بتاريخ 22 أكتوبر الجاري (2023) كتب حاييم جيلين -رئيس المجلس الإقليمي لمدينة أشكول الواقعة على أطراف قطاع غزة- في جريدة "إسرائيل اليوم": "يجب على الحكومة الإسرائيلية التحلي بالمسئولية، وإصدار الأمر للجيش لاجتثاث الإرهاب في غزة مرة واحدة وإلى الأبد، بغض النظر عن طول المدة التي سيحتاجها الجيش لتحقيق هذا الهدف. نقول للحكومة بوضوح: لن نعود إلى مدننا في الجنوب طالما بقت ولو رصاصة واحدة أو بندقية أو إرهابي واحد في غزة".
تلخص كلمات جيلين الشعور السائد داخل المجتمع الإسرائيلي ليس في المناطق المتاخمة للحدود مع قطاع غزة وحدها، بل في عموم البلاد بأكملها، حيث تعتقد أغلبية كبيرة من الإسرائيليين بأن استعادة الشعور بالأمن بات مرهوناً بإنهاء حكم حماس في غزة مهما طال أمد الحرب ومهما كان الثمن الذي سيتعين على الإسرائيليين دفعه لتحقيق هذا الهدف.
الإعلام الإسرائيلي وصناعة دعوات الثأر
فور اندلاع القتال في السابع من أكتوبر الحالي، اعتمد الخطاب الإعلامي الإسرائيلي بشكل عام على أربعة عناصر لتسويق رواية الحرب الخاصة به، هي:
1- إذا كان الاحتلال قد شكل ذريعة منطقية وشرعية للفلسطينيين لشن هجمات على إسرائيل، فإن تلك الذريعة قد سقطت بانسحاب إسرائيل من غزة عام 2005.
2- لا تعبر حماس والجهاد عن مواقف أيديولوجية قاصرة على مؤيديهما، بل تعبر عن المشاعر الحقيقية للفلسطينيين عامة، والمتمثلة في ضرورة إزالة إسرائيل من الوجود وقتل اليهود بشكل جماعي، أو إجبارهم على الرحيل عن بلادهم (النفي والإبادة المتكررين للشعب اليهودي عبر التاريخ)، وهو الموقف نفسه الذي تتبناه إيران التي تقوم بتسليح وتمويل الحركتين، والتي تقف من وراء قيام حماس بشن هجومها في السابع من أكتوبر الجاري.
3- حرب السابع من أكتوبر ليست مثل الحروب التي خاضتها إسرائيل من قبل مع الحركات الفلسطينية في غزة بقيادة حماس، لا على مستوى الأهداف التي تريد حماس تحقيقها، ولا على مستوى الخسائر التي منيت بها إسرائيل.
4- تعرضت إسرائيل لخطر وجودي مرتين: الأولى عام 1973 في حرب "يوم الغفران"، والثانية الآن مع دخول مقاتلي حماس والجهاد للأراضي الإسرائيلية وقتل وجرح وأسر الآلاف من الإسرائيليين في فترة وجيزة.
وقد بدا تأثير العناصر السابقة على موقف المجتمع الإسرائيلي من القضايا التي طرحتها تلك الحرب واضحاً في الكثير من الآراء التي تنشرها الصحف الإسرائيلية، وعبر برامج التوك شو في المحطات التلفزيونية. فقد أجاد الإعلام الإسرائيلي توظيف الفيديوهات التي سجلتها حماس لعمليتها العسكرية في المدن الإسرائيلية المتاخمة لقطاع غزة، مركزة على مشاهد القتل واقتياد الأسرى من كبار السن والأطفال إلى القطاع. على سبيل المثال، أشار موقع جريدة "يديعوت احرنوت" على شبكة الانترنت، في 19 أكتوبر الجاري، إلى أن الفيديو الذي نشره الجيش الإسرائيلي على اليوتيوب، حقق أكثر من 5.5 مليون مشاهدة في أقل من 24 ساعة، وهو فيديو يحوي لقطات تصور ما أطلق عليه "المشاهد المرعبة للإسرائيليين الذين يتم قتلهم وحرقهم" (المشاهد التي التقطت لحفل موسيقي كان يحضره مئات من الشباب ساعة الهجوم يوم السابع من أكتوبر).
