أطلق الاتحاد الأوروبي، في 19 فبراير الجاري (2024)، قوة بحرية جديدة تحت مسمى "خطة أسبيدس"، بهدف حماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر. وكان لافتاً في هذه الخطوة الأوروبية أنها تأتي في سياق يغلب عليه توتر البيئة الأمنية في منطقة البحر الأحمر، على إثر انخراط مليشيا الحوثيين في عمليات هجومية في هذا الممر البحري الاستراتيجي كأحد أنماط التداعيات التي خلّفتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فضلاً عن كون هذا التحرك الأوروبي يأتي في أعقاب تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية لتحالف "حارس الازدهار" في البحر الأحمر، في 19 ديسمبر 2023، وهي المتغيرات التي عبرت عن حالة من "العسكرة" التي تتطغى على التفاعلات التي تشهدها هذه المنطقة. وتطرح هذه الخطوة الأوروبية تساؤلات عديدة حول الأهداف الرئيسية لها، سواءً الراهنة أو الاستراتيجية وبعيدة المدى، وحدود تأثير هذه الخطوة على مجريات التصعيد في منطقة البحر الأحمر.
دلالات رئيسية
انطلقت عملية الاتحاد الأوروبي في البحر الأحمر "أسبيدس" عملياً يوم 19 فبراير الجاري، ويعود مسمى العملية إلى كلمة يونانية قديمة تعني الدرع أو الحماية. ووفقاً للاتحاد الأوروبي، ستبلغ ميزانية مهمة "أسبيديس" نحو 8 ملايين يورو توفرها خزانة الاتحاد الأوروبي. وفي المرحلة المقبلة سيتم إعداد خطة العمليات وقواعد الاشتباك وتشكيل القوة البحرية والجوية التي ستتولى الدوريات في أجواء مباه البحر الأحمر[1].
وأشار الاتحاد الأوروبي إلى أن القوة الجديدة ستكون نشطة على طول خطوط الاتصال البحرية الرئيسية في مضيق باب المندب ومضيق هرمز، وكذلك المياه الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب وخليج عمان والخليج، وسيكون قائد العملية هو العميد البحري فاسيليوس جريباريس، وسيكون قائد القوة هو الأدميرال ستيفانو كوستانتينو، على أن يكون مقر العملية في لاريسا باليونان [2].
ويمكن القول إن إطلاق الاتحاد الأوروبي لهذه العملية، وما تم الإعلان عنه من حيثيات، يعكس جملة من الدلالات التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- سياسة الاستجابة للمخاطر الاستراتيجية: تنظر العواصم الأوروبية إلى التصعيد الحوثي في منطقة البحر الأحمر، على أنه يمثل تهديداً استراتيجياً خصوصاً في ضوء تأثيراته على حركة الملاحة البحرية والتجارية في هذا الممر البحري الاستراتيجي، الذي يمر به نحو 15% من التجارة العالمية البحرية، بما في ذلك 8% من تجارة الحبوب العالمية، و12% من تجارة النفط البحري، و8% من تجارة الغاز الطبيعي المنقول بحراً في العالم، ما يعني أن تصعيد الحوثيين يفرض تداعيات سلبية على مستوى سلاسل الإمداد، ويدفع باتجاه التضخم وارتفاع أسعار الطاقة، وبالتالي فتشكيل هذه القوة الاوروبية في البحر الأحمر جاء كاستجابة للتهديدات التي صاحبت التصعيد الحوثي.
2- ارتباط الأمن الأوروبي باستقرار الممرات الملاحية: كان للحرب الروسية-الأوكرانية التي بدأت في 24 فبراير 2022 العديد من التداعيات المباشرة على منظومة الأمن الشامل للاتحاد الأوروبي ومصالحه الاستراتيجية، وكان على رأس هذه التداعيات تبني الدول الأوروبية لمقاربة تقوم على ضرورة تقليل الاعتماد على النفط والغاز الروسيين. ومن هنا أصبح الأمن الطاقوي الأوروبي مرتبطاً بشكل كبير باستقرار الممرات المائية الحيوية، وفي القلب منها البحر الأحمر، ما يعني أن النشاط العسكري المتزايد للحوثيين يمثل تهديداً للمقاربة الأوروبية لتأمين إمداداتها الطاقوية، والتعامل مع تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية.
