تدخل الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة شهرها الثالث منذ اندلاعها في 7 أكتوبر 2023، ولا تزال آلة الحرب الإسرائيلية المستعرة تحصد في أرواح المدنيين الفلسطينيين، ولا يلوح في الأفق مسار حل نهائي للأزمة، خاصة أن الهدف الرئيسي الذي حددته تل أبيب لحربها ضد القطاع، وهو القضاء على حركة حماس، لم يتحقق حتى الآن.
بيد أنه، ورغم قتامة المشهد فيما يتعلق بتعقيدات وضع نهاية للحرب في اللحظة الراهنة، إلا أن هناك بعض الجهود المبذولة من جانب بعض الأطراف، لمحاولة كسر جمود المسار التفاوضي الذي كان قد تحرك مع اتفاق الهدنة المؤقتة الذي تم التوصل إليه في نوفمبر الماضي (2023)، لكنه لم يتطور إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار. ويأتي في مقدمة هذه الجهود تلك التي تقوم بها الدولة المصرية لبناء مبادرة متكاملة للوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار. فقد أكد الأستاذ/ ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات في 28 ديسمبر 2023، أن مصر قد طرحت بالفعل "إطاراً مقترحاً لمحاولة تقريب وجهات النظر بين كل الأطراف المعنية، سعياً وراء حقن الدماء الفلسطينية ووقف العدوان على غزة، وإعادة السلام والاستقرار للمنطقة"، وذلك بعد الاستماع "لوجهات نظر كل الأطراف المعنية".
ويناقش هذا التحليل السياق العام الذي تعمل فيه هذه الجهود، والسيناريوهات المحتملة.
معطيات السياق الراهن
هناك مجموعة من المعطيات الحاكمة للسياق الراهن الذي تعمل فيه الجهود المبذولة حاليا للوصول إلى وقف إطلاق نار في غزة. وتتمثل أبرز هذه المعطيات فيما يلي:
1- عدم القدرة على حسم الحرب: في ظل استمرار العمليات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل ضد المناطق المختلفة بقطاع غزة في الشمال والوسط والجنوب، والتي يقابلها رد عسكري في إطار عمليات نوعية تقوم بها حركات المقاومة الفلسطينية لاستهداف العناصر الإسرائيلية، وإيقاع خسائر كبيرة بصفوف الألوية العسكرية الإسرائيلية المشاركة، فإنه لم يتحقق لأي من الطرفين القدرة على حسم الحرب لصالحه والإعلان عن انتصاره، الأمر الذي يرجح طول أمد الحرب في إطار استنزافي تُعوّل خلاله المقاومة الفلسطينية وكذلك الدولة العبرية على عامل الوقت والضغط الذي ستفرضه معادلة الداخل المأزوم على الجانبين (خاصة الجانب الإسرائيلي) للقبول بالحل السياسي في نهاية المطاف. وحتى ذلك الوقت تُناور تل أبيب لتحسين موقفها في أية عملية تفاوض مستقبلية لا تُملي خلالها المقاومة الفلسطينية شروطها عليها. وقد بدأت في التركيز على استهداف قيادات الصف الأول من حماس، على غرار نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري الذي شنت عملية عسكرية في الضاحية الجنوبية لبيروت في 2 يناير 2024 أسفرت عن اغتياله.
2- تراجع الدعم الدولي لإسرائيل: شهد موقف الدعم الدولي المطلق الذي قدمته الدول الغربية لإسرائيل في بداية الحرب تراجعًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، خاصة مع تصاعد موجات الاحتجاج العالمي ضد استمرار العدوان الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين وانتهاكاته التي تجاوزت حد جرائم الحرب. ومع اشتداد رفض الرأي العام العالمي وتوسع رقعة المظاهرات الاحتجاجية في العديد من عواصم العالم، تآكلت شرعية "السردية الإسرائيلية" التي روجت لها لحشد الدعم الدولي، وبدأت تتبلور مواقف ضغط على إسرائيل للقبول على الأقل بهدن إنسانية يتم من خلالها دخول المساعدات اللازمة للقطاع.