كذلك، تقوم الصحف الإسرائيلية على اختلافها بنشر صور وبيانات القتلى والجرحى بشكل يومي، كما تنشر مقارنات عن خسائر إسرائيل البشرية في كل حروبها مع حماس نقلاً عن بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، والتي أشارت إلى أن عدد الفلسطينيين والإسرائيليين الذين قتلوا أو أصيبوا منذ عام 2009 حتى شهر سبتمبر الماضي (أي خلال أربعة عشر عاماً شهدت ثلاث مواجهات كبرى بالإضافة إلى عشرات المواجهات الصغيرة)، قد بلغ 6407 فلسطيني، مقابل 308 إسرائيلي، وجرح 152 ألف و560 فلسطيني مقابل 6307 إسرائيلي. وحسب السنوات: قُتل 899 فلسطينياً عام 2008، ثم ارتفع الرقم إلى 1066 عام 2009، وسجل أكبر رقم من الضحايا في عام 2014 إذ بلغ 2329. في المقابل، قتل 33 إسرائيلياً عام 2008، و11 عام 2009، و88 عام 2014.
مقارنة بتلك الأرقام، فقدت إسرائيل في حربها الحالية حتى (23/10/2023) مع حماس أكثر من 1400 قتيل من المدنيين والجنود، بالإضافة إلى جرح أكثر من خمسة آلاف آخرين، وسقوط 203 أسرى في يد حركتي حماس والجهاد. ويعتبر تركيز الإعلام الإسرائيلي على إظهار هذه المقارنات وسيلة لتحفيز المجتمع الإسرائيلي على تقبل الثمن الذي سيدفعه مقابل "الثأر" من الفلسطينيين، وتحمل حقيقة أن الحرب ستستمر لفترة طويلة، وهو ما عبر عنه تصريح رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي بقوله: إن تلك المشاهد والحقائق ستكون حاضرة في وعي الجنود الإسرائيليين الذين يستعدون لشن عملية برية واسعة النطاق داخل غزة.
التمسك بالإفراج عن الأسرى مقابل المساعدات الإنسانية
تتعرض حكومة الحرب الإسرائيلية لضغط كبير نتيجة تناقض مطالب الرأي العام بين بعضها البعض، ففي الوقت الذي يطالب الرأي العام بالاستمرار في الحرب حتى إسقاط حماس، يخشى الكثيرون من عواقب تلك الحرب على حياة الأسرى الموجودين في يد حماس داخل القطاع. ولحل هذا التناقض، يميل الرأي العام إلى إجراء مقايضة بين السماح بإيصال المعونات الإنسانية لسكان قطاع غزة، وبين الإفراج عن الأسرى، فقد ذكرت صحيفة "تايمز اوف إسرائيل" في 19 أكتوبر الجاري، أن بعض أفراد عائلات الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس في غزة عبروا عن غضبهم الشديد بعد قرار حكومة بنيامين نتنياهو السماح بنقل مساعدات إنسانية إلى القطاع عبر مصر، دون ربط ذلك بالإفراج عن أقربائهم المختطفين. وقالت منظمة "أعيدوهم إلى المنزل الآن" التي تشكلت لتمثيل عائلات المختطفين في بيان لها: إن "قرار السماح بتقديم المساعدات الإنسانية للقتلة في غزة أثار غضباً كبيراً في صفوف أفراد عائلات المختطفين".
تأييد كبير للعملية البرية
رغم وعى الجمهور الإسرائيلي بالتحذيرات التي يطلقها بعض المعارضين للعملية البرية المنتظرة في غزة، والتي وصفها رئيس الوزراء الأسبق ايهود باراك بأنها مغامرة ستتسبب في خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي، دون ضمان لتحقيق الهدف المعلن، وهو القضاء على حركة حماس، إلا أن الاستطلاع الذي أجرته صحيفة "معاريف" في 20 أكتوبر الجاري أظهر أن 65% من الإسرائيليين يدعمون تنفيذ القوات الإسرائيلية الهجوم البري المتوقع على غزة. ولم يتم سؤال من تم استطلاعهم هل كانوا سيوافقون على تنفيذ العملية البرية حتى لو شكلت خطراً أكيداً على حياة الأسرى؟
ويبدو أن مصممي الاستطلاع يتفادون توجيه أسئلة مربكة من هذا النوع، خوفاً من تقليل الدعم الشعبي للعملية البرية. ومن المعروف أن استطلاعات الرأي لا تستهدف فقط معرفة رأي الشارع في قضية أو قضايا بعينها، بل تعمل هذه الاستطلاعات أحياناً، من خلال تصميم الأسئلة، إلى توجيه الجمهور في اتجاه محدد، تريده الدولة أو الجهة التي تجري الاستطلاع. ويعني ذلك أن الدولة العبرية نجحت في حشد جمهور واسع لدعم قرار تنفيذ العملية البرية.
مصير نتنياهو وتحالف اليمين
رغم أن هناك اتفاقاً بين النخبة الحاكمة الإسرائيلية حول تأجيل محاسبة نتنياهو وحكومته على الكارثة التي حاقت بالدولة والمجتمع الإسرائيليين، إلا أن استطلاع الرأي الذي نشرته "معاريف" أوضح أن ما يصل إلى 80% من الإسرائيليين يعتقدون أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لابد أن يتحمل المسئولية عن الإخفاق الأمني الذي كشفه هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر على إسرائيل.