3- اختلاف حول غزة وتوافق حول البحر الأحمر: يبدو أن الدول الأوروبية لا تزال مختلفة بشكل نسبي حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والقضايا التفصيلية الخاصة بهذه الحرب، إلا أنه في المقابل يوجد اتفاق حول ضرورة تأمين الملاحة البحرية في منطقة البحر الأحمر، وذلك في ضوء اعتبارين رئيسيين: الأول، هو التهديدات الحوثية في البحر الأحمر وما يتبعها من تداعيات على الدول الأوروبية. والثاني، هو تصنيف الاتحاد الأوروبي في 2022 منطقة شمال غرب المحيط الهندي بأنها "منطقة بحرية ذات أهمية"([3])، وهي المنطقة التي تمتد على مساحة كبيرة من مضيق هرمز إلى مدار الجدي ومن البحر الأحمر نحو وسط المحيط الهندي، وتأكيده أن ذلك يتطلب زيادة التنسيق البحري الأوروبي من خلال آلية تسمى "الوجود البحري المنسق"، ما يعني أن الاستراتيجية الأوروبية للأمن البحري تُركز على المديين القريب والمتوسط على تأمين هذا الممر البحري المهم.
4- تعزيز الحضور الأمني البحري لأوروبا في المنطقة: جنباً إلى جنب مع كون تأسيس قوة "أسبيدس" جزءاً من الاستراتيجية الأوروبية الخاصة بالأمن البحري، فإنه يأتي كذلك في ضوء توجه أوروبي بدأ منذ سنوات لتعزيز الحضور الأمني البحري في بعض المناطق الاستراتيجية المهمة، وهو ما تجسد في إطلاق عملية "أتالانتا" عام 2008 في منطقة القرن الأفريقي، وهي بعثة بحرية تضطلع بمكافحة القرصنة وعمليات تهريب المخدرات والأسلحة، وحماية شحنات برنامج الغذاء العالمي وغيرها من عمليات الشحن المعرضة للخطر.
وفي منطقة الخليج العربي، شاركت 9 دول أوروبية هى فرنسا وبلجيكا والدنمارك وألمانيا واليونان وإيطاليا وهولندا والنرويج والبرتغال في إطلاق بعثة مراقبة بحرية مؤقتة "أجينور" في عام 2020 بهدف ضمان العبور الآمن في مضيق هرمز. ويقع المقر الرئيسي للمبادرة في القاعدة البحرية الفرنسية في أبوظبي، لتُضاف إليها حالياً قوة "أسبيدس"، وهي تحركات تؤكد على أن الأمن البحري بات ساحة رئيسية للتواجد الأوروبي في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، ومدخلاً مهماً للتعاون مع دول المنطقة، وحماية المصالح الأوروبية.
أهداف عديدة
كما سبقت الإشارة، يأتي تشكيل الاتحاد الأوروبي لقوة "أسبيدس" في منطقة البحر الأحمر، في ظل بيئة أمنية مضطربة تشهدها هذه المنطقة الاستراتيجية في الوقت الراهن، الأمر الذي يُعبر عن طبيعة الأهداف الخاصة بها. وفي هذا السياق، يمكن تناول الأهداف الرئيسية لتشكيل هذه القوة، وذلك على النحو التالي:
1- حماية السفن البحرية في منطقة البحر الأحمر: كانت السفن الأوروبية المتجهة إلى إسرائيل أحد الأهداف الرئيسية بالنسبة للحوثيين، في إطار التصعيد الذي تبنته المليشيا منذ 19 نوفمبر 2023، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في الاستهداف الذي تم من قبل الحوثيين لإحدى السفن التابعة لشركة "ميرسك" الدنماركية.
وفي هذا الإطار سوف تتحرك القوة الجديدة في مسارين رئيسيين: الأول، هو حماية السفن الأوروبية التي تعبر من خلال البحر الأحمر. والثاني، هو التنسيق المنظم مع المهام الأمنية الأخرى المعنية بتأمين الملاحة البحرية على غرار قوة "أتالانتيك"، و"أجينور"، و"حارس الازدهار".
