قام وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بزيارة الصين، في 19 يوليو الجاري (2023)، حيث استقبل من قبل كل من الرئيس الصيني شي جينبينج، ووانج يي مدير مكتب لجنة الشئون الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وزير خارجية الصين السابق، ووزير الدفاع لي شانج فو. الأسماء الثلاثة بمناصبها الثلاث كفيلة بأن تبين مدى التقدير الصيني للضيف الزائر، خاصة وأن نظير الأخير الأمريكي لويد أوستن قد ألح كثيراً على أهمية اللقاء به لكن ذلك لم يحدث. إذن فهي رسائل توجهها بكين لواشنطن عبر هذه اللقاءت مع كيسنجر. وهذه الرسائل ليست سرية ولا خافية، فقد سبق للصين أن أعلنتها في أكثر من مناسبة.
تأتي زيارة كيسنجر لبكين في توقيت معقد على صعيد العلاقات الصينية-الأمريكية، والتي لم تعد التفاعلات فيها قاصرة على ما هو ثنائي فقط، ولا ما هو إقليمي وحده، وإنما باتت كل القضايا العالمية تقريباً ضمن تفاعلات هذه العلاقات وعلى كل المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية والتقنية أيضاً. قضايا تبدأ من الداخل الصيني في سينكيانج وهونج كونج وتايوان مروراً ببحري الصين الجنوبي والشرقي، نزولاً إلى جنوبي المحيط الهادئ صعوداً إلى روسيا والناتو وما يجري في أوكرانيا تمدداً إلى القارة الأفريقية وإلى التخوم الأمريكية في أمريكا الوسطى والكاريبي وأمريكا الجنوبية، مع بروز مسميات من قبيل منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مقابل آسيا والمحيط الهادئ، والنظام الدولي القائم على القواعد في مقابل عقلية الحرب الباردة، وغيرها الكثير من الثنائيات التي باتت تحكم ما يدور بين الجانبين الصيني والأمريكي.
في هكذا سياق، ما الذي يمكن أن تقدمه زيارة كيسنجر صاحبة المائة عام والأكثر من مائة زيارة إلى بكين كما وصفت المصادر الصينية الرفيعة إلى تلك العلاقات المتوترة؟، وهل جاء كيسنجر بمبادرة شخصية منه أم أنه دفع إلى تلك الزيارة من قبل إدارة الرئيس جو بايدن أم أنه دعي من قبل الطرف الصيني؟.
ماذا بعد الحفاوة الصينية؟
لا تخرج زيارة كيسنجر عن تلك الاحتمالات الثلاث وهي أن يكون الرجل قد بادر من نفسه للقيام بهذه الزيارة، ومن ثم تواصل مع الإدارة الأمريكية وكذلك مع أصدقائه الصينيين، ومن ثم تم الترتيب لتلك الزيارة على هذا النحو الذي خرجت به. والاحتمال الثاني أن تكون الإدارة الأمريكية هي التي أوعزت له القيام بتلك الزيارة، ومن ثم تم الترتيب للأمر من جانب كيسنجر مع الصينيين. والاحتمال الثالث أن تكون الصين هي من وجهت الدعوة لكيسنجر لزيارتها، ومن ثم لاقت الدعوة قبولاً ليس من كيسنجر وحده وإنما من قبل إدارة بايدن أيضاً، والتي أعلنت أنها محاطة علماً بالزيارة. ومن الطبيعي أن رجلاً في مكانة كيسنجر في النظام السياسي الأمريكي وليس في الحكومة الأمريكية لا يمكن تصور قيامه بمثل هذه الزيارة دون أن يكون للإدارة علم بها، حتى ولو كانت على غير هواها، فما بالك وأن الأرجح هو ترحيب إدارة بايدن بها، ما لم تكن هي المحرضة عليها، لعل الرجل يفلح بدبلوماسيته غير الرسمية فيما فشلت فيه الدبلوماسية الرسمية الأمريكية. فلا يخفى أن الولايات المتحدة منزعجة كثيراً من الموقف الصيني المتعلق بوقف الاتصالات بين كبار القادة العسكريين رغم كل مناشداتها على هذا الصعيد. وها هو كيسنجر قد التقى وزير الدفاع الصيني، ولربما تصبح تلك مقدمة للقاء وزيري دفاع البلدين، ولو بعد حين، بعد أن تكون واشنطن قد استمعت إلى الإصرار الصيني على لسان كيسنجر لتلبية الحد الأدني من المطالب الصينية لكي يحدث مثل هذا اللقاء. ليس فقط لقاء وزيري دفاع البلدين ما تريده واشنطن بل إنها تسعى للقاء على المستوى الرئاسي. ومثل هذا اللقاء ربما تكون فرص تحققه تراجعت خاصة بعد التصريحات المباشرة من قبل الرئيس بايدن في حق الرئيس شي عندما تحدث الأول مباشرة عن القيادة الدكتاتورية قاصداً الثاني. والغريب أن هذه التصريحات قد جاءت عقب أيام من زيارة أنتوني بلينكن لبكين، وهي الزيارة التي كانت قد تأجلت من قبل على خلفية التوترات المتلاحقة في العلاقات، والتي بات عنوانها الأبرز تايوان.
