فرضت العقود الأخيرة قواعد مختلفة للتعاطي الأفريقي مع القضية الفلسطينية، والذي ظل لسنوات يدور في فلك المواقف العربية من القضية. إذ فقدت الدول الأفريقية وخاصة في الأقاليم غير الناطقة بالعربية القدرة على صياغة موقف أفريقي موحد إزاء القضية، وخضعت هذه المواقف للعديد من العوامل التي عملت على إعلاء المصالح القطرية لبعض الدول الأفريقية على المبادئ والقيم الجماعية الأفريقية، والتي ترتبط بتاريخ التحرر الوطني ومبادئ الوحدة والتضامن الأفريقي، خاصة بعد نجاح إسرائيل في تأسيس علاقات دبلوماسية مع 44 دولة أفريقية، وإعلان ملاوي عام 2020 نقل سفارتها إلى القدس وتبعتها غينيا الاستوائية عام 2021.
وجاء قرار الاتحاد الأفريقي في يوليو 2021 بمنح إسرائيل صفة مراقب في المنظمة القارية ليؤكد على اتجاهات الدول الأفريقية نحو التقارب مع إسرائيل، حيث لم تعارض هذا القرار سوى 15 دولة أفريقية من 54 دولة، وعلى الرغم من تجميد هذا القرار، إلا أنه لم يتم إلغائه.
ولم تخرج أحداث غزة والاعتداءات الإسرائيلية على سكانها المواقف الأفريقية عن نمطها المعهود والداعم لإسرائيل، على الرغم من ردود الفعل الشعبية الواسعة، إلا أن تزايد الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين فى غزة قد ساهم في تأكيد العديد من المواقف الأفريقية على أهمية إقرار هدنة إنسانية ووصول المساعدات إلى القطاع.
دوافع الدعم الأفريقي للقضية الفلسطينية
على الرغم من تمكن إسرائيل من تطوير علاقات متميزة مع العديد من الدول الأفريقية، واعتمادها على هذه العلاقات في حماية مصالحها وخاصة في المنظمات الدولية، جاءت المواقف الشعبية من الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة لتعبر عن وجود مصلحة ودوافع أفريقية لدعم القضية الفلسطينية، حيث لم يتوقف استنكار ورفض العدوان الإسرائيلي على غزة، بل انتشرت الإدانات والرفض فى أجزاء واسعة من القارة الأفريقية معبرة عن استنكار واسع لما يشهده سكان غزة من كارثة إنسانية ناجمة عن احتلال أراضيهم.
وربما يأتي الرفض الأفريقي لممارسات إسرائيل نابعاً من العديد من العوامل أهمها:
1- رفض الاحتلال والعنصرية: لا تزال شعوب القارة الأفريقية تعانى من آثار احتلال القوى الغربية لأراضيها والتي تظهر فى ما شملته اتفاقيات الاستقلال من استمرار لتبعية اقتصاديات هذه الدول للقوى الغربية، وتعد دول القارة من أكثر المناطق فى العالم التي عانت من احتلال القوى الغربية لأراضيها وتقسيم هذه الأراضي فى مؤتمر برلين 1884-1885 دون الأخذ فى الاعتبار التكوينات البشرية التى تعيش على هذه الأرض، فكما كان الإسرائيليون يصفون أراضى فلسطين التى احتلوها فى عام 1948 بأنها كانت أراضى لا يسكنها أحد، كان المحتلون الغربيون يعتبرون أراضى الدول الأفريقية بلا بشر، واتجهوا لتقسيمها فيما بينهم دون مراعاة للتكوينات الإثنية، فقسموا إثنيات بين العديد من الدول، ولا تزال الدول الأفريقية تعانى من جراء هذه التقسيمات المصطنعة حتى الآن، وهناك العديد من الإثنيات التى تتطلع إلى أن تجمع أفرادها والمنتمين لها فى دولة واحدة، مثل العفر فى شرق أفريقيا، والطوارق فى الشمال والغرب الأفريقي.
وعلى الرغم من تجاوز العلاقات الإسرائيلية مع عدد من الدول الأفريقية لهذه القضية بل وإقناع هذه الدول بفكرة المصير المشترك والخلاص والتشابه بين الشتات اليهودي والمعاناة الأفريقية من الاستعمار والعنصرية، مما يدعم تطوير المصالح الاقتصادية والأمنية بين الجانبين، إلا أن الاعتداءات التى ارتكبتها إسرائيل فى غزة مؤخراً قد أحيت من جديد هذه الانطباعات السياسية الأفريقية حول إسرائيل وخاصة على المستوى الشعبى. وربما تكون الزيارة التى قام بها الرئيس الألمانى فرانك فالتر شتاينماير إلى تنزانيا مؤخراً واعتذاره عن الانتهاكات التى ارتكبتها دولته أثناء استعمارها للبلاد، نوعاً من الوعى بما تشكله الأحداث فى غزة من تهديد للمصالح الغربية فى أفريقيا.
