لم تظهر بعد مؤشرات قوية على أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي قاربت على افتتاح شهرها السادس، في 7 مارس القادم (2024)، مقبلة على نهاية قريبة رغم كل الجهود التي تُبذل من أجل الوصول إلى وقف إطلاق نار. من دون شك، هناك أسباب عديدة لذلك، منها محاولة الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل استغلال الحرب لفرض رؤيتها الخاصة لتصفية القضية الفلسطينية، عبر وسائل مختلفة، ومنها سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى تأكيد دورها باعتبارها القوة الدولية الرئيسية الفاعلة في ملفات المنطقة وقياس مستويات الردع لدى الأطراف المناوئة لها تمهيداً لإعادة فتح الملفات الخلافية معها في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب في غزة.
ورغم أهمية كل تلك الأسباب، فإن هناك سبباً آخر لا يمكن تجاهله، يتعلق بغموض معنى "الانتصار" و"الهزيمة" لدى كلٍ من طرفي الحرب والقوى الداعمة لهما.
هنا، فإن المعنى المباشر لكلمة "انتصار" أو كلمة "هزيمة" لا يتعلق بالتوازن الكمي للقوة الذي أنتجته الحرب أو ما زالت تنتجه، أى المكاسب التي حققها أحد الأطراف والخسائر التي منى بها مقارنة بالطرف الآخر. ورغم أهمية ذلك بالطبع في تقييم النتائج النهائية للحرب، فإن ثمة متغيرات أخرى تفرض نفسها في هذا السياق، تتعلق برؤية كل طرف لهذه النتائج ومدى تسامحها مع حساباته، وهى رؤية تؤثر فيها عوامل مثل توازنات القوى السياسية في الداخل، وما يسمى بـ"النسق العقيدي" للقيادات الموجودة والمسئولة عن إدارة الحرب.
وبالتطبيق على حالة الحرب الحالية بين إسرائيل وحركة حماس، يتضح أن لكل طرفٍ مفهوم خاص لـ"الانتصار" و"الهزيمة"؛ ففور تنفيذ كتائب القسام- الذراع العسكرية لحركة حماس- عملية "طوفان الأقصى"، في 7 أكتوبر 2023، بدا واضحاً أن إسرائيل وحماس رفعتا سقف أهدافهما وتوقعاتهما من الحرب.
إذ اعتبرت حماس أن أحد الأهداف الأساسية التي شنت من أجلها عملية "طوفان الأقصى" هو تحرير جميع الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وفور تنفيذ العملية، وجّه نائب رئيس المكتب السياسي للحركة صالح العاروري- الذي قُتل في عملية عسكرية إسرائيلية في بيروت في 2 يناير الفائت- دعوة إلى الفلسطينيين للمشاركة فيها بقوله: "علينا أن نخوض جميعاً هذه المعركة، وأخص المقاومين بالضفة الغربية"، مضيفاً أن "مجاهدي قطاع غزة بدأوا عملية واسعة بهدف الدفاع عن المسجد الأقصى وتحرير الأسرى".
إسرائيل ردت على ذلك بشن حرب شاملة على قطاع غزة، اعتبرت أن الهدف الأساسي منها هو "القضاء على حركة حماس"، والذي بات عنواناً رئيسياً في تصريحات المسئولين الإسرائيليين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قال، في 30 أكتوبر 2023: "إن إسرائيل لن توافق على وقف العمليات القتالية مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، وستمضي قدماً في خططها للقضاء على الحركة".
هكذا، فإن كل طرف وضع نفسه أمام خيارات محدودة لم توفر له حرية حركة أكبر وهامشاً أوسع من المناورة. إذ أن عدم قدرة إسرائيل على حسم الحرب حتى الآن، عبر تحقيق الهدف المعلن منها وهو "القضاء على حركة حماس"- إلى جانب الأسباب الأخرى السابق ذكرها- يدفعها إلى الاستمرار فيها ورفض كل الجهود التي تُبذل من أجل إنهاء ووقف آلة الحرب التي أنتجت أزمة إنسانية فادحة بفعل العدوان الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين.