ويصبح السؤال: هل يمكن التعويل على كيسنجر في كل هذه الملفات؟. كيسنجر ليس فقط صديق الصين القديم، وإنما هو صاحب رؤية استراتيجية لواقع ومستقبل النظام الدولي، وفي القلب منه العلاقات بين بلاده والصين. هذا الطرح ينطلق من المصلحة الوطنية الأمريكية تماماً كما تنطلق إدارة بايدن، وكل الإدارات الأمريكية، لكنه لا يتماهي مع ما هو مطروح على المستوى الرسمي حيال الصين. فنظرة الرجل تعايشية أكثر منها تصادمية. وهو يدرك تماماً أن هناك قضايا لا تحتمل المساومة وعلى رأسها قضية تايوان. إدراك الرجل نابع من خبرته التفاوضية مع الجانب الصيني في سبعينيات القرن الماضي. وقد كان لافتاً إشارة كيسنجر تحديداً إلى بيان شنغهاي الصادر في العام 1972، وضرورة احترام المباديء التي تضمنها، مع تأكيد خاص من كيسنجر على احترام مبدأ الصين الواحدة. ويعتبر بيان شنغهاي هو البيان الأول ضمن ثلاث بيانات تصر الصين على أنها تمثل الأساس الحاكم لعلاقاتها مع الولايات المتحدة. فلا غرو إذن أن يؤكد كيسنجر من بكين على أهمية مبدأ الصين الواحدة، ومن ثم يأمل في أن تنتقل العلاقات بين الجانبين إلى المسار الإيجابي. وهو هنا لا يبتعد كثيراً عن جوهر الموقف الصيني الذي مفاده أن قضية تايوان ليست قضية عادية وإنما هي جوهرية فضلاً عن أنها أهم الخطوط الحمر في العلاقات بين البلدين، بما يعنيه ذلك من أن تجاوز هذا الخط أو التلاعب به من شأنه أن يجلب الضرر للعلاقات. واضح أن كلمات كيسنجر تلتقي مع ما دأبت بكين على المطالبة به من ضرورة عودة العلاقات مع واشنطن إلى مسار النمو المستقر. لكن كيف لذلك أن يحدث في ظل هذا الخضم الواسع والمتزايد من الخلافات؟، وهل تكفي زيارة كيسنجر ليقال إن الأمور ستتطور إلى الأمام؟.
هل تستجيب واشنطن؟
لا تكفي مقولات كيسنجر بطبيعة الحال، سواء تلك التي قالها في بكين، أو تلك التي يضمنها في كتبه وأحاديثه. فلابد من التذكير هنا بأن كيسنجر ليس مجرد وزير خارجية ومستشار للأمن القومي الأمريكي سابقاً، وإنما هو قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك عالم سياسة ومنظر مرموق في العلاقات الدولية في واحدة من أرقى الجامعات الأمريكية والعالمية إن لم تكن أرقاها على الإطلاق وهي جامعة هارفارد. هذه المقولات لا تكفي وحدها للدفع بتلك العلاقات، لا سيما وأن هناك مقولات أخرى تتوالى على ألسنة مسئولين أمريكيين، وكذلك علماء سياسة ومنظرين من العيار الثقيل، بل وقد يكون بعضهم منطلقاً من نفس المنطلقات النظرية لهنري كيسنجر لكنهم يخلصون إلى نتائج أكثر تشككاً في السلوك الصيني المستقبلي، ومنهم على سبيل المثال جون ميرشايمر.
ليست مقولات هنري كيسنجر وحدها غير الكافية لكي تسير عجلة العلاقات الصينية-الأمريكية بالاتجاه المستقر، وإنما كذلك جهوده التي وعد بمواصلتها لتسهيل التفاهم بين الجانبين هي الأخرى غير كافية. فأقصى ما يمكن التعويل عليه بالنسبة لما يقوم به كيسنجر هو تسهيل حدوث بعض التهدئة في بعض الملفات، وهذه التهدئة على الأغلب ستكون مؤقتة، وربما أدت إلى بعض النقاط المضيئة في العلاقات كلقاء هنا أو هناك. لكن أن يحدث تغير استراتيجي في النهج الأمريكي تعويلاً على نصائح ورسائل هنري كيسنجر فهذا أمر دونه أولاً الإدراك الاستراتيجي الأمريكي الرسمي، والذي تترجمه وثائق الأمن القومي، والتي تصنف الصين على رأس مصادر التهديد، ومن ثم ثانياً التصرفات الأمريكية على الأرض من أجل التعامل مع مصدر التهديد الأعلى والأخطر هذا.