ولعل المؤشر الأبرز في هذا الصدد القرار الذي اعتمده مجلس الأمن الدولي (رقم 2720) في 22 ديسمبر 2023، بتأييد 13 دولة وامتناع كل من الولايات المتحدة وروسيا عن التصويت، والذي يدعو إلى "اتخاذ خطوات عاجلة للسماح فورًا بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل موسَّع وآمن ودون عوائق، ولتهيئة الظروف اللازمة لوقف مستدام للأعمال القتالية"[1]، وهو مؤشر يعكس التحول المحدود لموقف الدعم الغربي تحت وطأة تصاعد الاحتجاجات الشعبية في دولهم ضد الدعم المطلق لتل أبيب، وخاصة الموقف الأمريكي، الذي لجأ للفيتو أكثر من مرة لمنع تمرير قرارات من شأنها إلزام إسرائيل بوقف إطلاق النار.
أيضًا يُمكن ملاحظة تآكل الدعم الدولي لإسرائيل من خلال القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة، في 12 ديسمبر 2023، والذي طالب بوقف فوري إنساني لإطلاق النار في غزة، حيث حظى القرار بتأييد 153 دولة من أصل 193، بينما امتنعت 23 دولة عن التصويت، جاء في مقدمتها المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وهولندا وأوكرانيا[2]، ورغم كونه قرارًا غير ملزم إلا أنه جاء كاشفًا لتحولات الموقف الدولي الداعم لإسرائيل، خاصة إذا ما قورن باتجاهات التصويت التي حظى بها القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 أكتوبر 2023، في بداية الحرب، والذي دعا لهدنة إنسانية فورية في غزة، حيث حظى بأغلبية 120 دولة ومعارضة 14 دولة، وامتناع 45 دولة عن التصويت[3].
3- حسابات الموقف الأمريكي: تواجه الحسابات الأمريكية فيما يتعلق بموقفها الداعم لإسرائيل تعقيدات متزايدة، خاصة في ظل فشل رهانها على قدرة تل أبيب في تحقيق هدفها من الحرب والقضاء على حركة حماس في مدى زمني معقول تتمكن واشنطن خلاله من تأمين دعم دولي كبير لهذا التصعيد العسكري الغاشم لإسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين. بيد أنه مع طول أمد الحرب، وعدم قدرة إسرائيل على حسم المعركة لصالحها، تتعقد حسابات الموقف الأمريكي خاصة مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الشعبية، وتزايد رفض الرأي العام العالمي لاستمرار هذا العدوان، بالإضافة إلى قرب موعد الانتخابات الرئاسية التي كان يعوّل الرئيس الأمريكي بايدن أن تأتي دون أن ترافقها مشاهد القتل والانتهاكات الصارخة التي ارتكبتها تل أبيب ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما دعّمته الإدارة الأمريكية، من أجل تأمين صورة الدعم الأمريكي لتل أبيب من جانب الإدارة الحالية في أوساط المجتمع اليهودي بالولايات المتحدة. وترجم ذلك زيارة بايدن لإسرائيل في 18 أكتوبر 2023، وهي المرة الأولى لرئيس أمريكي يزور تل أبيب أثناء تصعيد دائر. ومع إطالة أمد التصعيد العسكري الإسرائيلي، فإن لذلك تكلفته على حجم الدعم المتوقع من جانب الأمريكيين من أصول عربية وإسلامية، إذ كشفت استطلاعات الرأي عن تراجع تأييد هؤلاء لبايدن مع بدء الحرب من 59 في المئة إلى 17 في المئة فقط[4].
