تدخل الاحتجاجات الشعبية في إسرائيل التي انطلقت في يناير الماضي (2023)، على خلفية رفض خطة الإصلاحات القضائية التي صاغها الائتلاف الحكومي، شهرها السابع دون أن يلوح في الأفق حل للأزمة في الأجل القريب، خاصة بعد إقرار الكنيست مشروع قانون "معيار المعقولية" في إطار خطته للإصلاح القضائي. وقد تصاعدت خلال الشهور القليلة الماضية حدة الأزمة مع دخول المؤسسة العسكرية على خط الاحتجاجات، حيث عبّر آلاف من جنود الاحتياط، خاصة وحدات النخبة من المتطوعين في القوات الجوية، والكوماندوز، والاستخبارات العسكرية، عن رفض الخدمة، من أجل الضغط على الحكومة للتراجع عن هذه الإصلاحات التي من شأنها أن تخل بالتوازن بين السلطات لصالح السلطة التنفيذية، وبالتالي تهدد النظام الديمقراطي في إسرائيل، بحسب تعبيرهم.
تطرح هذه التحولات بدورها العديد من التساؤلات حول إطار عمل جنود الاحتياط الإسرائيليين داخل المؤسسة العسكرية، وإلى أي مدى كان لذلك تأثير على طبيعة العلاقات المدنية/ السياسية– العسكرية داخل إسرائيل، وكذلك الارتدادات الاجتماعية والسياسية والأمنية للأزمة على المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة العسكرية ذاتها.
الإطار القانوني والمؤسسي لخدمة الاحتياط بالجيش الإسرائيلي
نشأ نظام خدمة الاحتياط الإسرائيلي عام 1948 كعنصر مركزي في الجيش الإسرائيلي، وهي المكون المهيمن عددياً في الجيش؛ فعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة حول الاحتياطيات، إلا أن بعض التقارير العسكرية الإسرائيلية تشير إلى أن ما لا يزيد عن 1.5٪ من سكان إسرائيل يخدمون في الاحتياط، وحوالي 6٪ فقط من الجنود الذين أكملوا خدمتهم الإلزامية ما زالوا في الخدمة الاحتياطية الفعلية[1]. وقد ارتكزت فكرة تأسيس الخدمة في البداية إلى إنشاء قوة كبيرة بما يكفي لتعويض التقدم العددي للجيوش العربية[2]. بينما يعمل النظام من خلال التجنيد الإجباري للمواطنين في سن الـ 18 عام لفترة طويلة نسبيًا (32 شهر للذكور، 24 شهر للإناث)[3]، يتم خلال تلك الفترة تدريب الجنود وخدمتهم في مهام محددة وعند التسريح يتم دخولهم إلى مجموعة من جنود الاحتياط، وينشأ التزام طوعي من جانب الجنود الاحتياط بالاستجابة للاستدعاءات، وتضمن هذه الآلية لتل أبيب تلبية احتياجات الجيش من ناحية، ومن ناحية أخرى، تلبية احتياجات الاقتصاد المدني[4].
نتيجة لتعقد بيئة عمليات تلك القوات، وما أوجدته من إشكاليات خلال حقبة التسعينات وأوائل القرن الحادي والعشرين، نشأت الحاجة لتعديل الإطار القانوني المنظم لخدمة الجنود الاحتياط، وذلك لمعالجة ثلاث إشكاليات رئيسية: الإشكالية الأولى، هي أزمة التحفيز (1990-1997)، وارتبطت هذه الأزمة بشكل خاص بصعوبة العثور على الدعم في المجال المدني لجنود الاحتياط بثلاثة دوافع سائدة في ذلك الوقت: مشاكل التوظيف، والضرر الذي يلحق بطلاب الدراسات الأكاديمية من جنود الاحتياط، وتعطيل الروتين الأسري. الإشكالية الثانية، هي أزمة التأمين (1997-2002)، وارتبطت بمسألة التأمين على الحياة لجنود الاحتياط، فعلى عكس الجنود النظاميين، لم يكن جنود الاحتياط يتمتعوا بالتأمين على الحياة، بحيث إذا أصيب جنود الاحتياط أو قتلوا أثناء الخدمة، فلن يحق لهم ولأسرهم الحصول على مزايا، واعتمد الجيش الإسرائيلي في هذه الحالة على التأمين الخاص لجنود الاحتياط، على الرغم من أن شركات التأمين الخاصة استبعدت فترات الخدمة الاحتياطية من شروط التأمين. وقد شهدت الأزمة تصاعدًا ملحوظًا مع وقوع "حادثة المروحيات 1" في عام 1997، عندما قتل 73 جنديًا، وكان من بين القتلى طيار احتياطي لم يكن يتمتع بتأمين على الحياة. الإشكالية الثالثة، هي أزمة المعدات والتأهيل (2002-2008)، والتي أثيرت على خلفية العملية العسكرية "الدرع الواقي" التي قامت بها إسرائيل في الضفة الغربية، حيث وجد جنود الاحتياط خلال العملية أنفسهم يقاتلون بعد عقد ونصف من تخفيض وإضعاف نظام الاحتياط، حيث كانت معداتهم القتالية قديمة، بالإضافة إلى تدني مستوى التأهيل والتدريب الذي تلقوه[5].
ونتيجة لهذه الإشكاليات المتلاحقة، بدأ جنود الاحتياط في تشكيل سلوك احتجاجي أضفوا عليه في بعض المراحل إطارًا مؤسسيًا عبر إنشاء أول تنظيم لجنود الاحتياط باسم "منتدى كتيبة الاحتياط وقادة الألوية"، وكانت مهمته الدفاع داخل المؤسسة العسكرية عن كل ما يتعلق بشئون جنود الاحتياط، والتعامل مع المشاكل المتنوعة لنظام الاحتياط في الساحة المدنية. بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء العديد من المنظمات الأخرى، على سبيل المثال، ("منتدى جنود الاحتياط"، "النظام 8")، وقادت هذه المنظمات الجهود لمعالجة المشاكل وشملت بعض الاحتجاجات، وحتى الإضرابات، من قبل جنود الاحتياط. وكان من أبرزها، تنظيم الطيارين الاحتياطيين إضرابًا كبيرًا في عام 1999 رفضوا خلاله الحضور للخدمة، حتى تم حل مشكلة التأمين.