ومرة أخرى ليس مجرد لقاء هذا المسئول من هذا الطرف بنظيره من الطرف الآخر، وليس مجرد تحليق لطائرات هذا الطرف بالقرب من أجواء الطرف الآخر، ومن ثم اعتراض طائرات الطرف الثاني لها، كما أنه ليس مجرد بالون يطلق هنا أو هناك، ولا حتى زيارة لمسئول أمريكي كبير لتايوان، ولا استقبال لرئيسة تايوان من المسئول الأمريكي التشريعي الأعلى، وغير ذلك من التفاعلات التي تجري على الأرض وما يرافقها من تصريحات، وإنما ذلك كله يندرج في سياق التنافس الاستراتيجي الواضح بين الجانبين. فهناك فاعل دولي يخشى على مكانته من الاهتزاز والتراجع وهو يرى فاعلاً آخر تزداد مكانته التي تكاد أن تطاول موقعه ومن ثم قد تتجاوزه. وفي هذا السياق يمكن إدراج المنظومة العامة للعلاقات الصينية-الأمريكية.
ربما يكون الوقوف على الدلالات الاستراتيجية للأوصاف المستخدمة لوصف المنطقة المحيطة بالصين فيه تبيان لهذه المنظومة في هذا السياق الجغرافي. فبعدما استقرت الأمور لعقود على مصطلح آسيا والمحيط الهادي، والذي جرت في إطاره تفاعلات تعاونية كثيرة، جنباً إلى جنب مع ما شهده من صراعات، وبعد نهاية الحرب الباردة أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ظهرت توجهات انعكست في مبادرات كان من بينها منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (أبيك)، والذي جمع كلاً من الصين والولايات المتحدة إلى جانب أطراف أخرى كثيرة. ثم جاءت مبادرة الشراكة عبر المحيط الهادي، التي تبنتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والتي لم تكن الصين طرفاً فيها، ثم جاءت إدارة ترامب وانسحبت من الاتفاقية، وفي نفس الوقت دخلت في حرب تجارية مع الصين.
وقد توازى مع هذه التطورات الحديث الأمريكي عن الانعطاف نحو آسيا، ثم بدأ يظهر مصطلح المحيطين الهندي والهادي، والذي صيغ لاحقاً في استراتيجية واضحة المعالم. توازى مع هذا التحول الأمريكي تحولات لدى بعض من دول المنطقة ومن خارجها أيضاً، وخاصة اليابان واستراليا وكندا والمملكة المتحدة. ويلاحظ هنا أن هذه الدول إما أنها أعضاء في حلف الناتو أو تجمعها بالولايات المتحدة علاقات تحالفية قديمة، أو أنها بصدد تكوين تحالفات أو شراكات أو حوارات أمنية بصيغ مستحدثة.
في هذا الإطار، استخدمت الصين عدداً من المسميات الفرعية لوصف السياسة الأمريكية، ومن بينها:
1- عقلية الحرب الباردة: دأبت الصين على استخدام هذا المسمى لوصف التحركات الأمريكية التي تستهدف تشكيل تحالفات وشراكات وحوارات أمنية في المنطقة، معتبرة أن التصرف طبقاً لهذه العقلية من شأنه أن يجلب المواجهات والتوترات، ومن ثم يؤثر بالسلب على التعاون والاستقرار والسلام في المنطقة وفي العالم، حيث لا يتم إيلاء الاهتمام بمصالح وشواغل الدول الأخرى، وفي نفس الوقت إلقاء اللوم عليها في حال سعت للمحافظة على أمنها ومصالحها. وهذه العقلية من وجهة النظر الصينية هي التي تقود إلى السياسات التي تستهدف تكوين تحالفات في قضايا غير عسكرية مثل تلك المرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة وأشباه الموصلات.