2- مناهضة التدخلات الغربية فى القارة: جاءت أحداث غزة فى ظل تصاعد كبير للرفض الشعبى للتواجد الأجنبى العسكرى داخل عدد من الدول الأفريقية وخاصة التواجد الفرنسى، مما دفع فرنسا للانسحاب من قواعدها فى عدد من دول الساحل الأفريقى، ومع تأييد فرنسا للموقف الإسرائيلي، اعتبرت بعض القوى السياسية والمدنية فى دول القارة أن أهداف شعوب القارة تتقارب مع الأهداف الفلسطينية.
3- المكانة الدولية والإقليمية: يبدو من مواقف بعض الدول الأفريقية أنها لا تتعلق فقط بدعم الحقوق الفلسطينية كجزء من حماية القيم الجماعية الأفريقية ولكن أيضاً تهدف هذه المواقف لتطوير مكانة وأدوار إقليمية لبعض الدول، وفى هذا الإطار تبرز مواقف دولة جنوب أفريقيا والتى تعمل لتتحول إلى إحدى القوى الدولية عبر وجودها فى مجموعة البريكس أو أدوارها لحفظ السلام والأمن فى القارة وكذلك يبرز الموقف الجزائرى، حيث بمثل دعم القضية الفلسطينية محوراً أساسياً فى السياسة الخارجية الجزائرية، خاصة أنه تم إعلان الدولة الفلسطينية فى عام 1988 من الجزائر.
مواقف أفريقية متباينة من أحداث غزة
فى أعقاب الهجمات التى شنتها حماس على إسرائيل فى 7 أكتوبر والاعتداءات المتصاعدة التى تبنتها إسرائيل بعدها، نشرت المجلة الفرنسية "جون أفريك" مقالاً حول المواقف الأفريقية حيال التطورات بين إسرائيل وغزة، حيث قسمتها إلى ثلاثة "مواقف" رسمية، إذ تدين دول أفريقية حماس بشدة وتقدم الدعم غير المشروط تقريباً لإسرائيل؛ ودول أخرى تدعو إلى وقف التصعيد وتندد بالعنف المرتكب ضد المدنيين، بغض النظر عن مرتكبيه؛ وأخيراً، دول ترفض إدانة هجوم حماس رسمياً، حيث يندرج الاتحاد الأفريقي ضمن الفئة الأخيرة، والذى دعا رئيس مفوضيته موسى الفقى فى 8 أكتوبر إلى تأكيد ضرورة العودة إلى المفاوضات لتنفيذ حل الدولتين وقال في بيان: "أود أن أذكّر بأن إنكار الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، لا سيما حق دولة مستقلة ذات سيادة، هو السبب الرئيسي للتوتر الإسرائيلي الفلسطيني الدائم". وهذه الدعوة للتفاوض هي أيضاً موقف تونس والجزائر على وجه الخصوص. وفي تونس كما في الجزائر، أصبح الدعم لحماس أكثر وضوحاً.
وخلال قمة السلام التى عقدتها القاهرة فى 21 أكتوبر دعا الفقى إلى تشكيل "جبهة عالمية مفتوحة" لوقف العنف الدائر في قطاع غزة وفي كل العالم، مطالباً بالتوقف عن الاكتفاء بالتنديد والدخول في مرحلة الفعل. كما عرض موسى الفقى استعداد الاتحاد لعمل ما يلزم بالتنسيق مع الدول والمنظمات العالمية، لوضع حد للصراع الدائر بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وهكذا انقسمت الدول الأفريقية حول الأحداث فى غزة عبر مستويين:
1- المستوى الرسمي: من أبرز ردود الفعل الأفريقية الرسمية الداعمة للفلسطينيين فى غزة، جاء موقف جنوب أفريقيا وموريتنايا، فعقب أحداث 7 أكتوبر أصدرت وزارة خارجية جنوب أفريقيا بياناً يطالب بوقف إطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين، وأكدت استعدادها لتقاسم تجربتها في الوساطة بين الطرفين. كما دعت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور، الحركات النقابية إلى مقاطعة المنتجات التابعة للاحتلال.