وفي هذا الصدد، كان يُنظر إلى جنود الاحتياط والكيانات التي تمكنوا من تأسيسها باعتبارها عناصر "تغيير مزدوجة" تعمل على كل من المجالين المدني والعسكري، حيث ارتبط العديد منهم بمراكز قوة مختلفة (الحكومات المحلية والشركات التجارية والمؤسسات الأكاديمية) مع القدرة على العمل في الساحة السياسية المدنية من خلال تشكيل تحالفات داعمة خارج النظام الأمني والعمل عبر كل من وسائل الإعلام الجديدة والقديمة. بالإضافة إلى ذلك، على عكس الجنود النظاميين، فهم لا يخضعون مباشرة للانضباط العسكري أثناء خروجهم من الخدمة، وهو ما جعل البعض يعتبرهم بمثابة "سفراء" الجيش في الحياة المدنية، وحماته من التدخل الخارجي وضامني قوته، كما أنهم يستخدمون المنصات المدنية لتشكيل تحالفات مع الجمعيات المدنية والسياسيين ووسائل الإعلام للتأثير على الجيش وتغيير السلوك العسكري.
وبالفعل تمكنت هذه الكيانات من تأمين مصالح الجنود الاحتياط ومعالجة الإشكاليات السابقة، من خلال تدخلات تشريعية، كانت بدايتها بسن تشريع قانون مدفوعات التأمين لجنود الاحتياط والأسر، في عام 2002، وتم تطبيق القانون بأثر رجعي من عام 1999. وفي عام 2003، تأسس لوبي لتنظيمات الاحتياط داخل الكنيست الإسرائيلي، من أجل الترويج لمجموعة برلمانية داخلية تدعم حقوق جنود الاحتياط، وكان يتألف اللوبي من أعضاء من مختلف أطياف الأحزاب السياسية، وساعد في ذلك كون أن العديد من أعضاء الكنيست قد خدموا في الاحتياط، وبعضهم أدى هذه الخدمة خلال الفترة التي تولوا فيها دورهم البرلماني[6]. وبدأت العملية التشريعية الحكومية في عام 2004 من خلال تشكيل لجنة "برافرمان" التي تأسست لفحص نظام الاحتياط، وهو ما مكّن كبير ضباط الاحتياط جنبًا إلى جنب مع منظمات جنود الاحتياط من تشريع قانون جديد مخصص لقوات الاحتياط، وبالتوازي مع تقديم مشروع القانون الحكومي، روج اللوبي بالتعاون مع المنظمات لمشروع قانون مستقل واسع النطاق تم دمجه مع مشروع القانون الحكومي في عام 2005. وأوصت اللجنة بإدخال عدة تغييرات مهمة على نظام الاحتياط في القانون. وبالفعل، في عام 2005، أقر قانون الخدمة الاحتياطية قراءته الأولى في الكنيست[7].
ونتيجة لاندلاع حرب لبنان الثانية في يوليو 2006، والتي تجددت معها مرة أخرى مشاكل جنود الاحتياط، تم تنظيم احتجاجات كبيرة ضد البرلمان والحكومة للتعبير عن إهمال قوات الاحتياط، وتم إجراء بعض التغييرات المهمة على مشروع القانون الذي تم تقديمه من قبل، وذلك وفقًا لتطورات ما بعد الحرب، وبعد العديد من المناقشات بين مختلف أعضاء الكنيست، وممثلي منظمات الاحتياط، والجيش الإسرائيلي، ووزارة الدفاع، توصلت لجنة الكنيست إلى اتفاق بشأن قانون الاحتياط في شكله الحالي. حيث أقر القانون تصويتًا ثانيًا وثالثًا بأغلبية 61 عضوًا في الكنيست 2008[8].
وقد قامت فلسفة هذا القانون على النظر إلى قوات الاحتياط على أنها جزء لا يتجزأ من الجيش الإسرائيلي الذي يشكل ركيزة مركزية يعتمد عليها لحراسة الدولة، وكذلك النظر إليهم على أنهم يقدمون مساهمة فريدة لإسرائيل. واستهدف القانون تحديد هيكل قوات الاحتياط التابعة للجيش الإسرائيلي، ومؤهلاتها وأغراضها، وكذلك ترتيب التجنيد للخدمة وواجبات وحقوق الجندي الاحتياطي[9].
وتكون القانون من 49 قسمًا، تضمن العديد منها بنودًا مأخوذة من قانون خدمة الأمن (1986) ومعدلة حسب الظروف الجديدة، بحيث تتكون من ثلاثة عناصر رئيسية: تحديد هيكل قوات الاحتياط، وإنشاء آليات الرقابة العامة، وإنشاء أطر لمكافأة الجنود والاعتراف بهم. وقد اشتملت أبرز التغييرات التي أضافها القانون الجديد على النقاط التالية[10]:
- تحديد الإعفاءات، وضرورة موافقة البرلمان من أجل تجنيد جنود احتياط إضافيين.
- أنتج القانون نموذج خدمة لمدة 3 سنوات (إنشاء دورة تدريب / نشر مدتها 3 سنوات محددة من حيث الحد الأقصى لأيام الخدمة الاحتياطية المسموح بها كل عام).
- قلص القانون العبء على جنود الاحتياط من ناحية، عن طريق الحد من الحد الأقصى لعدد أيام الخدمة، ومن ناحية أخرى، ضمن أن الوحدات سوف تمر خلال كل فترة بجميع متطلبات التدريب.
- حدد القانون إشراف الدولة من قبل الكنيست والحكومة، على سبيل المثال، يتطلب أحد الأقسام من الجيش أن يقدم العدد المطلوب من قوات الاحتياط ومستوى الكفاءة المتوقع للموافقة عليه سنويًا.
تعكس هذه البنود حجم التغير الذي تمكن التشريع الخاص بقانون خدمة الاحتياط من أن يحدثه لبعض جوانب الاستقلال المؤسسي للجيش الإسرائيلي، ومن ثم، التأثير على الحكم الذاتي العسكري الذي يعد جزءًا أساسيًا من العلاقات المدنية–العسكرية، حيث ينطوي على مساحة الحركة الممنوحة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية لإدارة شئونها الداخلية.
ارتدادات الأزمة على العلاقات المدنية– العسكرية الإسرائيلية والقدرات التشغيلية للجيش
تحكم العلاقة بين السلطة المدنية والسلطة العسكرية حالة جدلية أثارها كل من صمويل هنتنغتون وموريس جانووتيز، قبل نحو سبعة عقود، حيث ذهب هنتنغتون عام 1957 إلى تحديد التوتر بين الحاجة إلى توفير الأمن القومي من ناحية والحفاظ على القيم الديمقراطية على القوة العسكرية المفرطة من ناحية أخرى. وفي هذا الصدد، اقترح هنتنغتون تعظيم الحكم الذاتي المهني العسكري. وفي المقابل، أكد جانووتيز أن الإشراف المدني الإضافي (وتقليل الحكم الذاتي العسكري) من شأنه أن يقلل من هذا التوتر[11]. وقد استمرت هذه المناقشة على مر السنين عندما أكد باحثون آخرون على جوانب مختلفة من السيطرة المدنية على القوات المسلحة أمثال كرواسون، الذي عرّف السيطرة المدنية على أنها توزيع لسلطة صنع القرار بين القادة المدنيين والضباط العسكريين، بينما يؤكد شيف أن العلاقة السياسية–المدنية–العسكرية المتكاملة التي تتميز باتفاقات نشطة ودائمة بدلاً من السيطرة على الجيش هي ما يميز العلاقات المدنية–العسكرية[12].