وفي الوقت الراهن، تتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإسرائيل نتيجة تباين الرؤى بشأن سيناريو اليوم التالي للحرب، وخاصة مسارات التسوية التي تدعمها واشنطن على أساس حل الدولتين، وعودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع، وهو ما يرفضه أعضاء الائتلاف اليميني المتطرف وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على نحو دفع الرئيس الأمريكي إلى القول خلال لقاءه بالمانحين لحملة إعادة انتخابه عام 2024، بأن إسرائيل تفقد التأييد بسبب قصفها "العشوائي" لغزة وإن على بنيامين نتنياهو أن يدخل تغييرات على حكومته[5]. ويعكس ذلك رغبة الإدارة الأمريكية في جني ثمار دعمها للحرب الإسرائيلية على غزة لتحقيق مكاسب غير مباشرة تتمثل في تسهيل مهمة الإطاحة بالائتلاف اليميني المتطرف، في أعقاب العملية العسكرية، وضمان خسارة أعضائه أو فوزهم بنسبة ضئيلة من المقاعد في الانتخابات القادمة بحسب نتائج استطلاعات الرأي الراهنة[6].
ومن شأن ذلك أن يخفف من الحرج الذي تعرضت لها الإدارة الأمريكية نتيجة السياسات المتطرفة للائتلاف الإسرائيلي، وتسهيل مهمة استكمال مسيرة اتفاقيات السلام مع الشركاء بالمنطقة، الذين يرغبون في أن تكون هناك أثمان سياسية لتلك الاتفاقيات مع تل أبيب، وهو ما يرفضه أعضاء الائتلاف الراهن، وكذلك تسهيل مهمة الوصول لاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي.
4- الداخل الإسرائيلي ورهان الدولة اليهودية: يُعاني الداخل الإسرائيلي في اللحظة الراهنة من تداعيات وخيمة على المستويات المختلفة؛ السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، جراء الحرب العسكرية التي تشنها تل أبيب ضد قطاع غزة منذ ثلاثة شهور. فمن ناحية اتسعت هوة الانقسام والاستقطاب السياسي بين التيارات السياسية المختلفة، وكذلك تصاعدت الاختلافات داخل الائتلاف الحكومي وخاصة بين المستوى السياسي والعسكري، بشأن مجريات العملية العسكرية. هذا فضلاً عن تفاقم الانقسام المجتمعي وتراجع مستويات الثقة، وتزايد الشعور بعدم اليقين لدى الإسرائيليين بشأن إدارة الحكومة الراهنة للأزمة، وكذلك بشأن أهدافها من الحرب غير الواضحة، خاصة وأنها لم تتمكن حتى الآن من تحقيق هدفها الرئيسي المعلن، وهو القضاء على حركة حماس، إلى جانب تنامي الشعور بعدم الأمان لدى الإسرائيليين حول مستقبلهم في إسرائيل والنزوع نحو الهجرة، خاصة في ظل انهيار معادلة الردع التي لطالما شكّلت صمام أمان للبقاء في ظل هذه البيئة المضطربة.
يتكامل مع هذا كله ما يشهده الاقتصاد الإسرائيلي من تدهور وتراجع حاد في مؤشراته، حيث تتحدث العديد من التقارير الإسرائيلية عن ارتفاع تكلفة الفاتورة الاقتصادية للحرب حتى الآن بما يقارب 65 مليار شيكل (نحو 18 مليار دولار)، بالإضافة إلى وصول عجز الميزانية إلى 70 مليار شيكل (20 مليار دولار)[7]، بل وتتجه تقديرات البنك المركزي الإسرائيلي إلى أن الحرب ستتكلف نحو 53 مليار دولار بين عامي 2023 و2025[8].
في ضوء هذا التداعيات الوخيمة التي تعقد حسابات الائتلاف الحكومي الراهن، بالإضافة إلى الحسابات الشخصية لنتنياهو، الذي لا يرغب في أن يختتم تاريخه السياسي وإرثه الذي سيتركه –باعتباره رئيس الوزراء الأطول حكمًا في تاريخ الدولة العبرية– بهذه الهزيمة المذلة من جانب حماس. لذلك، يعزز أعضاء الائتلاف اليميني المتطرف، وفي مقدمتهم نتنياهو، من الخطاب التوراتي في إصباغ الحرب الحالية بصبغة دينية، يشحذ من خلالها قوى اليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي من أجل استمرار الحرب للقضاء على حماس، واحتلال قطاع غزة، وتنفيذ مخططات النزوح القسري للفلسطينيين سواء في القطاع أو الضفة الغربية عبر مشاريع "الترانسفير"، ومن ثم، إعادة إحياء مشروع الدولة اليهودية القومية الدينية، باعتبارها المخرج لحل الأزمات المتجذرة في الداخل الإسرائيلي، ومن أبرزها:
أ- أزمة "النزاع الهوياتي"، داخل إسرائيل ما بين كونها دولة يهودية قومية بشعب يهودي فقط، أم دولة ديمقراطية علمانية بشعبين (إسرائيلي-فلسطيني) بحقوق متساوية.