ولذا، وعلى عكس العديد من القراءات التي رصدت وقيّمت الحسابات الإسرائيلية من الحرب، فإن المسألة لا تتعلق فقط بإصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على المضى قدماً في الحرب تحصيناً لمنصبه، الذي يمكن أن يفقده في حالة انتهاء الحرب بسبب تحميله المسئولة من جانب قطاع من الشارع الإسرائيلي عن الترهل الأمني الذي كشفته عملية "طوفان الأقصى" نتيجة الانشغال في صراعات سياسية مع خصومه، ولا بمواصلة العمل على تصفية القضية الفلسطينية، وإنما ترتبط أيضاً بأن أي وقف للحرب دون تحقيق الهدف المعلن منها وهو "القضاء على حماس"، قد يتم تأويله من جانب أطراف عديدين، وفي مقدمتهم حماس نفسها، فضلاً عن إيران والمليشيات الأخرى الموالية لها والتي انخرطت بدورها في تصعيد منضبط مع إسرائيل، على أنه "انتصار" للأولى و"هزيمة" للأخيرة، رغم كل الخسائر البشرية والمادية الفادحة التي منى بها المدنيون الفلسطينيون الذين دفعوا ثمن هذه الحرب.
اللافت في هذا السياق، أن بعض استطلاعات الرأى العام الإسرائيلي بدأت تشير إلى أن تحقيق "الانتصار" -وفقاً للمعنى الذي حددته القيادة السياسية- يبدو صعباً بفعل المعطيات التي فرضتها التطورات الميدانية على الأرض منذ 7 أكتوبر وحتى الآن. فقد كشف استطلاع رأى أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، في 21 فبراير الجاري، أن معظم الإسرائيليين، من اليهود والعرب، باتوا يعتقدون أن "النصر المطلق" في الحرب الحالية غير ممكن. ووفقاً للاستطلاع، فإن 51% من المشاركين اليهود و77.5% من المشاركين العرب الإسرائيليين، يعتقدون أن هناك احتمالاً ضعيفاً بأن تنتهي الحرب الحالية بالانتصار على حماس، واتفق 84% من اليسار و63% من الوسط و55% من اليمين على أن احتمال "النصر المطلق" على حماس منخفض.
في هذا السياق، فإن القيادة السياسية في إسرائيل، ونتيجة فشلها في تحقيق "الانتصار" وفقاً للمعنى الذي حددته من البداية، بدأت تبحث عن هذا "الانتصار" عبر وسائل أخرى. ففضلاً عن أنها باتت توظف رفضها "المطلب الأوَّلي" لحماس والخاص بالإفراج عن جميع الأسرى على أنه يمثل في حد ذاته "انتصاراً" لها- رغم الخسائر المدنية والعسكرية والاقتصادية التي منيت بها- فإنها تحاول توجيه ضربات سياسية لمبدأ "حل الدولتين". إذ وافقت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع، في 18 فبراير الجاري، على مشروع قرار يعارض الاعتراف أحادى الجانب بدولة فلسطينية. وقال نتنياهو في هذا الصدد: "في ضوء الحديث الذي سمعناه مؤخراً في المجتمع الدولي حول محاولة فرض دولة فلسطينية على إسرائيل من جانب واحد، أقدم اليوم قراراً معلناً حول هذه القضية لتصويت الحكومة عليه". وحظى القرار أيضاً بموافقة واسعة في الكنيست، حيث أيده 99 عضواً فيما عارضه 9 فقط.
وعادت كلمة "الانتصار"- التي باتت تحمل أكثر من معنى وفقاً لتوظيفها سياسياً داخل إسرائيل- إلى الظهور مجدداً في ردود فعل خصوم نتنياهو إزاء هذه الخطوة. إذ وجّه زعيم المعارضة يائير لابيد- رئيس الوزراء السابق- انتقادات لاذعة إلى نتنياهو، في 21 فبراير الجاري، مفادها أن الأخير "يبحث عن انتصار زائف"، خاصة أن "الاعتراف بدولة فلسطينية من جانب واحد"، يمثل، وفقاً للابيد، "اختراعاً لتهديد غير موجود" من جانب نتنياهو لـ"تحقيق إنجاز جيد".
فضلاً عن ذلك، فإن إسرائيل تعمل على تصفية قيادات الصف الأول من حركة حماس في الداخل، بالتوازي مع توجيه ضربات نوعية للقيادات العسكرية والبنية التحتية للمليشيات الموالية لإيران، لا سيما حزب الله، وذلك تمهيداً لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب في غزة، حيث ستسعى للترويج لـ"انتصار" حققته على صعيد تحجيم قدرات خصومها داخل الأراضي الفلسطينية فضلاً عن لبنان وسوريا.
إن ما سبق في مجمله يشير إلى أنه عندما تسكت أصوات الرصاص لن ينتهي الجدل حول مَن "انتصر" ومَن "هُزِم" في الحرب الحالية. فقد تاه المعنى الحقيقي لكلمتى "الانتصار" و"الهزيمة" وسط هذا الكم من الحسابات المتداخلة لدى كل الأطراف المعنية بما يجري الآن على ساحة الشرق الأوسط.