وهنا تجدر الإشارة إلى الحالة الإسرائيلية التي تشهد تراجعًا في الحكم الذاتي العسكري وفقًا لنموذج جانووتيز، حيث إن سلوك وممارسات منظمات الاحتياط الإسرائيلية، خلال فترات الاحتجاج المُشار إليه سلفًا، والتي انتهت بسن قانون لتنظيم خدمة الاحتياط، استطاعت أن تحول العلاقة الثنائية بين الجيش وجنوده (الاحتياطيين) إلى علاقة ثلاثية، بين الدولة والمجتمع والجيش، وساهم التشريع في إضفاء الطابع الرسمي على هذه العلاقات.
وعلى نطاق أوسع، فإن مساهمة القانون في تقليص الحكم الذاتي العسكري هي جزء من التغييرات التي اجتاحت إسرائيل منذ أواخر القرن العشرين، نتيجة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، حيث أصبح الجيش أكثر عرضة للمراقبة العامة والمشاركة المدنية في المجال العسكري. بالإضافة إلى تدخل المدنيين ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل كجماعات ضغط للتأثير على عملية الجيش الإسرائيلي.
وهنا تجدر الإشارة إلى جملة من المؤشرات التي يمكن الاستدلال بها على هذه التغيرات التي حدثت في الحكم الذاتي العسكري للجيش الإسرائيلي في ضوء قانون الخدمة الاحتياطية[13]:
- يعكس القانون مزيدًا من التخفيض في المساحة المستقلة التي يعمل فيها الجيش كمؤسسة شبه مستقلة، إلا أن هذا التخفيض لم يحدث من قبل السياسيين المدنيين في الحكومة أو البرلمان ولكن من قبل جمعيات الاحتياط التي تتقاطع مع ثلاث مستويات هي الجيش والمجتمع المدني والساحة السياسية، وهو ما مكّنهم من تبني نمط جديد من التنظيم والسيطرة المدنية على الجيش، وذلك من خلال الإمكانات السياسية المتجسدة في ازدواجيتهم ذاتها -كونهم مدنيين وجنودًا- وعلى ما يبدو فقد اختارت منظمات جنود الاحتياط العمل من خلال الوسائل المدنية للتأثير خارجيًا على النشاط العسكري من خلال تشكيل تحالفات مع السياسيين (لوبي احتياطي الكنيست) ووسائل الإعلام لتعزيز التشريعات.
- يحد القانون ويقيد حرية الجيش الإسرائيلي في العمل فيما يتعلق بأهداف الاستدعاءات للخدمة الاحتياطية، وأعمار أولئك الذين يخدمون، وكذلك طول مدة خدمتهم، حيث يستلزم العنصر الرئيسي الإشراف البرلماني على تجنيد جنود الاحتياط أثناء حالات الطوارئ. فوفقًا للقسم 8 من القانون يحدد وزير الدفاع التجنيد الطارئ بعد الحصول على موافقة أولية من الحكومة. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الوزير طلب الموافقة على التعبئة الطارئة من لجنة الشئون الخارجية والدفاع بالبرلمان في غضون 48 ساعة.
- يؤكد القانون أن الحكومة ستحدد عدد جنود الاحتياط المطلوبين للدولة (رهنا بتوصيات الجيش الإسرائيلي)، بينما كان الجيش في السابق يحدده داخليًا وفقًا لاحتياجاته. بالإضافة إلى ذلك، ينص القانون على أن وزير الدفاع ملزم بإبلاغ الكنيست مرة واحدة في السنة عن مستوى التأهيل المطلوب لجنود الاحتياط وبرامجهم التدريبية.
أيضًا، هناك بعض الجوانب التي تعكس تراجع الحكم الذاتي العسكري، ومنها مناقشة التدريب وحتى الحوادث التشغيلية في المحاكم المدنية وليس داخل الجيش. بالإضافة إلى استثناء تجنيد السكان المتميزين (مثل النساء والرجال الأرثوذكس المتطرفين) في النظام القانوني، هذا فضلاً عن بدء المحكمة العليا الإسرائيلية منذ أواخر 1970، في تفعيل المراجعة القضائية للاعتبارات الأمنية. وبالتالي، تشير كل هذه التحركات إلى مدى امتداد الاعتبارات الخارجية إلى عالم صنع القرار العسكري المهني المستقل[14].
على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي يخضع بالتأكيد للحكومة المدنية، إلا أنه يتمتع بنفوذ كبير على صنع السياسات، فرغم مرور 15 عامًا على قانون الخدمة الاحتياطية، وعلى الرغم من الضغوط التي تمارسها جمعيات الاحتياط، لم يبلّغ الجيش الإسرائيلي بعد عن عدد الجنود المطلوبين ومستوى الكفاءة المطلوبة منهم، وفقًا للقانون، حيث اجتمعت اللجنة الوزارية الاحتياطية 5 مرات فقط منذ سن القانون[15].
وبالتالي، تنحرف الحالة الإسرائيلية عن نموذج السيطرة المدنية الموضوعي لهنتنغتون، حيث يمثل قانون الاحتياط الإسرائيلي تعبيرًا عن التراجع البطيء ولكن المطرد للحكم الذاتي العسكري في بلد ديمقراطي، وفي هذه الحالة يمكن اعتبار قانون الاحتياط الإسرائيلي وثيقة تسعى إلى إعادة تنظيم المسئولية بين الجيش والمدنيين والدولة بطريقة تناسب الظروف المعاصرة.
