رغم الضغوط الداخلية التي تعرضت لها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتبني سياسة أكثر تشدداً في إدارة التصعيد مع إيران، خاصة بعد الهجوم الذي تعرضت لها القاعدة الأمريكية في شمال شرق الأردن، في 28 يناير الفائت (2024)، إلا أنها في النهاية عزفت، على الأقل حتى الآن، عن إجراء تغيير في المقاربة التي تتبعها في هذا السياق.
وقد انعكس ذلك بشكل واضح في الهجمات التي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في شنها ضد المليشيات المسلحة في كل من العراق وسوريا، بداية من 2 فبراير الجاري، والتي استهدفت مواقع أسلحة وذخيرة، وأسفرت عن مقتل نحو 40 شخصاً من بينهم 23 في سوريا و17 في العراق آخرهم آمر كتيبة الدروع الثالثة في الحشد الشعبي حسن عباس البلداوي، الذي يلقب بـ"أبو الحسن البلداوي"، الذي توفى متأثراً بجروحه بعد الهجمات بيومين.
دلالتان رئيسيتان
هذه الهجمات التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية تطرح دلالتين رئيسيتين: الأولى، أن الإدارة الأمريكية تتبنى المقاربة نفسها التي سبق أن اتبعتها في إدارة التصعيد مع مليشيا الحوثيين في اليمن، عقب الهجمات التي شنتها ضد السفن المارة في البحر الأحمر، حيث بدأت الهجمات الأمريكية، بمساعدة بريطانية في حدود معينة، في 12 يناير الفائت وما زالت مستمرة حتى الآن، وهو مسار يبدو أنه سوف يتواصل في العراق وسوريا أيضاً حسب تصريحات المسئولين الأمريكيين.
ورغم أن هناك تباينات واضحة في مسارح العمليات في كل من اليمن والعراق وسوريا، على الأقل فيما يتعلق بالخسائر الأمريكية، حيث أسفر التصعيد مع المليشيات المسلحة في كل من العراق وسوريا عن سقوط قتلى أمريكيين للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة في 7 أكتوبر الماضي على خلفية قيام "كتائب القسام" بشن عملية "طوفان الأقصى" داخل غلاف غزة، رغم ذلك، فإن إدارة الرئيس بايدن لا تبدو في وارد توسيع نطاق التصعيد أو تعزيز فرص تحويله إلى صراع إقليمي خلال المرحلة القادمة.
صحيح أنها وجهت من الرسائل ما يفيد بأنها لن تتوانى عن توجيه مزيد من الضربات العسكرية في الفترة القادمة، إلا أن ذلك يدخل في نطاق محاولات ردع تلك المليشيات عن الرد على تلك الهجمات عبر استهداف القواعد الأمريكية مجدداً في الدولتين، أو ربما في دول أخرى على غرار ما حدث في الأردن في 28 يناير الفائت.
والثانية، أن الضربات الأمريكية لم تسفر عن سقوط قتلى أو جرحى إيرانيين، رغم أن التصريحات الأمريكية أشارت إلى استهدفت مواقع تابعة لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. وهنا، فإن اتجاهات عديدة اعتبرت أن الفترة الزمنية الممتدة من تعرض القاعدة الأمريكية في الأردن لهجوم في 28 يناير الفائت والهجمات الأمريكية في العراق وسوريا في 2 فبراير الجاري، كانت كفيلة بدفع إيران إلى إخلاء تلك المواقع وبالتالي تقليص فرص تعرض قادتها وكوادرها العسكريين للاستهداف.
