تستعد إيران في الأول من مارس القادم (2024) لإجراء انتخابات مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) التي ستتزامن مع انتخابات مجلس خبراء القيادة، حيث يحق لـ61 مليون مواطن المشاركة في هذا الاقتراع لاختيار أعضاء البرلمان البالغ عددهم 290 عضوًا ويتم انتخابهم كل أربع سنوات، لدورته الـ12 على مدى السنوات الأربع المقبلة. كما سيختارون أيضًا أعضاء مجلس خبراء القيادة الـ 88 لدورة من 8 سنوات، تعد السادسة في تاريخ المجلس الذي يتولى-نظريًا- تعيين وعزل المرشد الأعلى للجمهورية.
وتكتسب تلك الانتخابات أهمية خاصة لعدة أسباب: أولاً، كونها الأولى التي ستجرى بعد الاحتجاجات التي شهدتها إيران على خلفية أزمة قانون الحجاب ومقتل الشابة الكردية مهسا أميني على أيدي عناصر شرطة الأخلاق في 15 سبتمبر عام 2022 والتي لا تزال تلقي بظلالها على المشهد الداخلي، حيث يشعر قطاع من الإيرانيين بالاستياء من الحالة التي وصل إليها اقتصاد البلاد والقيود التي تفرض على الحريات الاجتماعية والسياسية.
وثانيًا، لأنها تأتي في ظروف إقليمية ودولية صعبة في ظل تصاعد حدة الحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة وما يرتبط بها من تصعيد مع مليشيات موالية لإيران في دول مختلفة. وثالثًا، لأنها قد يكون لها تأثير على اختيار المرشد الأعلى القادم، ففي حالة غياب المرشد الحالي علي خامنئي الذي يبلغ من العمر 84 عامًا، عن المشهد، سيحق لمجلس خبراء القيادة في دورته الجديدة اختيار خليفته.
نسبة المشاركة: اختبار صعب
تشير نسبة المشاركة الشعبية في العملية الانتخابية إلى دلالات عدة أهمها أنها تعكس مدى رضا الناخبين عن المرشحين في تلك الانتخابات وعن سياسات النظام والحكومة. ووفقًا لمقولة مؤسس نظام الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني في عام 1979 فإن "مشاركة الشعب في الانتخابات هي المقياس لمقبولية سياسات الدولة"، وقد قام النظام منذ ذلك الحين باستخدام هذه العبارة لتعزيز أهمية تصويت الجمهور.
لكن ثمة قلقًا ينتاب قيادة النظام من تراجع تلك النسبة، خاصة أنها انخفضت تدريجيًا في الاستحقاقات الأخيرة، حيث تراجعت من 64% في 2012 إلى 42% في 2020[1]، وتفاقمت حدة الاستياء الشعبي منذ الانتخابات الرئاسية التي أجريت بعد ذلك في عام 2021، عندما استبعد مجلس صيانة الدستور العديد من الشخصيات البارزة من الترشح للرئاسة ووفر الفرصة للرئيس الحالي إبراهيم رئيسي للوصول إلى المنصب من دون منافسة فعلية، ما جعل المعارضة الإيرانية في الخارج تصف الانتخابات التي أجريت خلال تلك الفترة بأنها "غير حرة وغير عادلة ومقررة مسبقًا".
وخلال الدورة الانتخابية الحالية ومع رفض ترشح الرئيس السابق حسن روحاني لمجلس خبراء القيادة رغم أنه كان عضوًا في هذا المجلس لثلاث دورات متتالية، وبالرغم من أن ذلك كان متوقعًا، آُثيرت التساؤلات في الأوساط السياسية حول أسباب استبعاد عدد كبير من المرشحين مع تجاهل شروط إجراء انتخابات تنافسية.
لذا قد لا تبدي فئة كبيرة من الناخبين رغبتها في المشاركة في تلك الانتخابات التي تبدو لها بأنها أشبه بتنافس "أصولي–أصولي" بين القوى التي تنتمي إلى تيار المحافظين الأصوليين، لا سيما "ائتلاف قوى الثورة الإسلامية" وجبهة "بايداري".
ومن هنا، تتوقع تلك الفئة أن الانتخابات لن تُحدث أي تغيير في ما يعانيه الإيرانيون من توترات اجتماعية وأزمة اقتصادية، هذا بالإضافة إلى محدودية تأثير هذين المجلسين في القرارات السياسية التي يتخذها النظام سواء في الداخل أو الخارج. ويعزز ذلك ما تشير إليه نتائج استطلاعات الرأي الحكومية وغير الحكومية التي ترجح وصول نسبة عدم المشاركة في انتخابات هذا العام إلى ما بين 70 و77%[2]، ما جعل النظام يقوم بوصف من سيتخلف عن الانتخابات بأنه "متحالف مع أعداء الثورة والمناهضين لها".
وبغض النظر عن عدد المرشحين الذين سيشاركون في الاقتراع، فإن السؤال الأكثر أهمية هو ما إذا كان الإصلاحيون في إيران سوف يقاطعون التصويت أم لا؟
يمكن القول إن الآراء داخل المعسكر الإصلاحي انقسمت إلى اتجاهين: اتجاه يدعو إلى مقاطعة الانتخابات، واتجاه يؤكد على ضرورة الحفاظ على العملية الانتخابية من خلال المشاركة الفعالة بالانتخابات. فمن ناحية دعا الرئيس السابق حسن روحاني الناخبين إلى المشاركة في الاقتراع لـ"الاحتجاج على الأقلية الحاكمة"، وعدم الدعوة إلى المقاطعة رغم رفض ترشحه من جانب مجلس صيانة الدستور.
