يتمثل أحد أكثر الانتقادات التي وُجهت لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعد إطلاقه الحرب البرية في غزة ضد حركة حماس وحلفائها في أواخر شهر أكتوبر من العام الماضي (2023)، أن إسرائيل دخلت هذه الحرب بأهداف لا تتضمن تصورا لما بعد اليوم التالي لنهاية الحرب فيما يخص مستقبل قطاع غزة.
فقد كان أحد أهداف الحرب –كما أعلنها نتنياهو- هو القضاء على حكم حماس، وبالتالي كان السؤال عمن سيحكم القطاع بعد سقوط حماس سؤالاً ضرورياً، ليس فقط بالنسبة لعديد من القوى الإقليمية والدولية التي تخشى أن تتسبب الحرب في غزة وتداعياتها المختلفة، في تهديد الاستقرار الإقليمي والأمن والسلم الدوليين على حد سواء، بل داخل إسرائيل نفسها التي طالما نظرت- منذ تأسيسها عام 1948- إلى القطاع على أنه مشكلة أمنية مزمنة، سواء كان تحت إدارة دولة أخرى (حالة القطاع خلال الفترة 1950-1967 تحت الإدارة المصرية) أو كان تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر (1967-2005)، أو عندما أصبح مستقلاً (بعد استيلاء حماس على حكم القطاع وفصله إدارياً عن السلطة الفلسطينية منذ عام 2007 وحتى الآن).
لقد ظل نتنياهو يتهرب من الإجابة على التساؤل الخاص بمستقبل القطاع، حتى أطلق في 22 فبراير الماضي ما سمى بخطته أو تصوره لمستقبل القطاع بعد نهاية الحرب. وقد أثار هذا التصور الذي لا يرقى في الواقع لوصف تعبير "خطة"، بأي حال، العديد من التساؤلات حول تفاصيله، ومدى إمكانية تطبيقه عملياً.
النقاط الثماني
حسب الرؤية التي قدمها نتنياهو فيما يسمى بخطة أو تصور مستقبل قطاع غزة بعد الحرب، ثمة تداخل بين أهداف الحرب الثلاثة كما حددها نتنياهو مبكراً وقبل انطلاق الغزو البري للقطاع في أكتوبر من العام الماضي: القضاء على حماس عسكرياً وعلى حكمها سياسياً، تحرير الأسرى، وأخيرا ضمان عدم تكرار هجوم السابع من أكتوبر، وبين عناصر تصور ما بعد الحرب.
ويبدو هذا التداخل منطقياً في ظل حقيقة أن الأهداف الثلاثة سالفة الذكر لم تتحقق حتى الآن، وأن أي تصور لما بعد الحرب سيتأثر حتماً بالوضع الذي ستنتهي إليه الحرب ذاتها؛ بمعنى أن إنهاء الحرب بالقوة العسكرية الإسرائيلية وحدها لن يرتب النتائج نفسها إذا ما انتهت الحرب بتدخل دولي لفرض وقف إطلاق النار (وهو احتمال قائم وإن كان ضئيلاً للغاية)، وبالتالي سيختلف وضع القطاع وفقاً لتحقق أحد السيناريوهين المذكورين.
ويمكن القول إن رؤية نتنياهو تنطلق بالأساس من فرضية أن إسرائيل ستتمكن من القضاء بالكامل على القدرات العسكرية لحماس، وبعدها يمكن فرض هذه الرؤية على الفلسطينيين وعلى القوى الدولية والإقليمية المعنية بهذا الصراع، وتتلخص هذه الرؤية في العناصر التالية:
1- تتمتع القوات الإسرائيلية بحرية العمل في قطاع غزة بأكمله فور انتهاء الحرب، وإقامة مناطق أمنية داخل القطاع وعلى حدوده، على أن تظل هذه المناطق قائمة طالما استدعت التقديرات الأمنية الإسرائيلية ذلك.
2- ستعمل إسرائيل مع مصر والولايات المتحدة لمنع التهريب من معبر رفح.
3- سيتم نزع سلاح غزة بالكامل، وتتولى إسرائيل الإشراف على هذه المهمة.
4- سيتم تشكيل إدارة مدنية لقطاع غزة من عناصر فلسطينية غير مرتبطة بالدول أو الجهات التي تدعم الإرهاب أو تتلقى أموالاً منها.
5- وضع خطة لاجتثاث التطرف في كافة المؤسسات الدينية التعليمية والرعاية الاجتماعية في قطاع غزة. وهذه الخطة سيتم تنفيذها قدر الإمكان بمشاركة دولة عربية لديها خبرة في تعزيز مكافحة التطرف. ويلمح نتنياهو هنا إلى السعودية والإمارات تحديداً.
6- إلغاء منظمة الأونروا واستبدالها بمنظمات إغاثة دولية أخرى.
7- السماح بإعادة إعمار القطاع فقط بعد الانتهاء من تجريد القطاع من السلاح، وبعد الانتهاء من تطبيق خطة مكافحة التطرف والإرهاب.
8- رفض إسرائيل بشكل قاطع محاولات فرض حل الدولتين من الخارج، وستواصل التفاوض المباشر مع الفلسطينيين حول كيفية حل الصراع بينهما.