ب- الأزمة الهيكلية داخل الجيش الإسرائيلي المتعلقة بالتجنيد، وخاصة مسألة "الدافع للتجنيد" الذي يغيب عنه الجانب العقيدي، والتي برزت ملامحها خلال الحرب الحالية، حيث تتواتر التقارير التي تتحدث عن لجوء إسرائيل إلى استقطاب المرتزقة للمشاركة في الحرب. هذا فضلاً عن مشاهد الفرحة التي أظهرها جنود لواء جولاني عقب انسحابه من القطاع. وتُرجع اتجاهات التحليل هذه المظاهر من الضعف والهشاشة إلى الأزمة الهيكلية التي يواجهها الجيش الإسرائيلي فيما يتعلق بتجنيد "الحريديم"، الذين تعزز حضورهم خلال تلك الحرب، حيث برز تصاعد الطلب من الجمهور الحريدي –البالغ بحسب آخر الإحصاءات حوالي 17.4% من يهود إسرائيل (حوالي 1.3 مليون نسمة)– للانضمام إلى الخدمة العسكرية، وفقًا لما أعلنه الجيش الإسرائيلي في 21 أكتوبر 2023، بأن المجتمع الإسرائيلي "يشهد اتجاهًا متزايدًا لأفراد الجمهور الأرثوذكسي الحريدي الذين يقدمون طلبات للتجنيد والتطوع في الجيش الإسرائيلي"، مضيفًا تلقيه حتى الآن أكثر من 2000 طلب[9]. يعزز هذا التوجه من تسريع عملية "صهينة الحريديم"* التي بدأت خلال العقد الأخير، وكانت تنحصر في المشاركة السياسية من خلال التحالفات اليمينية لأحزاب الحريديم[10].
ومن ثم، تخدم هذه الحرب وفقًا للعقل الاستراتيجي الإسرائيلي العمل على صهينة المكونات اليهودية من السفارديم، خاصة المكون الحريدي الأكثر نموًا من الناحية الديمغرافية، كبديل موازن للمكون الاشكنازي العلماني (الأكثر انخراطًا في الحياة الحداثية والأكثر مهارة، والذي يمثل النسبة الأكبر في هيكل الجيش الإسرائيلي) الذي بدأ في موجات هجرة عكسية.
هذه المعطيات تفرض بدورها درجة من التعقيد في اللحظة الراهنة للقبول بمسار تسوية حل الدولتين، أو أية مسارات من شأنها الإبقاء على حركة حماس أو عودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع مرة أخرى.
5- حسابات المقاومة الفلسطينية وتعقيدات الموقف الراهن: تنطلق المقاومة الفلسطينية، خاصة حركة حماس، من حسابات استراتيجية طويلة المدى انعكست في تخطيطها وتنفيذها لعملية "طوفان الأقصى" التي استهدفت إعادة الزخم للقضية الفلسطينية وتحييد المخططات الإقليمية لتجاوزها. ومع احتدام المعارك العسكرية وتصاعد الحديث في اللحظة الراهنة حول سيناريو اليوم التالي للحرب، والذي يستهدف بالأساس مستقبل الحكم في قطاع غزة، فإن حماس تسعى عبر تحركات حثيثة للملمة الصف الفلسطيني، والاندماج ضمن هياكل السلطة الفلسطينية لضمان بقاءها ضمن معادلة حكم القطاع خلال المرحلة القادمة، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بسلاحها. وانعكس ذلك عبر عدة مؤشرات خلال الفترة الماضية. على سبيل المثال، أشارت بعض التقارير إلى اجتماع كل من إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وصالح العاروري وخليل الحية، مع ممثلين عن "منظمة التحرير الفلسطينية" وفصائل المعارضة في حركة "فتح" مثل وزير الخارجية السابق للسلطة الفلسطينية ناصر القدوة، وسمير مشهراوي، نائب القيادي السابق لحركة فتح عن "التيار الديمقراطي الإصلاحي"، محمد دحلان، وذلك خلال شهر ديسمبر 2023، وتركزت نقاشاتهم حول سيناريوهات اليوم التالي للحرب، واحتمال دمج حماس في "منظمة التحرير الفلسطينية" بعد انتهاء الحرب[11].