وبالنظر للأزمة الراهنة لاحتجاجات الجنود الاحتياط، نجد أن الدافع الاحتجاجي هذه المرة مرتبط بعامل سياسي خارجي، وليس في نطاق الأمور التشغيلية داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بيد أن التمهيد السابق يمكن أن يفسر لماذا اختار هذا المكون دون غيره من قطاعات الجيش الإسرائيلي التفاعل مع الاحتجاجات الشعبية ضد خطة الإصلاحات القضائية للائتلاف الحكومي، ويرجع ذلك إلى الخبرة الاحتجاجية التي راكمها هذا المكون طيلة الفترة الماضية، والتطور المؤسسي الذي لحق بكياناته، حيث كان يُنظر إلى جنود الاحتياط والكيانات التي تمكنوا من تأسيسها باعتبارها عناصر "تغيير مزدوجة" تعمل على كل من المجالين المدني والعسكري، حيث ارتبط العديد منهم بمراكز قوة مختلفة (الحكومات المحلية والشركات التجارية والمؤسسات الأكاديمية) مع القدرة على العمل في الساحة السياسية المدنية من خلال تشكيل تحالفات داعمة خارج النظام الأمني والعمل عبر كل من وسائل الإعلام الجديدة والقديمة. هذا فضلاً عن تمتع جنود الاحتياط بثقافة تنظيمية مختلفة عن الجنود النظاميين والمجندين، حيث يتميزون بمزيد من القيم المدنية والعقليات المختلفة.
وتتصاعد الأزمة في الوقت الراهن خاصة مع إقرار الكنيست في 24 يوليو الجاري، تشريع "معيار المعقولية" الخاص بالإصلاح القضائي، والذي من شأنه أن يحد من قدرة المحكمة العليا الإسرائيلية على مراجعة "معقولية" قرارات الحكومة، الخاصة بتعيين وفصل المسئولين في القطاع العام، وهو ما ردت عليه رسائل الاحتجاج التي أصدرها الجنود الاحتياط، برفض الخدمة إذا ما أقدمت الحكومة على تمريره، حيث كان قد أصدر 1142 من جنود الاحتياط في القوات الجوية - بما في ذلك 235 طيارًا مقاتلًا و98 طيارًا لطائرات النقل و89 طيارًا لطائرات الهليكوبتر و173 مشغل طائرات بدون طيار – في 21 يوليو الجاري، رسالة مشتركة بأنهم سيتوقفون عن العمل الأسبوع المقبل إذا مضت الحكومة في خطتها لتقليص الطرق التي يمكن للمحكمة العليا من خلالها نقض الحكومة، حيث جاء في الرسالة أن "التشريع الذي يسمح للحكومة بالتصرف بطريقة غير معقولة للغاية سيضر بأمن دولة إسرائيل، وسيؤدي إلى فقدان الثقة وانتهاك موافقتي على الاستمرار في المخاطرة بحياتي - وسيؤدي بحزن عميق وقلة الاختيار، إلى تعليق خدمتي التطوعية في الاحتياطيات"[16].
ومع احتمالية استمرار هذا الاحتجاج المرشح للتوسع ليشمل أعدادًا أكبر، فإنه سيكون لذلك ارتدادات على المدى الطويل ترتبط بطبيعة العلاقات المدنية–العسكرية في إسرائيل، بالإضافة إلى التأثير على القدرات التشغيلية للجيش الإسرائيلي، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:
- تصاعد التوتر بين المستويين السياسي والعسكري: على عكس نموذج جانووتيز الذي أكد خلاله أن الإشراف المدني الإضافي وتقليل الحكم الذاتي من شأنه أن يقلل من التوتر الناشئ نتيجة الحاجة إلى توفير الأمن القومي من ناحية، والحفاظ على القيم الديمقراطية على القوة العسكرية المفرطة من ناحية أخرى، فإن الأزمة السياسية الراهنة التي شارك فيها جنود الاحتياط بهدف الحفاظ على ديمقراطية النظام الإسرائيلي، سيكون لها آثارها السلبية من ناحية جعل الجيش الإسرائيلي أكثر انخراطًا في القضايا المدنية والسياسية. وبالتالي، حدوث توتر متزايد بين القيادة السياسية والمستوى العسكري. إذ أن الشك وانعدام الثقة سيجعلان من الصعب على القيادة السياسية الاعتقاد بأن المناصب المهنية التي يقدمها الجيش خالية من أجندة أو اعتبارات سياسية و/أو أخلاقية، وسيؤدي هذا بدوره إلى تعطيل طبيعة الحوار بين المستويين[17].
وخلال الأزمة الراهنة، برز هذا التوتر مع تصاعد احتجاجات الجنود الاحتياط في مارس الماضي، حيث اختار المستوى العسكري التعامل باستيعاب واحتواء هذه الاحتجاجات وفتح حوار مع المستوى السياسي للوصول إلى صيغة من التوافق، ودعا وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إلى تجميد آلية تعديل النظام القضائي، باعتبار أنها "تمثل خطرًا مباشرًا على أمن البلاد"[18]، إلا أن هذا الأمر قاد في الأخير إلى إقالة غالانت – التي لم يتم تنفيذها – نتيجة لما فسره البعض بأنه يرجع إلى تعامله الضعيف مع رفض الجنود الاحتياط للخدمة[19].
وأوضح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في خطابه في 20 يوليو 2023، أن "إسرائيل ستستمر في كونها دولة ديمقراطية"، كما انتقد جنود الاحتياط قائلاً: "في الديمقراطية، يكون الجيش خاضعًا للحكومة-فهو لا يجبر الحكومة"، مضيفًا: "عندما تحاول عناصر في الجيش، مع التهديدات، إملاء السياسة على الحكومة، فهذا غير مقبول في أي ديمقراطية"[20].
وبالتالي، سيؤدي تصاعد هذه التوترات إلى تزايد شعور القيادة السياسية بالقلق إزاء التهديدات المستقبلية برفض الخدمة، حيث سيكون من الصعب على السياسيين الاعتقاد بأن الجيش يمكنه تكريس كل قدراته ومهنيته لعملية عسكرية تهدف إلى تحقيق هدف سياسي استراتيجي، على النحو الذي تحدده القيادة السياسية. وتدفع بعض التحليلات إلى أن هذه الحالة من الشك والتوتر بين المستوى السياسي والعسكري، ستؤثر على السيطرة المدنية كطبقة أساسية في العلاقات المدنية العسكرية في النظام الإسرائيلي الذي يقوم على الطبيعة غير السياسية للجيش، في نظر القيادة السياسية والمجتمع ككل[21].