ومن جانب آخر، وصف الرئيس الأسبق محمد خاتمي الانتخابات الحالية بأنها بعيدة عن التنافسية. كما أعلنت "جبهة الإصلاحات"- الائتلاف الرئيسي للأحزاب الإصلاحية- أنها ستغيب عن هذه الانتخابات "المجردة من أي معنى وغير المجدية في إدارة البلاد". ونشر 275 ناشطًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا بيانًا اتهموا فيه السلطات بـ هندسة الانتخابات" بشكل "ممنهج".
دلالات التوقيت
ترى اتجاهات عديدة في إيران أن الانتخابات الحالية ربما تكون الأهم منذ عام 1979 لعدة أسباب. فوفقًا للنظام الحاكم، تواجه الدولة في الوقت الحالي تحديات خارجية تستدعي تكريس سيطرة تيار المحافظين الأصوليين لقربه من فكر المرشد وقدرته على إدارة شئون البلاد في المرحلة الحالية، خاصة مع ترقب نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة واحتمال عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى الحكم مجددًا، وما قد يطرحه ذلك من احتمال تبني سياسة أمريكية متشددة تجاه إيران، واستعدادًا من جانب النظام لاحتمال أن تقوم إسرائيل بشن حرب ضد إيران، التي تتهمها الأولى بأنها ضالعة في عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي.
هذه الرؤية ساهمت في توجيه العديد من الانتقادات إلى النظام، حيث تواجهها رؤية أخرى يتبناها قطاع من الشارع- وكشفت عنها استطلاعات الرأى والاحتجاجات السابقة- وتقوم على أن النظام فشل في تحقيق التوازن بين استيعاب المتطلبات الداخلية، على غرار احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية وتقليص حدة التوترات الاجتماعية، وبين استمرار الدور الإقليمي الذي يقوم به على مستوى المنطقة.
ووفقًا لتلك الرؤية، فإن هناك علاقة طردية بين تفاقم الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية فى الداخل، واستنزاف الموارد الإيرانية فى الإنفاق على مساعى التمدد فى الخارج، بدلًا من استثمار تلك الموارد في تحسين الأوضاع المعيشية.
وبدلًا من ذلك يصنف النظام الإيراني، طبقًا للرؤية نفسها، المشكلات الداخلية الخاصة بـ"الوضع الاقتصادي المتردي، وانهيار الاتفاق النووي" باعتبارها الإرث الرئيسي لسياسات الرئيس السابق حسن روحاني، حيث تروج المؤسسات النافذة القريبة من المرشد ووسائل الإعلام التابعة لها لسردية تقوم على أن السياسات التي تبناها تيار المعتدلين- خلال سيطرة أقطابه على رئاسة الجمهورية والبرلمان (2013-2021)- كانت العامل الأساسي في ما وصلت إليه الأزمات التي تواجه إيران حاليًا، وربما يمثل ذلك أحد الاعتبارات التي دفعت مجلس صيانة الدستور إلى استبعاد روحاني من الترشح لانتخابات مجلس الخبراء، حيث اعتبر المجلس سجله خلال فترتيه الرئاسيتين بمثابة معيارًا لمؤهلاته. بل يمكن القول إن المجلس تعرض لضغوط من جانب بعض أقطاب التيار الأصولي، على نحو بدا جليًا في الحملة التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي والتي زعمت أنه إذا تمت الموافقة على ترشيح روحاني من قبل مجلس صيانة الدستور، "فيجب التشكيك في نزاهة المجلس".
ووفقًا لما سبق، استخدم النظام الأزمات الخارجية وما تفرضه من تحديات تواجهها إيران كأداة لحث الشعب على المشاركة في الانتخابات، وذلك عبر آليتين: الأولى، محاولة استمالة فئة من الشعب عبر الرجوع إلى "قيم الثورة الإسلامية" التي تنص على ضرورة "نصرة المستضعفين"، وهو المبرر الذي تستخدمه إيران لتفسير تدخلاتها في أزمات المنطقة. والثانية، الترويج إلى أن ما يقوم به النظام من عمليات في الخارج تشكل ضربة استباقية لمصادر التهديد التي تواجهها إيران قبل أن تصل إلى أراضيها.
هنا، كان لافتًا أنه إلى جانب ما تكتسبه تلك الانتخابات من أهمية خاصة بالقضايا التي يهتم بها النظام والشارع في آن واحد، فإن نتائجها ستنعكس على قضايا أخرى خاصة بالداخل، لعل أهمها هو عملية اختيار مرشد أعلى جديد قد يخلف المرشد الحالي علي خامنئي الذي يبلغ من العمر 84 عامًا. وهنا يمكن فهم عملية إقصاء الرئيس السابق حسن روحاني من انتخابات مجلس الخبراء، فقد تمت بدوافع سياسية نظرًا لانتمائه للتيار المعتدل، وذلك لحساسية الوضع بالنسبة للتيار الأصولي خاصة أنه يفتقر لأسماء يمكنه التعويل عليها وترشيحها لخلافة المرشد، على نحو يوحي بأنه سعى إلى إبعاد الأصوات التي قد تكون "مخالفة" أثناء عملية الاختيار المحتملة.
في النهاية، يمكن القول إن قسمًا من الناخبين قد يختار عدم المشاركة في الانتخابات القادمة لإظهار استياءه من سياسات النظام، وقد يختار البعض الآخر التصويت بغرض الحفاظ على استمرار العملية الانتخابية. وسواء هذا أو ذاك، فإنه في حال انخفضت نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة فإن ذلك سيشكل سلاحًا ذا حدين للتيار الأصولي، فمن شأن مقاطعة التيار الإصلاحي للانتخابات أن تضمن فوز الأول باكتساح، ولكن في الوقت نفسه قد يكشف تدني نسبة المشاركة الشعبية أن شرعية النظام أصبحت تواجه اختبارًا صعبًا.