أيضًا أشار إسماعيل هنية خلال كلمة له في 13 ديسمبر 2023، بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لتأسيس حماس، إلى الاستعداد للمشاركة في جهود توحيد القيادة الفلسطينية، عبر ما أسماه "ترتيب البيت الفلسطيني"[12]. كما أشار موسى أبو مرزوق، أحد القادة البارزين في الحركة، خلال تصريحاته لموقع "المونيتور" في 11 ديسمبر 2023، إلى إمكانية انضمام الحركة إلى "منظمة التحرير الفلسطينية"[13].
وعلى الرغم من هذه التحركات الإيجابية لحركة حماس في طريق المصالحة مع السلطة الفلسطينية، إلا أنه لا تزال هناك بعض التعقيدات التي قد تعرقل بدورها هذه الجهود، ومن أبرزها رفض حركة حماس التخلي عن أسلحتها، بالإضافة إلى إصرارها على إجراء انتخابات عامة "في غضون عام"[14]. أيضًا من المتوقع أن تعرقل تل أبيب هذه التحركات عبر اشتراطها لدى شركائها الإقليميين والدوليين، أن لا تكون حركة حماس جزءًا من أي سيناريوهات لحكم القطاع في مرحلة ما بعد الحرب– وهو ما تدرك أنه أمر غير قابل للتحقق خاصة في ظل فشلها في حسم الأمر عسكريًا – وذلك في محاولة لعرقلة أية جهود لإحياء مسار التفاوض لتسوية الصراع على أساس حل الدولتين الذي ستدعمه واشنطن ويعارضه الائتلاف اليميني الراهن، بحيث يظل الانقسام الفلسطيني الذي دعمته تل أبيب طوال السنوات الماضية مستمرًا كمسار مفضل لإدارة الصراع وليس حله بحجة عدم وجود طرف فلسطيني موحد.
مسارات مطروحة
تفرض معطيات الواقع الراهن العديد من التعقيدات والحسابات المتشابكة أمام أية سيناريوهات ومسارات مقترحة أو محتملة لإنهاء الحرب، وهو ما يُمكن إيضاحه عبر السيناريوهات التالية:
1- وقف دائم لإطلاق النار والدفع نحو مسار الحل السياسي: يُعد هذا السيناريو أحد أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، لكنه لازال يواجه العديد من التعقيدات والصعوبات، خاصة على المدى القصير، في ظل سعي إسرائيل لتحقيق انتصار ترمم به معادلة الردع في مواجهة ما يسمى بـ"محور المقاومة" على الجبهات المختلفة بالمنطقة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن بهزيمة حركة حماس، بالإضافة إلى سعي أعضاء الائتلاف اليميني، خاصة نتنياهو، لتحقيق انتصار يخفف من وطأة آثار فشل التعامل مع أحداث 7 أكتوبر، وكذلك التخفيف من انتقادات الرأي العام وترميم شعبية أحزاب الائتلاف المتراجعة بشكل حاد في صفوف داعميهم من ناخبي اليمين المتطرف، إلى جانب رغبة نتنياهو في إعادة تقديم نفسه ضمن خيارات المرحلة القادمة فيما بعد الحرب، وتقديم نفسه على أنه الوحيد القادر على إفشال خيار حل الدولتين الذي تضغط واشنطن من أجل تنفيذه في إطار سيناريو اليوم التالي للحرب. وينعكس ذلك خلال تصريحاته الأخيرة التي عبر فيها عن أن غزة لن تكون "حماسستان ولا فتحستان" بحسب تعبيره، مؤكدًا أنه "فخور" لأنه منع إنشاء دولة فلسطينية[15]، وفي ذلك إشارة لرفض عودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع، على غرار ما حدث عام 2005. وبالتالي، سيدفع أعضاء الائتلاف اليميني الراهن نحو سيناريو استمرار الحرب لضمان بقائهم في المشهد السياسي الذي سينتهي مع انتهاء الحرب الحالية.