صعوبات عديدة
من الملاحظ أن العناصر الثمانية السابقة تعتبر شروطاً أكثر منها خطة لإدارة القطاع بعد الحرب، وهذه الشروط بعضها غامض، فيما يُشرك بعضها الآخر أطرافاً لم تتم استشارتها أو أخذ موافقتها على ذلك. على سبيل المثال، من المعروف أن موقف مصر ثابت من مسألة ضرورة أن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة القطاع، ولا يمكن أن تتعاون مصر في مسألة ضبط الحدود مع قطاع غزة إلا لو كان هناك طرف فلسطيني يحظى بالشرعية القانونية، وليس مجرد إدارة مدنية من عناصر فلسطينية قد تكون مرفوضة من أغلبية أبناء الشعب الفلسطيني. كذلك، أعلنت الإمارات والسعودية رفضهما الصريح للمشاركة في إعمار القطاع أو المشاركة في تطبيق أية إجراءات لإحلال السلام والاستقرار هناك من دون التوصل لطريق يؤدي إلى تطبيق حل الدولتين.
كذلك، تتعارض هذه الرؤية مع الموقف الأمريكي والمواقف الدولية والإقليمية المعلنة التي ترفض اقتطاع أي مساحة من القطاع، وتدعو إلى تطبيق حل الدولتين بعد إصلاح السلطة الفلسطينية.
وفيما يتعلق بإلغاء الأونروا، فإنه حتى الدول التي علقت دعمها للمنظمة بشكل مؤقت في أعقاب اتهام إسرائيل لها بتوظيف عدد من مقاتلي حماس في مؤسساتها... حتى هذه الدول لم يصل موقفها إلى حد الموافقة على إلغاء المنظمة، وهناك يقين بأن إسرائيل تسعى لإلغاء الأونروا ليس للسبب الذي ادعته، بل من أجل منع استخدام قاعدة بياناتها الخاصة بحقوق اللاجئين الفلسطينيين في المطالبة مستقبلاً بحقهم في العودة إلى ديارهم التي تم طرد أجدادهم منها عام 1948، أو تلقي تعويضات عنها.
مستقبل الخطة
رغم كل العيوب التي تضمنتها "رؤية" نتنياهو لمستقبل القطاع، إلا أن مصدر قوتها هو التوافق التام بينها وبين رؤية الجيش والمؤسسات الأمنية الإسرائيلية، وهو ما يظهر بوضوح في التطابق بين تلك الرؤية ومثيلتها التي قدمها وزير الدفاع الإسرائيلي يؤاف جالنت في 5 يناير 2024. ويعني ذلك أننا لسنا أمام رؤية خاصة بنتنياهو وحده، وأنه في حالة رحيله عن السلطة –والذي يبدو شبه مؤكد بعد انتهاء الحرب- ستكون هذه الرؤية نفسها هي الأساس الذي سيرتكن إليه أي رئيس حكومة في المستقبل للتفاوض حول الحل الواجب تطبيقه في القطاع، خاصة لو تمكنت إسرائيل من القضاء على حماس عسكرياً بالفعل.
وتشير استطلاعات الرأي في إسرائيل على مدى الشهرين الأخيرين إلى أن حزب الليكود سيفقد ما يقرب من نصف مقاعده الحالية في الكنيست (32 مقعداً)، ولكن الأحزاب الحريدية وأحزاب الصهيونية الدينية ستحافظ على قوتها أو تزيد منها في أي انتخابات مقبلة (تمتلك هذه الأحزاب حالياً 32 مقعداً في الكنيست)، وهو ما يعني أن تلك الجبهة من الأحزاب الدينية ستكون عائقاً أمام أي محاولة لتغيير توجهات الدولة العبرية نحو الخطط المنتظر تطبيقها في غزة بعد الحرب. وإذا أضفنا إلى ذلك أن حزب "معسكر الدولة" الذي يتزعمه بيني جانتس (عضو حكومة الطوارئ التي تقود الحرب الحالية) كان قد أعلن بوضوح موافقته على أهداف الحرب، ورفضه لإقامة دولة فلسطينية، فإن فرص فرض حل الدولتين من الخارج تزداد صعوبة بسبب وحدة مواقف الأحزاب الإسرائيلية وتأييد الرأي العام الإسرائيلي لأهداف الحرب، وعلى الأخص القضاء على حكم حماس في غزة والسيطرة الأمنية على حدود القطاع.
في ظل تلك المعطيات سيتعين على الولايات المتحدة محاولة تحقيق اختراق في هذه الدائرة المغلقة بإحكام. ويبدو أن واشنطن بدأت ذلك بالفعل عندما دعت في مطلع مارس الجاري بيني جانتس (الأوفر حظاً للفوز برئاسة الحكومة حال إجراء انتخابات مبكرة، سواء أثناء الحرب أو بعد نهايتها) لزيارتها، على أمل أن تتمكن من إقناعه بالتخلي عن بعض الاشتراطات التي وردت في رؤية نتنياهو.
غير أنه من المشكوك فيه أن تنجح هذه المساعي الأمريكية، ليس فقط لأن جانتس يرفض التنازل عن وضع القطاع تحت الرقابة الأمنية الإسرائيلية لسنوات قادمة، ويرفض أيضاً حل الدولتين، بل لأن نتنياهو بدأ فعلاً في التحريض ضده متهماً إياه بأنه يسمح للولايات المتحدة بأن تتدخل في الشأن الداخلي الإسرائيلي.
بمعنى آخر، وفي ظل ضعف احتمال تغيير توجهات السياسة الإسرائيلية حيال غزة بعد الحرب، لن يكون أمام الولايات المتحدة سوى إعلان اعترافها بدولة فلسطينية عقب تمكنها من فرض إجراءات إصلاحية في السلطة الفلسطينية، وعندها ستقع إسرائيل تحت ضغوط حقيقية من المجتمع الدولي بسبب استمرارها في احتلال دولة أخرى، وهو وضع مختلف كلياً عن التوصيف المستخدم في اتفاق أوسلو الموقع بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام1993 والذي كان يحدد الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي على أنه "نزاع" بين الطرفين علي أراضٍ وليس قضية احتلال من دولة لأراضي دولة أخرى.