وربما يفسر ذلك الانتقادات التي وجهها بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي للإدارة، خاصة أن الأخيرة استندت إلى أن أحد أسباب تأجيل الضربات يكمن في "انتظار الطقس الجيد"، حيث اعتبر بعضهم أن الإدارة أهدرت فرصة ثمينة لتوجيه رسالة ردع حازمة لإيران لمنعها من مواصلة إدارة التصعيد عن بُعد مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
وقد لا يمكن استبعاد أن يكون بعض هذه الانتقادات مرتبطاً بتبني رؤية تقوم على أن واشنطن ربما وجهت رسائل استباقية إلى طهران قبل أن تقوم بشن الهجمات، وذلك لتقليص فرص الإيقاع بخسائر بشرية إيرانية، على نحو كان سيدفع طهران، في الغالب، إلى الرد، وبالتالي الدخول في دوامة لا تنتهي من التصعيد والتصعيد المضاد، وهو ما لا يتوافق مع حسابات الإدارة الأمريكية في المرحلة الحالية.
حسابات معقدة
رغم أن مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك سوليفان رفض، في 4 فبراير الجاري، استبعاد خيار توجيه ضربات عسكرية في الداخل الإيراني في سياق التصعيد الحالي، إلا أن ذلك ربما يندرج في سياق محاولة توجيه تحذيرات مباشرة إلى إيران لمنعها من التدخل، أو لدفعها إلى ممارسة ضغوط على المليشيات المسلحة من أجل وقف عملية استهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا والأردن.
وهنا، فإن هذا التصعيد الأمريكي "المنضبط" ورد الفعل الإيراني "الهادئ" قد يكون مرتبطاً بدوره بحسابات معقدة لدى واشنطن وطهران في آن واحد تفرضها ثلاثة متغيرات رئيسية:
المتغير الأول، خاص باقتراب إيران من الوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية. إذ طورت إيران برنامجها النووي بشكل كبير، وزادت كمية اليورانيوم المخصب التي تمتلكها بدرجة باتت تتجاوز 22 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015 وانسحبت منه إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 8 مايو 2018.
وحسب آخر إحصاء أعلنت عنه الوكالة الدولية، في 15 نوفمبر 2023، فإن كمية اليورانيوم التي أنتجتها إيران بنسب مختلفة وصلت إلى 4.486.8 كيلوجرام، في حين أن الاتفاق النووي ينص على احتفاظها بـ202.8 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% فقط.
لكن اللافت في هذا الأمر، هو أن حدة التصعيد الأمريكي ضد إيران في الملف النووي تراجعت إلى حد كبير خلال الشهور الأخيرة. صحيح أن ذلك قد يعود إلى انشغال الطرفين بملفات أخرى، مثل الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، فضلاً عن أن واشنطن ما زالت حريصة على مواصلة فرض عقوبات على طهران فيما يتعلق بالبرنامج النووي، إلا أن ذلك في مجمله لا ينفي أن ثمة تغيراً ملحوظاً في الموقف الأمريكي إزاء هذا الملف تحديداً.
وحتى عندما أطلقت إيران القمر الصناعي الجديد "ثريا" إلى الفضاء، في 20 يناير الفائت، كان لافتاً غياب رد الفعل الأمريكي المتشدد، الذي كان يفرضه استخدام إيران الصواريخ الباليستية في عملية الإطلاق، حيث لم تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في إصدار البيان الذي انتقدت فيه ثلاثة دول أوروبية هى بريطانيا وفرنسا وألمانيا إقدام إيران على هذه الخطوة، في 27 يناير الفائت.
هذه التطورات في مجملها لا يمكن معها استبعاد أن تكون هناك تفاهمات بين طهران وواشنطن، تقضي بالاحتفاظ بمستوى "منضبط" من التصعيد في الملفات الخلافية، لا سيما الملف النووي والحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
وقد كان لافتاً في هذا السياق، هو إعلان المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل جروسي، في 2 فبراير الجاري، أن إيران أبطأت وتيرة تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% القريبة من النسبة المطلوبة لإنتاج القنبلة النووية، حيث قال في هذا الصدد: "هناك بعض التباطؤ، ما زالوا يضيفون إلى المخزون ولكن بوتيرة أبطأ". ومن دون شك، فإن هذا الإجراء الإيراني لا يمكن فصله عن مجريات ما يحدث في المنطقة بشكل عام، خاصة فيما يتعلق بـ"ضبط" مستوى التصعيد مع واشنطن.