هنا تجدر الإشارة إلى أن هذا السيناريو قد يكون قابلاً للتطبيق في حال تمكنت إسرائيل من تحقيق هدفها المعلن بالقضاء على حركة حماس -وهو أمر مشكوك في قابلية تطبيقه- إلا أنها قد لا تدفع نحو مسار الحل السياسي، بل قد تلجأ إلى المماطلة والعودة لنهج إدارة الصراع في حال تغير الائتلاف اليميني الحالي أو اللجوء إلى نهج أكثر تطرفًا في حال استمرار الائتلاف الحالي. ويدعم ذلك أن العديد من رموز هذا الائتلاف وتيار اليمين المتطرف لازال يتحدث عن مشروع التهجير الخارجي لسكان القطاع والضفة، أو دعوات "الهجرة الطوعية" التي يروج لها نتنياهو وأعضاء حكومته، حيث كشفت صحيفة "إسرائيل هيوم" عن تصريح نتنياهو بذلك خلال جلسة برلمانية مغلقة لنواب حزب الليكود، قائلاً: "مشكلتنا هي الدول التي ترغب في استيعابهم، ونحن نعمل على حلها"[16]. ويتقاطع ذلك أيضًا مع ما دعا له وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريش، الذي أكد خلال بيان له في 14 نوفمبر 2023، أنه يرحب "بمبادرة الهجرة الطوعية لعرب غزة إلى دول العالم"، مضيفًا: "هذا هو الحل الإنساني الصحيح لسكان غزة والمنطقة بأكملها بعد 75 عامًا من اللاجئين والفقر والخطر"[17].
2- توقف العمليات العسكرية دون وقف دائم لإطلاق النار (اللا حرب واللا سلم): يعد هذا السيناريو أحد الخيارات المطروحة كحل وسط، يمكن تهيئة مقومات لتنفيذه عبر احتواء اعتبارات الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الرافض لأية مسارات تسوية من شأنها تطبيق إيقاف دائم لإطلاق النار دون هزيمة حماس باعتبار أن ذلك سيعني هزيمة مذلة من الناحية الاستراتيجية في مواجهة الأخيرة. من ناحية أخرى، فإن هذا السيناريو يتجاوز مطلب الفصائل الفلسطينية بوقف إطلاق النار قبل الشروع في التفاوض من أجل عقد صفقة لتبادل الأسرى.
وفي هذا الإطار، يمكن أن تقبل الحكومة الإسرائيلية بهذا المسار من أجل تخفيف ضغط الشارع الإسرائيلي الذي تقود الحراك فيه أُسر الأسرى الإسرائيليين، خاصة مع تنامي تيار متزايد من السياسيين والعسكريين الإسرائيليين السابقين لدعم قضية إطلاق الأسرى باعتبارها هدفًا له أولوية بالنسبة للحكومة، هذا فضلاً عن اعتبارات الداخل المأزوم تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المتصاعدة بفعل فاتورة الحرب المرشحة للتضاعف في حالة طول أمد التصعيد. ومن ناحية أخرى، قد تقبل حركة حماس بهذا السيناريو إذا جاء في إطار صفقة شاملة يتحقق من خلالها الهدف الذي أعلنته منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" وهو تبييض السجون الإسرائيلية.
