52% من مؤيدي حزب البديل نفسه لازالوا يفضلون استمرار العضوية. ثانيهما، أن موقف حزب البديل نفسه غير واضح بشأن هذه الأزمة، خاصةً أنه أسقطها من بيانه لعام 2024، أما الدعوة إلى "الحل الخاضع للرقابة" للاتحاد الأوروبي، والتي ظهرت في مسودة نسخة من بيان الحزب، تم رفضها لاحقاً باعتبارها خطأ تحريرياً، ثم يعود حالياً لإبرازها مجدداً، بما يبرز عدم الوضوح والتشكيك فيما وراء الدعوة.[8]
2- إبراز التأثير السلبي على الاقتصاد الألماني: تركز الاتجاه الأكبر في الاستجابة لدعوة البديل في إبراز الآثار السلبية التي ستعود على الاقتصاد الألماني جراء هذه الخطوة، حيث اعتبر المستشار الألماني أولاف شولتز أن "أي تحرك لمغادرة الاتحاد الأوروبي سيكون كارثياً على أكبر اقتصاد في الكتلة"، مضيفاً أمام البوندستاغ الألماني: "سيكون ذلك أكبر تدمير للثروة يمكن أن يحدث لأوروبا وألمانيا على الإطلاق. فقد استفادت بلادنا أكثر من أي دولة أخرى من الاتحاد الأوروبي والتعاون الأوروبي".[9] فيما عدَّد آخرون مخاطر الخروج من الاتحاد، خاصةً أن أوروبا هي أكبر الأصول الألمانية في المنافسة العالمية، ناهيك عن انجذاب المستثمرين لألمانيا بسبب قيمها وهياكلها الديمقراطية الموثوقة بالارتباط مع أوروبا، فضلاً عن أنه لا يمكن لألمانيا معالجة نقصها من العمالة الماهرة إلا إذا كانت وجهة جذابة للعمال المؤهلين من الخارج، خاصةً في أوروبا، هذا بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية الجمة التي ستتعرض لها ألمانيا من الانجرار وراء مثل هذه الخطوة.[10]
3- التركيز على المعوقات الدستورية لإجراء الاستفتاء: على الرغم من أن هذا الاتجاه لم يبدِ أنصاره دعمهم أو رفضهم للفكرة نفسها، إلا إنهم أبرزوا أن هناك بعض المعوقات الدستورية لإجراء الاستفتاءات الوطنية.[11] فوفقاً للدستور الألماني، يوجد نوعان فقط من الاستفتاء الإلزامي على المستوى الفيدرالي، وهما: إما لاعتماد دستور جديد أو الاستفتاءات الإقليمية في حالة إعادة هيكلة الولايات، مما يتطلب عدة تعديلات دستورية قبل التوجه نحو إجراء الاستفتاء وهو صعب عملياً نظراً لتباين أحجام الكتل البرلمانية المؤيدة والرافضة لمثل هذه الخطوة.
ويلفت النظر في هذه الاتجاهات أن التركيز على الآثار الاقتصادية السلبية لهذه الخطوة كان الأكثر بروزاً إعلامياً، ما قد يبعث برسائل سياسية متناقضة في الوقت الحالي؛ فمن جانب يدعم ضرورة ارتباط ألمانيا بالاتحاد الأوروبي، ومن جانب آخر يبرز أن هذا الارتباط قائم فقط على الاقتصاد، متجاهلاً القيم والمصائر المشاركة، ووحدة التهديدات الأمنية، والروابط الثقافية والسياسية مع الاتحاد الأوروبي وغيره.
تداعيات محتملة
يبدو أن دعوة "البديل من أجل ألمانيا" اكتسبت زخماً سياسياً أكبر من رغبة الحزب نفسه، خاصةً أنها دعوة غامضة لا تخرج عن كونها دعاية سياسية قبل الانتخابات، ومهرباً سياسياً في الوقت نفسه لصرف الانتباه عن "فضيحة" الاجتماع السري مع النازيين. ومع ذلك، وإذا تم مدّ هذا الخط على استقامته، نجد أن جوهر فكرة Dexit حاضر في الاستراتيجية اليمينية في ألمانيا، أو على الأقل يُوظَّف هذا الأمر لتعزيز استقلالية الدول الأعضاء في مواجهة مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتحديداً المفوضية الأوروبية، في إطار خطة أكبر يدعو لها البديل الألماني لإصلاح الاتحاد الأوروبي، وهو الرأي الذي لا يشاركه فيه – حتى الآن- معظم التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا.