- الترسيخ لسابقة رفض الخدمة وعدوى انتشارها: نتيجة أزمة الاحتجاج الراهنة لجنود الاحتياط، قد يجد الجيش الإسرائيلي نفسه مضطرًا للتعامل مع الرفض المنظم، ربما بين جنود الاحتياط الآخرين، حول قضايا مدنية وسياسية ووطنية مختلفة، وهو ما سيؤثر بدوره على تماسكه، وعلى الاستخدام السياسي المحتمل للخدمة العسكرية. وتبرز عدوى الانتشار المتوقعة برفض الخدمة، من خلال بعض الأحداث التي وقعت خلال الأسابيع القليلة الماضية، ومنها الحادث التأديبي الذي وقع في الكتيبة 51 من لواء غولاني، حيث غادرت سرية الجنود القاعدة، تاركين أسلحتهم هناك، بعد نقل قائد السرية من منصبه، من أجل تعيين قائد سرية من كتيبة المظليين مكانه، وبعد مباحثات مع الجنود عادوا الى القاعدة. وعلى الرغم من أن هذا كان حادثًا تأديبيًا لا علاقة له باحتجاج جنود الاحتياط، إلا أنه تم استخدامه من جانب شخصيات مختلفة سياسيًا، وانتشرت اتهامات على مواقع التواصل الاجتماعي مفادها أنه بعد رفض الخدمة في سلاح الجو لا ينبغي المفاجأة إذا تردد صدى ذلك في لواء غولاني[22].
- تأثر نموذج التجنيد للجيش ومكانته كـ"جيش شعبي": ترى بعض التحليلات أن التحدي الذي يطرحه جنود الاحتياط في الوقت الراهن، قد يكون مجرد مقدمة للتحدي الذي سيواجهه قادة النظام السياسي والأمني على وجه الخصوص، خاصة إذا تم تمرير مشروع "قانون التجنيد الإجباري" الجديد، والذي سيتضمن تغييرًا يخفض سن الإعفاء النهائي من الجيش من 26 إلى 23 أو 21 عامًا. بينما يتم تجنيد الجنود عمومًا من سن 18، وتستهدف الحكومة الإسرائيلية من هذا التغيير منح الرجال الأرثوذكس المتشددين (الحريديم) استثناءات من التجنيد في الجيش، في سن مبكر، لتمكينهم من دخول القوى العاملة في سن أصغر بدلاً من التهرب من الخدمة العسكرية بالبقاء في المدرسة الدينية، حيث يُعتقد أن العديد من طلاب المعاهد الدينية يبقون في برامج الدراسة الدينية لفترة أطول من المعتاد من أجل تفادي التجنيد من خلال المطالبة بتأجيلات أكاديمية حتى بلوغهم سن الإعفاء النهائي[23].
ويرفض في الوقت الراهن الجيش الإسرائيلي هذا المقترح، حيث يرى أن تجنيد الإسرائيليين من جميع شرائح المجتمع أمر في غاية الأهمية، وقدم مخططًا جديدًا ذكر أن ما يسمى بنموذج "جيش الشعب"، هو النموذج الذي من المفترض أن يخدم فيه جميع الإسرائيليين، لأنه مصدر قوته[24]. كما تفيد بعض التقارير أن وزير الدفاع يوآف جالانت يؤيد تحديد سن الإعفاء عند 23، ولكن بشرط أن يتم تمرير مشروع قانون آخر من شأنه أن يمنح مزايا إضافية للجنود والمحاربين القدامى، مما يمنح الجنود المقاتلين والأدوار الأساسية الأخرى زيادة كبيرة في الأجور بينما الجنود في المناصب غير الأساسية سيخدمون وقتًا أقل[25].
وبالتالي، يمكن أن يؤدي تمرير القانون المقترح إلى تآكل الدافع للتجنيد والخدمة الاحتياطية، والقدرة على الحفاظ على نموذج "الجيش الشعبي". علاوة على ذلك، فإن تورط الجيش في تمرير تغيير سن الإعفاء، من خلال ربطه بمزايا أولئك الذين يخدمون في قوات الجيش (قانون قيمة الخدمة)، سيؤدي وفقًا لبعض التحليلات إلى انخراطه على مضض، في عمق المجال السياسي، مما يفاقم الأزمة التي يواجهها الجيش[26].
- تراجع القدرات التشغيلية للجيش الإسرائيلي: وفقًا لمسئولي الجيش الإسرائيلي، قد تؤثر الاحتجاجات بشكل كبير على قدرة القوة الجوية واستعدادها التشغيلي، حيث تعتمد أسراب المقاتلات الإسرائيلية على الطيارين الاحتياطيين الذين يتطوعون لعدة أيام كل شهر للتدريب أو المشاركة في مهام القتال والاستطلاع. كما تشير عدد من التقارير إلى أن الضربات الإسرائيلية المنتظمة في غزة وسوريا ومهام المراقبة فوق لبنان والضفة الغربية المحتلة يقودها في كثير من الأحيان طيارون احتياطيون ومشغلو طائرات بدون طيار، هذا بالإضافة إلى تأثير الاحتجاجات على عدم انتظام الجنود الاحتياط في تدريباتهم، وبالتالي، التأثير على قدرتهم على الطيران، وهو ما سيستغرق وقتًا طويلاً حتى يستعيد الطيارون حدة الاستعداد للمعركة[27]. ومن شأن هذا التراجع المحتمل في القدرات التشغيلية للجيش الإسرائيلي أن يزيد من التهديدات الأمنية خاصة في ظل البيئة الأمنية المقيدة في محيط تل أبيب على الجبهات المختلفة[28]، وهو ما أكده رئيس الأركان الإسرائيلي هيرزي هاليفي، في حديثه في 19 يوليو 2023، حينما أوضح أن "الجيش الإسرائيلي تأسس على أساس قواته الاحتياطية"، وأن "الدعوات إلى عدم الحضور في خدمة الاحتياط تضر بالجيش الإسرائيلي"[29].
- زيادة الانقسام والاستقطاب داخل صفوف الجيش: تثير أزمة الاحتجاجات الراهنة لجنود الاحتياط، الخلاف داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، نظرًا لتباين اتجاهات التأييد والرفض. وبشكل عام، يُنظر داخل المؤسسة العسكرية إلى جنود الاحتياط على أنهم مشكلة هيكلية بالنسبة للجنود النظاميين، نظرًا لكونهم مدنيين وجنودًا على حد سواء، وبالتالي فإن أعضاء المكونات العسكرية النظامية كانوا يميلون في الماضي إلى معاملة جنود الاحتياط كجنود "من الدرجة الثانية"، بسبب عدم الاحترافية، وسوء التدريب، والافتقار إلى أحدث المعلومات حول الابتكارات التكنولوجية الحالية. وفي مقابل ذلك، لدى جنود الاحتياط ثقافة تنظيمية مختلفة عن النظاميين والمجندين، حيث يتميزون بمزيد من القيم المدنية والعقليات المختلفة[30]، وعلى وجه التحديد ارتبط طيارو القوات الجوية عادةً بأجزاء أكثر ثراءً وعلمانية في المجتمع الإسرائيلي[31]. ومع حدوث الاحتجاجات الراهنة، أُعيد إيقاظ الخطاب الخلافي حول مسألة "المساواة"، ونشأت التوترات عبر الوحدات وداخلها، ويرجع ذلك في جانب كبير منه -وفقًا لبعض التحليلات- إلى نظر العديد من قطاعات ووحدات الجيش إلى احتجاج جنود الاحتياط بأنه يُقاد من قطاعات من الجيش يُنظر إليها على أنها قوية وتهيمن عليها المجموعات ذات الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الإسرائيلي[32].