في هذا الإطار، قد تلجأ إسرائيل لتطبيق هذا السيناريو عبر مسارين: الأول، أن يكون ذلك ضمن صفقة ترعاها واشنطن من أجل تجديد الائتلاف الحكومي شرعيته لدى حليفه الاستراتيجي (الولايات المتحدة) وتخفيف التوترات الناشئة بين الجانبين في اللحظة الراهنة بسبب تباين الرؤى حول سيناريو اليوم التالي للحرب. كما أن هذا السيناريو من شأنه أن يوفر لتل أبيب هامشًا من المناورة التي تسمح لها بالبقاء في القطاع وفرض منطقة عازلة داخل عمق القطاع تسمح لها بعودة مستوطني غلاف قطاع غزة، إلا أن ذلك سيكون مسارا محفوفا بالمخاطر بالنسبة لتل أبيب، خاصة أن هذا السيناريو سينطوي على عدم الالتزام بوقف إطلاق النار، وهو ما يعني تجدد الاشتباكات بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية بشكل متقطع على نحو قد يجعل مستوطني الغلاف هدفًا للفصائل. ولذلك تسعى تل أبيب في اللحظة الحالية لشرعنة تحركاتها التي قد تثير التوترات مع دول الجوار، بزعم إحكام سيطرتها لاستمرار حصارها لجيوب حركات المقاومة الفلسطينية لضمان استمرار الحالة الاستنزاف للقدرات العسكرية للأخيرة، وهو ما تروج له عبر تحركاتها للسيطرة على محور "فيلادلفيا".
المسار الثاني، إقدام تل أبيب على تنفيذ هذا السيناريو دون أن يكون في إطار صفقة تفاوضية مع الفصائل الفلسطينية، وإنما في إطار تكتيكي لإيقاف حالة الاستنزاف التي دخلت فيها على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي. وتتجلى ملامح هذا المسار ف ي اللحظة الحالية عبر التحركات العسكرية على الأرض من خلال الإعلان في 31 ديسمبر 2023، عن سحب خمسة ألوية عسكرية (اللواء 460 مدرع، اللواء 261، اللواء 828، اللواء المدرع الاحتياطي الرابع عشر؛ اللواء 551 من المظليين الاحتياطيين)[18]، ومن قبلها سحب لواء جولاني[19].
وتعكس هذه التحركات، من ناحية، نية إسرائيل في استمرار المعارك خلال العام 2024 مع تخفيف العمليات العسكرية والقوات المشاركة دون أن يقود ذلك لوقف دائم لإطلاق النار حتى يتحقق انتصار تروج له داخليًا ولدى شركائها باعتباره أعاد ترميم معادلة الردع. من ناحية أخرى، تكشف تأثر نشاط العمليات العسكرية بضغط الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تل أبيب نتيجة عمليات التعبئة التي تقوم بها لجنود الاحتياط، وبالتالي ستسمح عملية سحب هذه الألوية بتخفيف هذه الضغوط وإنعاش القطاعات الاقتصادية، خاصة قطاع التكنولوجيا الفائقة بالعمالة المطلوبة.
3- وقف مؤقت لإطلاق النار وتمرير صفقة لتبادل الأسرى: يُعد هذا المسار أحد السيناريوهات المطروحة، حيث تسعى بعض الدول المنخرطة في عملية التفاوض بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، لطرح هذا المسار كسيناريو مرحلي قابل للتطوير والبناء عليه للوصول إلى سيناريو مقبول لليوم التالي للحرب فيما يتعلق بمسألة حكم القطاع، وكذلك مسارات حل وتسوية الصراع في صورته الكلية.
وفي هذا الصدد، يبرز الإطار المصري المقترح المصري في سياق عملية تطوير مبادرة متكاملة لوقف إطلاق النار، والتي تتأسس، وفق ما أعلنه رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، على ثلاثة مراحل متتالية ومرتبطة ببعضها، وتنتهي إلى وقف إطلاق النار[20]. وتعد هذه المبادرة هي الأبرز في هذا الصدد، خاصة أن مصر تسعى عبر جهود حثيثة في اللحظة الحالية لتعزيز قبول المبادرة لدى كافة الأطراف المعنية لتهيئة عوامل نجاحها، وهو ما انعكس في استضافة القاهرة لعدد من اللقاءات والاجتماعات مع بعض الفصائل الفلسطينية.