وأعرب رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا وهو يتحدث باسم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، مستنكراً دعوات الجيش الإسرائيلي لرحيل 1.1مليون فلسطيني عن الجزء الشمالي من غزة. وأكد على أن "الفلسطينيين يعيشون تحت احتلال دولة الفصل العنصري".
أما موريتانيا التى قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل منذ عام 2009، واستمرت الأحزاب والحكومة الموريتانية فى دعم الحقوق الفلسطينية، ومع الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، أعلنت الأحزاب السياسية الموريتانية إطلاق حملة تبرعات واسعة دعماً لسكان قطاع غزة وللتخفيف من معاناتهم، في الوقت الذي دعت فيه النقابات العمالية في البلاد إلى الوقف الفوري لـ"العدوان الإسرائيلي" على غزة وفتح المعابر بشكل دائم لإدخال كافة الاحتياجات البشرية، كما أجرى القيادي بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) سامي أبو زهري لقاءات مع قادة أحزاب سياسية موريتانية من المعارضة والموالاة فى الأول من نوفمبر الجاري، بينها حزب "الإنصاف" الحاكم وحزب "التجمع الوطني للإصلاح والتنمية" (تواصل) المعارض. ونظم العمال الموريتانيون مهرجاناً تضامنياً في دار الشباب القديمة؛ نصرة للفلسطينيين. ودعا العمال الموريتانيون -خلال الفعالية التي حضرها السفير الفلسطيني في نواكشوط- إلى وقف العدوان الوحشي الذي يتعرض له الفلسطينيون.
أما في السنغال، فقد طالبت الحملة السنغالية للدفاع عن القدس وفلسطين، المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق في جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة. كما دعت تنزانيا إلى وقف أعمال الاقتتال من الطرفين والدعوة إلى السلام، وطالب الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني بالعودة إلى حل الدولتين وحل المشاكل عبر الحوار، حيث ترتبط بلاده بعلاقات متميزة مع إسرائيل، فى حين لم تبد إثيوبيا، الدولة صاحبة الارتباط الأقوى والتاريخي مع إسرائيل، أى موقف صريح من الحرب فى غزة.
على الجانب الآخر، عبرت عدد من الدول الأفريقية عن دعمها المطلق لإسرائيل وفى مقدمة هذه الدول كينيا ورواندا والكاميرون والكونغو الديمقراطية، فقد أصدر الرئيس الكيني وليام روتو بياناً شديد اللهجة لإدانة هجمات حماس على إسرائيل وحث المجتمع الدولي على اتخاذ إجراءات ضد مرتكبي ومنظمي وممولي ورعاة ومؤيدي وممكني ما وصفه بـ"الأعمال الإرهابية الإجرامية". وتبنت غانا موقفاً مشابهاً، وهى عضو مؤقت فى مجلس الأمن، حيث امتنعت عن التصويت لصالح مشروعي قرارين لوقف إطلاق النار في غزة، أحدهما روسي والآخر برازيلي.
كما تباينت المواقف الأفريقية من القرار العربى الذى أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 26 أكتوبر 2023 حول الاعتداءات الإسرائيلية على غزة والذي يدعو إلى هدنة إنسانية فورية دائمة ومستدامة تفضي إلى وقف الأعمال العدائية، وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين في شتى أنحاء القطاع فوراً وبدون عوائق.
ويمثّل القرار أول رد رسمي للأمم المتحدة على تصاعد العنف جراء العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية منذ هجمات 7 أكتوبر، بعد أن فشل مجلس الأمن الدولي 4 مرات في اتخاذ إجراء.
والقرار غير الملزم المقدم من الأردن نيابة عن المجموعة العربية، أيّده 120 عضواً، من بينهم 36 دولة أفريقية، بعض هذه الدول مثل كينيا لديها علاقات اقتصادية وأمنية متميزة مع إسرائيل، وعارض القرار 14 دولة ليس من بينهم أى دولة أفريقية، فى حين امتنع عن التصويت 45 دولة عن التصويت من بينهم 6 دول أفريقية، ولم يتم تسجيل تصويت 15 الدول من بينهم (بنين، بوركينا فاسو، بوروندي، ليبيريا، رواندا، ساموا، ساو تومي وبرينسيبي، سيشيل، توجو) من أصل 193 عضواً في الجمعية العامة.