ونتيجة لذلك، وبالتزامن مع تصاعد اتجاهات الرفض من جانب أعداد كبيرة من جنود الاحتياط في مارس 2023، نشرت صحيفة "يسرائيل هيوم" أحد التقارير بعنوان "مهرجان رفض الخدمة"، والذي رصد اتجاه مضاد لهذه الدعوات بالرفض من داخل الجيش، وعدّد التقرير عدة أمثلة على ذلك، من أبرزها: نشر 150 ضابطًا من كبار ضباط الاحتياط في المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي دعوة عامة ضد حركة رفض الخدمة؛ وترك الجيش الإسرائيلي خارج النقاش السياسي، بالإضافة إلى تبني نفس التوجه من 274 من جنود الاحتياط في الخطوط الأمامية من وحدة النخبة "ماجلان"، و300 من كوماندوز "سايرت ماتكال"، و350 جنديًا من وحدة "دوفديفان".
ووفقًا للتقرير، فقد كتب 50 لواء احتياط وعميدًا في الجيش الإسرائيلي ينتمون إلى منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي (المعروف بالعبرية باسم Habithonistim)، إلى وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس الأركان هاليفي للإشارة إلى رفضهما التام لاحتجاجات رفض الخدمة. وجاء في رسالتهم: "استخدام الجيش الإسرائيلي والمنظمات الأمنية الإسرائيلية الأخرى كأدوات ضغط سياسي على أي حكومة إسرائيلية هو بمثابة جهد انقلاب عسكري صامت، وهذا هو التهديد الحقيقي للديمقراطية الإسرائيلية"، وأضافوا أن "هذا يتجاوز كل الخطوط الحمراء للسلوك المقبول، ويقوض صمود إسرائيل وسلامة الجيش الإسرائيلي كجيش شعب حقيقي". وبحسب التقرير نظم أعضاء منتدى Habithonistim، مسيرة في تل أبيب لدعم الجيش الإسرائيلي، وحمايته من أولئك الذين قد يقومون بتسييسه[33].
أيضًا من بين الوقائع التي حدثت خلال الفترة الماضية وتعكس إذكاء خطاب التمييز والانقسام داخل الجيش الإسرائيلي على أساس سياسي، ما حدث من عقاب سريع للضابط الذي شارك بالزي العسكري وسلاحه في مظاهرة مؤيدة للإصلاح القضائي، وزعمت شخصيات من اليمين المتطرف على وسائل التواصل الاجتماعي أن السبب في عقابه، هو أنه كان من اليمين[34]. وبالتالي تشير هذه الحوادث والردود عليها حالة الانقسام والاستقطاب التي عليها المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة العسكرية، وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في 25 مارس 2023، أثناء حديثه عن الأزمة، حيث أعرب عن "قلقه العميق من أن الجدل السياسي الساخن يتغلغل في صفوف الجيش الإسرائيلي"[35]. وكذلك رئيس الأركان هرتسي هاليفي، الذي أوضح أن الخطاب العام حول الإصلاح القضائي "يضر ويقسم" الجيش، وذلك بحسب التقرير الذي نشرته صحيفة يسرائيل هيوم، ووصفته بأنه نقلاً عن حديث رئيس الأركان خلف الأبواب المغلقة[36].
التداعيات السياسية والاجتماعية للأزمة
تتسع تداعيات الأزمة الراهنة بحيث لا تشمل فقط المستوى العسكري والأمني، وإنما تمتد لتشمل المستوى السياسي والاجتماعي، خاصة إذا ما تفاقمت الأزمة خلال الفترة القادمة على إثر تمرير الكنيست تشريع "معيار المعقولية"، والتزم الجنود الاحتياط بتنيفذ تهديداتهم برفض الخدمة، واتسع الاحتجاج ليصبح عصيانًا عامًا. وفي ضوء معطيات المشهد الراهن، فإن التداعيات السياسية والاجتماعية المحتملة يمكن أن تتضمن الآتي:
1- تراجع شرعية الائتلاف الحكومي
ارتكزت قضية احتجاج الجنود الاحتياط ورفضهم للخدمة بالأساس على شرعية الائتلاف الحكومي، الذي ارتأوا أنه يعاني من فقد الشرعية نتيجة إقدامه على خطة الاصلاحات القضائية لاعتبارات سياسية خاصة برئيس الوزراء الإسرائيلي وشركاءه في الائتلاف من الاحزاب المتطرفة، وهو ما يؤدي بالنسبة لهم إلى فقدان الطابع الديمقراطي للدولة ويقوض شرعية النظام. وقد عبّر عن ذلك بشكل واضح عدد من المحتجين. على سبيل المثال، نُقل عن أحد المتظاهرين من الاحتياط قوله: "نحن لا نرفض أي أمر؛ نحن نشير إلى أننا لن نخدم نظامًا ديكتاتوريًا. يحاول شخص ما تغيير العقد الأساسي الذي جندنا بموجبه وكنا على استعداد للمخاطرة بحياتنا". بينما أوضح متظاهر آخر أن "الإصلاح القضائي يعني انتهاك العقد مع الدولة، وأنا كجندي احتياطي، هذه هي النقطة الدقيقة التي سينتهي فيها عقدي كمواطن يتطوع لخدمة الحكومة، وليس رئيس الحكومة"[37].
وعلى وقع إقرار قانون "معيار المعقولية"، اتسعت رقعة المحتجين لتشمل قطاعات جديدة تستند لنفس الحجة السابقة، من ناحية التشكيك في "صوابية خدمة إسرائيل"، وهو ما عبّر عنه بعض الخبراء النوويين بحسب القناة الإسرائيلية الـ13 التي قدمتهم باعتبارهم الشخصيات التي تحمل على عاتقها "القدرات النووية الإسرائيلية"، والمسئولين عن تطويرها، بحسب حديث دار بينهم، حيث أوضحوا أن قرار الاستقالة "لا زال يدور بين أنفسهم ومع أسلافهم بالمنصب وأيضًا مع رؤساء المجتمع العلمي-العسكري في إسرائيل، وهم حتى الآن لم يطرحوا القضية أمام المسئولين"[38].