وفي هذا الإطار، قد تلجأ الفصائل الفلسطينية للقبول بهدنة لإيقاف إطلاق النار، على غرار الهدنة التي تم التوصل إليها في نوفمبر الماضي، وإطلاق سراح الأسرى المدنيين لديها وليس العسكريين في مقابل إطلاق أعداد من الأسرى الفلسطينيين الأمنيين في السجون الإسرائيلية، مع إمكانية تطوير هذه الهدنة إلى اتفاق لإطلاق سراح باقي الأسرى الإسرائيليين في إطار صفقة شاملة تحقق بها أحد أهدافها الرئيسية من عملية "طوفان الأقصى" والمتمثل في تبييض السجون من الأسرى الفلسطينيين، بالإضافة إلى الحفاظ على مكتسب تلك العملية المتمثل في تعزيز الحاضنة الشعبية لحركة حماس في الشارع الفلسطيني، وهو ما يضمن لها الحضور المستقبلي القوي في أي عملية انتخابية ضمن إطار الإصلاح السياسي للسلطة الفلسطينية.
ختامًا، يمكن القول إن هذه السيناريوهات واحتمالات حدوثها تظل محكومة بمتغيرات السياق القائم، والذي قد يشهد تحولات متسارعة بين الفينة والأخرى، سواء ارتبط ذلك بمشهد الداخل الإسرائيلي وتركيبته الحالية، أو الموقف الدولي، خاصة موقف الإدارة الأمريكية التي بدأت توجه رسائل مفادها نفاد ما يبدو أنه كان مهلة زمنية لإسرائيل لإنجاز هدفها المتمثل في القضاء على حركة حماس، خاصة مع قرب انتخابات الرئاسة الأمريكية. هذا فضلاً عن تحولات المشهد الإقليمي واتجاهات التصعيد العسكري من جانب المليشيات الموالية لإيران. لكن رغم كل ذلك، تظل الجهود المصرية للوصول إلى وقف إطلاق نار هي المخرج الأهم من الأزمة الراهنة حتى اللحظة، انطلاقا من طبيعة السياق الراهن.
*تعزيز المشاركة السياسية والاجتماعية للمكون الحريدي المتطرف، وتجاوز حالة الانعزالية الرافضة للحداثة بكل صورها بما فيها المشاركة السياسية وعمليات التجنيد في الجيش، التي يعتبرها تدنيسًا لتوراة إسرائيل وتدخلاً دنيويًا في المشيئة الإلهية، وذلك في إطار المشروع السياسي الاستعماري للصهيونيين الذين أسسوا إسرائيل.
[10] وليد حباس، من تداعيات هجوم 7 أكتوبر: ماذا يعني التحاق مئات الشبان الحريديم بالجيش الإسرائيلي؟، مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، بتاريخ 15 نوفمبر 2023. انظر: https://shorturl.at/kHOZ0
[12] الجزيرة نت، هنية: نرفض مقايضة الحصار والإعمار والأسرى بأي أثمان سياسية وقدمنا لمصر رؤيتنا لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، الجزيرة نت، بتاريخ 15 ديسمبر 2023. انظر: https://shorturl.at/ahEZ9
[14]Growing Internal Tensions Between Hamas Leaders,Ibid.
[15]JACOB MAGID, Israel cornering itself into postwar Gaza military occupation, Western diplomats warn, Times of Israel, December 19, 2023. Retrieved From:https://www.timesofisrael.com/israel-cornering-itself-into-postwar-gaza-military-occupation-western-diplomats warn/?__cf_chl_tk=paGTpz1aZ0TpLbdOjSp6xwkK4glzEbWz_mVnoig6qSI-1703990892-0-gaNycGzNHRA
See also: Atara German, Netanyahu: "We will not repeat Oslo, Gaza will not be Hamastan", Makorrishon, December 12, 2023. Retrieved From: https://www.makorrishon.co.il/news/708713/
[20] روسيا اليوم، الكشف عن مقترح مصري يتضمن 3 مراحل لإيقاف الحرب في غزة، روسيا اليوم، بتاريخ 28 ديسمبر 2023. انظر: https://ar.rt.com/wot9