2- الحفاظ على سياسة خفض التصعيد وحرية الملاحة: أكدت تصريحات المسئولين الأوروبيين بخصوص قوة "أسبيدس" غلبة الطابع الدفاعي على عمل القوة، في إشارة إلى صد الهجمات المحتملة ضد الملاحة البحرية في منطقة البحر الأحمر، وهو نهج يتفق وهدف الاتحاد الأوروبي المعلن منذ بداية التصعيد، والمتمثل في ضرورة تحقيق ردع للحوثيين عبر آليات تضمن خفض التصعيد ومنع اتساعه، وكذا الحفاظ على حرية الملاحة البحرية.
وتتفق هذه المقاربة والموقف الأوروبي عموماً منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فيما يتعلق بمسألة التصعيد في البحر الأحمر، إذ تبنى الاتحاد الأوروبي موقفاً يقوم على ضرورة عدم تبني أي تحركات تصعيدية قد تُفضي إلى اتساع نطاق المواجهات. ومن هنا كان الاستثناء الوحيد لهذه الحالة، هو الموقف الهولندي، حيث شاركت هولندا لوجستياً وعسكرياً في الهجمات الأمريكية-البريطانية التي استهدفت الحوثيين، وهو الموقف الذي كان خاضعاً لحسابات هولندية خاصة، ترتبط من جانب بسعي رئيس الوزراء الهولندي المؤقت، مارك روته، للترشح لمنصب الأمين العام لمُنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو المنصب الذي يحتاج إلى دعم أمريكي كامل، ومن جانب آخر بأهمية ميناء روتردام بالنسبة لواردات النفط الأوروبية والهولندية على وجه الخصوص.
3- التأسيس لوجود أمني في منطقة البحر الأحمر: يبدو أن الحسابات الأوروبية الخاصة بتشكيل قوة "أسبيدس" في منطقة البحر الأحمر، لا تقتصر على حدود التعامل مع تطورات اللحظة الراهنة وما تشهده من تحديات أمنية في منطقة البحر الأحمر، وإنما تمتد هذه الحسابات لتشمل التأسيس لوجود دائم في منطقة البحر الأحمر، بما يضمن تعزيز الأمن البحري، وتشكيل مظلات أوسع للتعاون مع دول المنطقة.
لكن مستقبل التواجد الأمني البحري الأوروبي في المنطقة لا يزال يواجه العديد من التساؤلات المهمة، وعلى رأسها مدى قدرة هذا التواجد على فرض حالة من الردع تضمن تأمين الأمن البحري، فضلاً عن تساؤلات خاصة بطبيعة العلاقة بين البعثة الجديدة وبين المهام الأمنية الأخرى التي تعمل في الإطار نفسه على غرار "أتالانتا" و"أجينور" و"حارس الازدهار".
في الختام، يمكن القول إن إقدام الاتحاد الأوروبي على تأسيس قوة "أسبيدس" في البحر الأحمر، هو تحرك جاء بشكل رئيسي لتحقيق جملة من الأهداف وعلى رأسها الاستجابة للمخاطر التي تواجهها البيئة الأمنية في منطقة البحر الأحمر على خلفية التصعيد الحوثي وما صاحبه من تداعيات، فضلاً عن التأسيس لوجود عسكري أوروبي يدعم المقاربة الأوروبية للأمن البحري، ويحمي المصالح الاستراتيجية الأوروبية، لكن مدى مساهمة هذه البعثة في تحقيق الردع للحوثيين وفرض حالة من الاستقرار يظل أمراً محل شك، وذلك في ضوء الفرضية القائلة بأن التصعيد في البحر الأحمر لا ينفصل عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ما يعني أن نقطة الانطلاق للتهدئة الإقليمية تبدأ من قطاع غزة، وبالإضافة لذلك فإن ثمة غموضاً حول طبيعة التنسيق والتعاون بين هذه المهمة، والمهام الأخرى العاملة في الإطار نفسه.