هذا فضلاً عن انضمام الرئيس السابق لجهاز الشاباك نداف أرغمان، الذي كان قد عينه من قبل نتنياهو، إلى المحتجين، معقبًا على إقرار الكنيست لقانون الإصلاح القضائي، بقوله: "كان من الممكن أن ينقذ نتنياهو ائتلافه اليوم، لكنه خسر شعب إسرائيل"[39]. ووفقًا لأحدث استطلاعات الرأي التي نشرها معهد الديمقراطية الإسرائيلي IDI)) لشهر يوليو 2023، فقد قال 56% من المستطلعين أن أداء نتنياهو لقيادة الحكومة التي يرأسها ضعيف جدًا[40]. بينما حظى نتنياهو على نسبة تأييد بلغت 38% من المشاركين في استطلاع قناة "إن 12"، الذي أظهر أيضًا أن أغلبية الإسرائيليين يريدون إما التخلي عن خطة التعديلات القضائية بالكامل أو التفاوض عليها مع المعارضة[41].
تعكس هذه المعطيات حالة التأزم التي يعيشها الائتلاف الحكومي، والتي تهدد شرعية بقاءه إذا ما انفجرت الأوضاع واتسعت رقعة الاحتجاج لتشل حركة الدولة.
2- تصاعد حدة الاستقطاب والانقسام المجتمعي
عززت سياسات الائتلاف الحكومي اليمينية المتطرفة منذ قدومه حالة الاستقطاب والانقسام في المجتمع الإسرائيلي، إلا أن الأزمة الراهنة قد فاقمت من حدة الانقسام المجتمعي، نظرًا لعملية الحشد التي تقوم بها الأحزاب اليمينية بين أنصارها اليمينيين في مواجهة المعارضين، من خلال تنظيم مظاهرات تأييد لخطة الإصلاحات القضائية، خاصة في ظل اتساع رقعة الاحتجاجات الرافضة. ووفقًا لمؤشر الصوت الإسرائيلي لشهر فبراير 2023، الذي يصدر من قبل معهد الديمقراطية الإسرائيلي (IDI)، فقد أشار 42.5٪ من المستطلعين إلى أن التوتر الأقوى في المجتمع الإسرائيلي هو بين اليسار واليمين، ويعكس هذا الرقم زيادة حادة عن شهر أكتوبر 2022، الذي بلغت نسبته 34٪، وهو أعلى أيضًا من المتوسط متعدد السنوات البالغ 27.7٪ على مدى العقد الماضي[42]. وحول تأثير قضية الاصلاحات القضائية على حالة الاستقطاب المجتمعي، فقد أظهرت نتائج استطلاع مؤشر الصوت الإسرائيلي لشهر أبريل 2023، أن أكثر من ثلث المستجيبين (35.5٪) عانوا شخصيًا من حالة خلافات شديدة في الرأي مع المقربين منهم في الأسرة أو في العمل حول التغييرات التشريعية التي تطرحها الحكومة والاحتجاجات ضدهم. وقد شملت النتائج جميع المعسكرات السياسية الثلاثة لليهود، حيث أفاد 42٪ من اليمينيين بأنهم كانوا في هذا الوضع، بينما جاءت النسبة 38٪ في الوسط و36٪ في اليسار[43].
3- تصاعد الاحتجاج والعنف المجتمعي
ارتباطًا بتصاعد حالة الاستقطاب والانقسام المجتمعي على النحو المشار إليه سلفًا، فقد تصاعدت الاحتجاجات واتسعت رقعتها خلال الشهور الماضية، والمرشحة للتزايد خلال الفترة القادمة، خاصة مع تمرير الكنيست لتشريع الإصلاح القضائي، وانسداد أفق الحوار حول التوافق الذي أطلقه رئيس الوزراء نتنياهو في شهر مارس الماضي مع المعارضة، ووفقًا لأحدث استطلاعات الرأي التي أصدرها معهد الديمقراطية الإسرائيلي (IDI)، في 17 يوليو 2023، فقد ارتفعت نسب المشاركة في الاحتجاجات بين المستطلع آرائهم من 13% في نهاية يناير إلى 23% في نهاية يوليو الجاري، كما كشفت النتائج عن زيادة كبيرة في المستطلعين الذين عرّفوا أنفسهم بأنهم يساريون، وزيادة معتدلة بين الوسطيين، وزيادة طفيفة جدًا عن اليمين[44].
ومع تزايد الموجات الاحتجاجية واتساع رقعتها، يتصاعد الحديث في الوقت الراهن عن احتمالات النزوع نحو العنف ونشوب "حرب أهلية"، وكان الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، أول من نبه إلى ذلك في خطابه في 15 مارس 2023، حيث أشار إلى أن من يظن أن "الحرب الأهلية هي حدّ لن نصل إليه، فهو لا يفهم"[45]، وهو ما أكده أيضًا الرئيس السابق لجهاز الشاباك نداف أرغمان، في 20 يوليو 2023، حيث قال إن الإصلاح القضائي يمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية، قائلا: "إنني قلق للغاية لأننا في بداية حرب أهلية"[46]. وهنا تجدر الإشارة أيضًا إلى تصاعد اتجاهات الرأي العام المرجحة لحدوث هذا الاحتمال، فوفقًا لاستطلاع الرأي الصادر عن معهد الديمقراطية الإسرائيلي (IDI) في 17 يوليو 2023، ارتفعت نسبة المستجيبين الذين يعتقدون أن هناك احتمالًا قويًا لوقوع حرب أهلية من 31% نهاية شهر يناير 2023 إلى 45% في شهر يوليو الجاري[47] (انظر شكل رقم 1). هذا بالإضافة إلى انخفاض نسبة التفاؤل بين المستطلعين بشأن مستقبل الأمن الإسرائيلي، حيث بلغت 31% لشهر يونيو 2023 في مقابل 43٪ في شهر مايو[48].