وعلى الرغم من ذلك، لا شك أن هذه الدعوة أو هذه الفكرة عموماً، ومن حيث المبدأ، قد تكتسب مزيداً من الزخم لاحقاً مع كل فشل تُمنى به الحكومة الفيدرالية في التعامل مع أزمة الهجرة واللجوء، وكذلك صعوبة تحسين الأوضاع الاقتصادية، والذي من شأنه إكساب البديل من أجل ألمانيا (الذي يحل حالياً في المرتبة الثانية في استطلاعات الرأي)، مزيداً من الشعبية والنفوذ السياسي والمقاعد البرلمانية.
في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن ائتلاف شولتز اتخذ عدة خطوات جادة، أقرب في نهجها إلى اليمين المتطرف، لمواجهة الهجرة غير الشرعية، منها تشديد الرقابة على الحدود مع بولندا والتشيك، وإجراء مفاوضات مع ستة دول أخرى حول شراكات الهجرة لتشديد الرقابة الحدودية ووضع مزيد من الضوابط مع دول الجوار. وفي نوفمبر 2023، اتفق شولتز مع رؤساء الولايات الألمانية الـ16 على سياسة أكثر صرامة تجاه المهاجرين لجعل ألمانيا أقل جاذبية،[12] عن طريق خفض المساعدات المقدمة لطالبي اللجوء، ومضاعفة وقت حصولهم على المزايا الاجتماعية الكاملة على سبيل المثال، في تناقض صارخ مع سياسة "الباب المفتوح" التي اتبعتها ألمانيا منذ عهد آنجيلا ميركل.
ومع ذلك، تأتي دعوة "البديل من أجل ألمانيا" لتزيد من حالة الكراهية والعداء المتصاعدة ليس ضد المهاجرين واللاجئين فحسب، بل أيضاً ضد أسس الديمقراطية الليبرالية في ألمانيا والنخب الحاكمة والوحدة الأوروبية، مما يطرح العديد من المخاوف بشأن التداعيات المحتملة لمثل هذه الدعوة، والتي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
1- إضعاف النظام الديمقراطي: حذَّرت الاستخبارات الداخلية في ألمانيا في 31 يوليو 2023، من تداعيات ظهور تيارات مناهضة للدستور داخل حزب البديل، خاصةً مع تراجع نفوذ المعتدلين داخل الحزب وتصاعد نظرية "مؤامرة يمينية متطرفة" تروج لفكرة "الاستبدال الكبير"، أي أن النخب السياسية تقوم عمداً بإدخال المهاجرين غير البيض إلى أوروبا ليحلوا محل العرق الأبيض، الأمر الذي يهدد النظام السياسي وأساسيات القانون والدستور الألماني[13]. وهنا يمكن التذكير بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي نظمتها "حركة مواطني الرايخ" في ديسمبر 2022، مدفوعة بأجندة يمينية متطرفة للإطاحة بالحكومة الألمانية.
2- تهديد الأمن المجتمعي: يؤدي تصاعد العداء ضد المهاجرين، خاصةً المسلمين، إلى تغذية خطابات الكراهية المضادة والتي قد تستخدمها الجماعات المتطرفة المنسوبة إلى الإسلام لصالح معتقداتها، بما يهدد تماسك المجتمع الألماني، وركائز الديمقراطية القائمة على التنوع.
3- تفكيك الوحدة الأوروبية: ويزداد هذا التهديد مع كل مكسب يحققه البديل من أجل ألمانيا في الانتخابات المحلية والوطنية والأوروبية أيضاً، نظراً لكون برنامجه الانتخابي يتضمن إصلاحات جذرية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن أن ألمانيا هي القوة الأكبر في الاتحاد حالياً، ومن ثم فإن خروجها أو تحويل الاتحاد الأوروبي لاتحاد "سياسي" فيدرالي لا أكثر، من شأنه أن يفرِّغ فكرة الوحدة من مضمونها، بما قد يمهد لتفكيك الاتحاد لاحقاً.
ومع ذلك، يمكن القول إنه رغم زخمها السياسي، تظل دعوة حزب البديل لخروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي "Dexit" بمثابة قنبلة صوتية سياسية فارغة لكونها ستظل مرهونة بتحقق العديد من العوامل؛ مثل نجاح الحزب في الوصول للسلطة في ألمانيا عبر المشاركة في الائتلاف الحاكم، ووجود دعم شعبي للفكرة، ناهيك عن ضرورة تعديل الدستور الفيدرالي لتنظيم مثل هذا الاستفتاء، بالإضافة إلى أن تكون هناك خطة واضحة لتنفيذ هذا الأمر من الأساس لدى حزب البديل من أجل ألمانيا.
[11] German government parties dismiss AfD’s EU exit referendum call, Op Cit.