المتغير الثاني، هو اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجرى في 5 نوفمبر القادم، حيث يسعى الرئيس بايدن إلى تجديد ولايته الرئاسية، وربما يواجه منافسة قوية في حالة ما إذا نجح الرئيس السابق دونالد ترامب في انتزاع بطاقة ترشح الحزب الجمهوري.
وهنا، فإن هذا المتغير فرض نفسه وبقوة على السياسة الأمريكية إزاء ما يجري في المنطقة. إذ لا ترغب إدارة بايدن وهى على بعد شهور من الانتخابات في المغامرة بتوسيع نطاق التصعيد الحالي، الذي قد يتحول إلى حرب واسعة النطاق في حالة حدوث أى خطأ في الحسابات.
وربما يكون هذا المتغير تحديداً هو أحد العوامل التي تدفع بعض المليشيات إلى مواصلة التصعيد ضد القواعد والمصالح الأمريكية، على غرار مليشيا الحوثيين في اليمن، حيث تعتبر هذه الأطراف أن اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية لا يوفر خيارات كثيرة للإدارة الحالية.
لكن غاب عن هذه الأطراف أن هذا المتغير بقدر ما يفرض خيارات ضيقة أمام الإدارة بقدر ما يضعها أمام ضغوط قوية في الداخل تحديداً، على غرار ما حدث عقب الهجوم على القاعدة الأمريكية في الأردن، حيث سعى الرئيس السابق ترامب إلى توظيف هذا الحادث لتوجيه مزيد من الانتقادات للسياسة التي يتبعها الرئيس بايدن إزاء إيران، خاصة أنه يستحضر دائماً قراره باغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في 3 يناير 2020، وبالتالي قد يدفع الإدارة الحالية إلى رفع مستوى هذا التصعيد لاستيعاب هذه الضغوط وتقليص حدتها تدريجياً قبل الانتخابات.
أما المتغير الثالث والأخير، فهو حرص إيران بدورها على تجنب المغامرة بالانخراط في مواجهة مباشرة. فقد اتبعت إيران هذا النهج مع بداية الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، لكنها بدت أكثر إصراراً عليه عندما تزايدت احتمالات هذه المواجهة عقب سقوط قتلى أمريكيين للمرة الأولى منذ بداية تلك الحرب.
وهنا، كان لافتاً أن إيران سارعت إلى توجيه رسائل تهدئة، كان من بينها تخفيض كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، والتأكيد على أنها ليس ضالعة في هذه الهجمات، وأن المليشيات تتخذ قراراتها باستقلالية تامة. بل إن تقارير عديدة بدأت تشير إلى أنها عادت للاستعانة بجهود وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف في ظل شبكة العلاقات التي يؤسسها مع المسئولين في الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، منذ مرحلة ما قبل أن يتولى منصب وزير الخارجية، لعل جهوده تؤتي ثمارها وتساهم في تقليص حدة التوتر الحالي، وبالتالي تجنب إيران الاقتراب من "المحظور" الذي يتمثل في الانخراط في مواجهة مباشرة مع واشنطن.
على ضوء ذلك، يمكن القول إن طهران وواشنطن تحاولان الالتقاء في منتصف الطريق عبر التفاهمات غير المعلنة بين الطرفين. لكن ذلك لا ينفي أن ثمة اختبارات عديدة يمكن أن تواجه تلك التفاهمات وتحول دون تطويرها إلى صفقة أكبر في مرحلة لاحقة، منها أن ينافس الرئيس السابق ترامب الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية ويفوز فيها، ومنها أن يحدث خطأ في حسابات أى من الأطراف المعنية بما يجري والمنخرطة فيه، على نحو لا يمكن معه في النهاية استبعاد أى من السيناريوهات المطروحة على الأرض.