2- المستوى الشعبي: لا يزال اهتمام الرأى العام الأفريقي بدعم القضية الفلسطينية يتجاوز ردود الفعل الرسمية، فعلى الرغم من تراجع الفعاليات والحضور الفلسطينى فى العديد من الدول الأفريقية، إلا أن قطاعات واسعة من الشعوب الأفريقية لا تزال ترى فى دعم الشعب الفلسطينى وقضيته جزءاً من القيم الجماعية الأفريقية الرافضة لاحتلال واستغلال الشعوب، حيث يظهر هذا الدعم بصورة واضحة مع الأحداث التى تشهدها القضية الفلسطينية فى الدول ذات الأغلبية المسلمة ولكن تنحاز شعوب دول أخرى لهذه القضية.
وقد ظهر الدعم الواضح للقضية الفلسطينية والرفض للعدوان الإسرائيلى على غزة عبر العديد من المظاهر الشعبية، جسدتها المظاهرات التى انتشرت فى العديد من الدول الأفريقية وخاصة عقب صلاة الجمعة، كما انطلقت احتجاجات أمام السفارات الأجنبية، وأدان خطباء المساجد الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة وقتل الأبرياء، حيث برز إقليم الغرب بعد الشمال الأفريقى كأهم إقليم يبرز فيه التأييد للحقوق الفلسطينية، إذ يضم الإقليم أكبر عدد من السكان المسلمين.
أهمية الدعم الأفريقي لغزة
على الرغم من اختلاف مواقف الدول الأفريقية سواء الرسمية أو الشعبية حول الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، واستغلال إسرائيل لسنوات من عملها لجذب مزيد من الحلفاء فى القارة الأفريقية عبر استثمارات زراعية وتقديم خدمات أمنية وعسكرية، إلا أن تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية على المدنيين فى غزة التى تجاوزت جولات الصراع السابقة، وتزايد أعداد الضحايا من الأبرياء قد انعكس على مواقف الدول المؤيدة لإسرائيل فى القارة مما زاد من أهمية الدعم الأفريقى لغزة، وقد ظهرت هذه التحولات فى عدد من المؤشرات منها:
1- الكتلة التصويتية الأفريقية، والتى ظهرت فى قرار الجمعية العامة بإقرار هدنة إنسانية، فقد أبدى حلفاء إسرائيل فى شرق أفريقيا وفى مقدمتهم كينيا وأوغندا تأييدهم لإسرائيل إلا أن الدولتين قد وافقتا على قرار الجمعية العامة، كما لم تتجه أى دولة أفريقيا لمعارضة هذا القرار.
2- تهديد المصالح الغربية فى القارة الأفريقية، حيث تعد القارة الأفريقية مركزاً للمصالح الغربية الحيوية وأهمها المرتبطة بالطاقة والثروات المعدنية، ورداً على الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين فى غزة تصاعدت موجة من الغضب الشعبى فى دول القارة الأفريقية ضد إسرائيل والولايات المتحدة وكافة القوى الغربية المؤيدة لهما فى الاعتداءات على غزة، مما أدى إلى تصاعد المخاوف من استهداف المصالح الغربية فى القارة سواء من المحتجين الغاضبين أو من التنظيمات الإرهابية. وقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، عبر سفارتها فى العاصمة النيجيرية أبوجا، نشرة تحذيرية للأمريكيين المتواجدين أو الراغبين فى السفر إلى نيجيريا تحسباً لتعرضهم لاعتداءات.
3- تصاعد الاتجاهات المناهضة للتطبيع مع إسرائيل، فمن المرجح أن تنعكس الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين فى غزة على رغبة دول أفريقية فى التطبيع والتقارب مع إسرائيل، كما تحد من الشراكات الأمريكية مع الدول الأفريقية، وتزيد من فرص القوى المنافسة للولايات المتحدة ومنها الصين وروسيا فى القارة الأفريقية.
في النهاية، ربما لم تحظ القضايا الأفريقية باهتمام الدول العربية بالشكل الكافى خلال الخمس عقود الأخيرة، على الرغم من وجود دول عربية أفريقية ووجود نسبة كبيرة من المسلمين خاصة فى إقليم غرب أفريقيا، إلا أن تاريخ القضية الفلسطينية وما ارتبط به من أحداث تزامنت مع محطات للنضال الأفريقى ضد الاحتلال والعنصرية ساهم فى بناء وعى لدى الشعوب الأفريقية بالتشابه بين معاناة الفلسطينيين ونظرائهم فى القارة الأفريقية، لذلك استمرت ردود الفعل الشعبية مناهضة للانتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.