شكل رقم (1)
اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي خلال الفترة (يناير- يوليو) ٢٠٢٣ حول احتمال نشوب "حرب أهلية"
Source: The Israel Democracy Institute, July 2023. Retrieved From: https://en.idi.org.il/articles/50272
4- أزمة دستورية محتملة
يلوح في الأفق، خاصة بعد إقرار الكنيست الإسرائيلي قانون "معيار المعقولية"، أزمة دستورية محتملة، حيث أعلنت المحكمة العليا الإسرائيلية، أنها ستنظر في دعاوى استئناف ضد القانون الذي أقره الكنيست ويحد من صلاحياتها، وأضافت المحكمة "إنها ستناقش القانون في سبتمبر لكنها لن تصدر أمرًا بعرقلته قبل ذلك الحين"[49]. وإذا ما أقدمت المحكمة التي بموجب القانون تمتلك صلاحية اعتبار القوانين التي يقرها الكنيست غير دستورية، على الحكم بعدم دستورية القانون الذي أقره الكنيست، فقد يجعلها هذا في مواجهة الائتلاف الحكومي الذي قد يستعين بالقانون الجديد، ويعتبر قرار المحكمة غير ذي صلة. وفي هذا الصدد، أوضح وزير الشئون الاستراتيجية رون ديرمر، في تصريحات لقناة سي إن إن الأمريكية، في أعقاب إعلان المحكمة، بأن "الحكومة ستطيع دائمًا وتلتزم بسيادة القانون في إسرائيل"، مضيفًا: "لأن لدينا في إسرائيل سيادة القانون. ما ليس لدينا هو حكم القضاة"[50]. وبالتالي، من شأن هذه الأزمة التي ستكون الأولى في تاريخ إسرائيل، إذا ما حدثت، أن تؤدي إلى تداعيات وخيمة على مسارات تصعيد المشهد وتأجيج الاحتجاجات الشعبية، التي من المحتمل أن تنضم إليها مؤسسات في الدولة.
ختامًا، تعكس معطيات المشهد الراهن انزلاق الأوضاع إلى منحدر خطر يُنذر باقتياد إسرائيل إلى حرب أهلية، خاصة إذا ما فشلت مناورة نتنياهو الحالية لكسب الوقت من خلال عرضه، في خطابه الذي ألقاه في أعقاب إقرار الكنيست لقانون الإصلاح القضائي، العودة إلى المفاوضات مع المعارضة بشأن أي تغييرات قضائية أخرى حتى أواخر نوفمبر[51]. ويُضعف من احتمال نجاح هذه الدعوة، فقدان المعارضة الثقة في نتنياهو، على وقع فشل جولة الحوار التي أجرتها معه في مارس الماضي، واتجاهه بعد ذلك لإقرار خطته. ومن ثم، فالوضع مرشح أن يستمر في تصعيده الاحتجاجي، وقد ينزلق إلى ما هو أسوأ إذا ما أقدمت المحكمة العليا في سبتمبر القادم على الحكم بعدم دستورية قانون "معيار المعقولية" الذي أقره الكنيست، حيث سيتحول الوضع إلى صدام مباشر ما بين الائتلاف الحكومي ومؤيديه والمحكمة العليا ومؤيديها من المحتجين.
أيضًا، تجدر الإشارة إلى أن آثار الأزمة الراهنة لاحتجاج جنود الاحتياط التي انعكست على طبيعة العلاقات المدنية–العسكرية في إسرائيل، ستستمر لفترة طويلة، وقد تقود إلى واقع جديد لطبيعة استقلال الحكم الذاتي العسكري، وانخراط متزايد للمؤسسة العسكرية في السياسة بشكل سيتعزز معه الانقسام الحالي الذي فرضته الأزمة الراهنة داخل الجيش الإسرائيلي.
[4] Review of The Armed Nation: The Rise and Fall of Israel’s Reserve Forces Phenomenon, Ibid.
[5] Perliger, Arie. “The Changing Nature of the Israeli Reserve Forces: Present Crises and Future Challenges”, Armed Forces & Society, vol. 37, no. 2, JSTOR, 2011, pp. 216–38. Accessed Date: July 23, 2023. Retrieved From: https://www.jstor.org/stable/48608992
[8] The Changing Nature of the Israeli Reserve Forces: Present Crises and Future Challenges, Ibid.
[10] The Changing Nature of the Israeli Reserve Forces: Present Crises and Future Challenges, Ibid.
[11] FEAVER, PETER D. “The Civil-Military Problematique: Huntington, Janowitz, and the Question of Civilian Control”, Armed Forces & Society, vol. 23, no. 2, 1996, pp. 149–78. JSTOR, Accessed Date: July 23, 2023. Retrieved From: http://www.jstor.org/stable/45347059
[12] Aurel Croissant, David Kuehn, Paul Chambers & Siegfried O. Wolf (2010) Beyond the fallacy of coup-ism: conceptualizing civilian control of the military in emerging democracies, Democratization, Taylor& Francis online, 17:5, 950-975. Accessed Date: July 23, 2023. Retrieved From:
https://doi.org/10.1080/13510347.2010.501180
[13] Rein-Sapir, Y., & Ben-Ari, E. (2021). The Israel Reserve Law: The Duality of Reservists and Transformed Military Autonomy, Armed Forces & Society, 47(4), 710–731, Accessed Date: July 23, 2023. Retrieved From: https://doi.org/10.1177/0095327X20918391
[21] A Sea Change and a Slippery Slope: When the Military Becomes a Political Actor, Ibid.
[26] The Reservists' Protest: Ramifications for the IDF, Ibid.
[30] The Israel Reserve Law: The Duality of Reservists and Transformed Military Autonomy, Ibid.
[31] Over 1,000 Air Reservists Threaten to Stop Serving, as Israel’s Political Crisis Grows, Ibid.
[32] Idit Shafran Gittleman and Anat Shapira, The Protest by Reservists: Not Refusal, But Rather a Demand that the State Fulfill its Role in the Contract, The Institute for National Security Studies (INSS), May 1, 2023. Accessed Date: July 25, 2023. Retrieved From:
https://www.inss.org.il/publication/reserve-protest/
[34] The Reservists' Protest: Ramifications for the IDF, Ibid.
[35] Israel’s military reservists are joining protests – potentially transforming a political crisis into a security crisis, Ibid.
[37] The Protest by Reservists: Not Refusal, But Rather a Demand that the State Fulfill its Role in the Contract, Ibid.
[40] Tamar Hermann, Or Anabi, Six Months In, Government Gets Low Grades in All Areas, The Israel Democracy Institute, July 2, 2023. Accessed Date: July 24, 2023. Retrieved From: https://en.idi.org.il/articles/50063
[44] Tamar Hermann, Or Anabi, Flash Survey: Most Israelis Assess that the Protest Movement Has Delayed Progression of the Judicial Overhaul, The Israel Democracy Institute, July 17, 2023. Retrieved From: https://en.idi.org.il/articles/50272
[47] Flash Survey: Most Israelis Assess that the Protest Movement Has Delayed Progression of the Judicial Overhaul, Ibid.
[48] Six Months In, Government Gets Low Grades in All Areas, Ibid.