ولكن نتنياهو يبدو أنه سيؤخر هذه الخطوة بسب إدراكه أنها لن تغير من حقيقة أن مستقبله السياسي قد انتهى بالفعل سواء اعترف بمسئوليته عن الكارثة، أو رفض الاعتراف بذلك؛ فالمقارنة بعد الحرب ستكون مع ما جرى في أعقاب حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر 1973)، حينما تشكلت اللجنة المعروفة باسم "لجنة اجرانات" والتي أعفت القيادات السياسية (رئيسة الحكومة جولدا مائير، ووزير الدفاع موشيه ديان) من مسئولية ما جرى في الأيام الأولى من الحرب والذي تصفه الأدبيات الإسرائيلية بمصطلح "التقصير" أو "المحدال". ولكن على مدى خمسين عاماً من هذه الحرب، ظلت توصيات اللجنة محل انتقاد كبير من الباحثين الإسرائيليين، الذين اعتبروا تقريرها منحازاً لصالح القيادات السياسية، وظالماً للقيادات الأمنية والعسكرية التي تم تحميلها مسئولية التقصير وحدها. والأمر المؤكد أن الموقف الحالي لنتنياهو أصعب كثيراً من الموقف أو الوضع الذي واجهته جولدا مائير قبل نصف قرن، فهو (أي نتنياهو) من عرَّض إسرائيل للانقسام قبل الحرب على خلفية خطة التعديلات القضائية التي أراد تمريرها، والتي تسببت تداعياتها في انشغال المؤسسات الأمنية والعسكرية بمهام أخرى أبعدتها عن التركيز على مواجهة المخاطر المحيطة بالدولة من عدة جبهات، ومن ثم ستتم محاسبة نتنياهو على مسئوليته المباشرة عن خلق الأوضاع التي قادت إلى وقوع تلك الكارثة حتى بعد خروجه من منصبه.
على الجانب الآخر، لن يقتصر تأثير الوضع الراهن في إسرائيل على إنهاء المسيرة السياسية لنتنياهو، بل سيعاني اليمين الذي كان يقوده من مصاعب جمة بعد أن أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أنه سيفقد ما لا يقل عن عشرين مقعداً (تمتلك جبهة اليمين المشكلة من الليكود والأحزاب الحريدية وأحزاب الصهيونية الدينية حالياً 64 مقعداً في الكنيست) في حال أجريت انتخابات جديدة عقب نهاية الحرب.
وكانت الاستطلاعات التي سبقت الحرب قد أظهرت تراجعاً محدوداً في شعبية اليمين على خلفية قضية الإصلاحات القضائية، ولم يزد هذا التراجع عن احتمال فقدان الائتلاف الذي كان يقوده نتنياهو قبل تشكيل حكومة الطوارئ، أربعة مقاعد فقط، وهو ما يعني أن تلك الحرب قد تتسبب في مضاعفة خسارة اليمين أربع مرات مقارنة بالوضع السابق عليها.
من ناحية أخرى، يبين استطلاع "معاريف" المشار إليه سابقاً أن تلك الحرب مثلما كانت بمثابة الضربة القاضية لنتنياهو، كانت عنصراً حاسماً في زيادة شعبية بيني جانتس زعيم حزب "معسكر الدولة" الذي يمنحه 49% من المشاركين في الاستطلاع الثقة في أن يكون الزعيم القادم لإسرائيل. ولكن يجب الحذر من البناء على هذا الاستطلاع على المدى البعيد، فمن جانب، هناك احتمال بحدوث مفاجآت في الحرب خلال الفترة القصيرة القادمة قد تغير من توجهات المجتمع الإسرائيلي بشكل كبير، على سبيل المثال، لا تزال هناك احتمالات قوية بأن تتوسع الحرب بانضمام حزب الله إليها في أي لحظة، ولا يستبعد أن تنضم إيران إلى نفس الحرب في ظروف محددة، بهدف منع إسرائيل من تحقيق هدفها المتمثل في القضاء على القدرات العسكرية لأذرعها في المنطقة (حزب الله وحركتي حماس والجهاد). حينها سيتعين على الرأي العام الإسرائيلي الاختيار بين قبول انتهاء الحرب بعملية سياسية تفرض على إسرائيل التوصل لحلول وسط فيما يتعلق بالموقف من إنهاء حكم حماس، وإطلاق عملية سلام تشتمل على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، أو الاستمرار في دعم خطة القضاء على حماس وتحمل الخسائر الكبرى التي سيمنى بها المجتمع والدولة في حالة توسع جبهات القتال.