2- صب الزيت على النار: هذا المصطلح استخدمته الصين كثيراً لوصف السياسة الأمريكية ليس فقط في المحيط الآسيوي، وإنما في شتى أرجاء العالم. وكان الاستخدام الأبرز لوصف ما قامت به واشنطن وحلف الناتو حيال روسيا، ومن ثم كان اندلاع الحرب في أوكرانيا، وأن الحلف قد استمر في تأجيج الأمور عبر تقديم السلاح بكثافة، وفي نفس الوقت يلقي بالاتهامات على الصين ودول أخرى بأنها تزود روسيا بالسلاح. وفي المنطقة اتهمت واشنطن بأنها من يثير التوترات فيما يتعلق بتايوان عبر ما تقوم به من تفريغ لسياسة الصين الواحدة من مضمونها، ممثلة في تصريحات كبار المسئولين الأمريكيين المراوغة، والزيارات التي يقومون بها إلى تايوان، وكذلك استقبال رئيسة تايوان على الأراضي الأمريكية، فضلاً عن تزويدها بالسلاح. ومن ثم فإن الصين تذهب إلى أن واشنطن هي من تحول المنطقة إلى برميل بارود. وينسحب ذلك أيضاً إلى ما تقوم به واشنطن وحلفائها في بحري الصين الجنوبي والشرقي.
3- التدخل في الشئون الداخلية: بكين تعتبر أن ما تقوم به واشنطن وحلفائها بمثابة تدخل في شئونها الداخلية باعتبار أن تايوان جزء لا يتجزأ منها. ولا يقف أمر التدخل في الشئون الداخلية عند ذلك الحد، وإنما يتعداه إلى قضايا حقوق الإنسان، والتي تشمل الحريات الدينية، وحرية التعبير، وحقوق الأقليات. ومحور التركيز الأمريكي والغربي عموماً ينصب على ما يحدث في هونج كونج وسينكيانج.
4- التصنيفات الأيديولوجية: ترى الصين أن الولايات المتحدة قد عادت إلى صبغ تحركاتها بالصبغة الأيديولوجية تحت لافتة الديمقراطية، حيث تقدم تصنيفاً لدول العالم. وتقول إنها والمتحالفين معها يتصدون للنظم الاستبدادية. وقد تجلى ذلك في قمة الديمقراطية التي عقدتها إدارة الرئيس بايدن لعامين متتالين. وتذهب الصين إلى رفض مثل هذه التصنيفات، واعتبار الديمقراطية ليست حكراً على دولة دون أخرى، وأن للديمقراطية صيغاً مختلفة، وأن النمط الأمريكي مليء بالعورات، وأنه لا يمكن لواشنطن أن تقوم بدور محامي الديمقراطية بينما سجلها وافر على صعيد الانتهاكات التي دأبت على توجيه الاتهامات بشأنها لدول أخرى.
بطبيعة الحال، فإن لدى واشنطن مسميات لا تروق لبكين أيضاً من قبيل: فخ الديون، والنظام الدولي القائم على القواعد، والتنمر والدبلوماسية القسرية. وكما أن واشنطن تتصدى لما تطرحه بكين، فإن الأخيرة تفند ما تطرحه واشنطن. لكن ليس الموضع هنا لبسط النقاش حول ذلك الجدل، بقدر ما هو تبيان مدى تعقد الأمور وصعوبة التعويل على زيارة لمسئول أمريكي سابق يحظى بتقدير صيني فائق. ومع ذلك، لا يمكن التقليل من أهمية تلك الزيارة، وقد يحتاج الأمر لبعض الوقت لمعرفة كيف تتصرف الإدارة الأمريكية في الفترة القادمة على ضوء ما سينقله إليها كيسنجر.
الإدارة الأمريكية الحالية وفي الظرف الراهن ستكون محكومة بعوامل رئيسية في تحركها تجاه الصين، من بينها ما تراه من تقارب صيني روسي يتزايد ويتكثف. وهذا اتجاه لا يراه الكثير من الساسة والمحللين الأمريكيين يصب في صالح واشنطن. ولا يجب إغفال أنه بينما كان كيسنجر في بكين كانت الحلقة الأحدث من المناورات العسكرية بين البحرية الصينية ونظيرتها الروسية تتم. والعامل الثاني المهم يتمثل في اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، وهذا العامل كسابقه معقد، فإذا نحت إدارة بايدن إلى مهادنة بكين بعدما رفعت سقف التحدي ربما اتهمت من قبل الجمهوريين بالتراخي والنكوص عما أعلنته، وهنا فإن ترامب وحلفائه جاهزون بخطابهم المعروف حيال الصين، وسيُذكِّرون ولا شك بسياساته الخاصة بالعلاقات التجارية تحديداً. وإذا ما رفعت السقف أكثر ووصلت الأمور إلى حدوث أزمة ساخنة في العلاقات، فإن أثر ذلك قد لا يكون إيجابياً على طول الخط.
وفي الختام، إذا كان كسينجر قد تحدث في بكين عن إدارات أمريكية متعاقبة وقيادات سياسية متوالية منذ بدأت الحياة تدب في العلاقات الصينية-الأمريكية، فإنه يدرك أيضاً أن المنحنى آخذ بالصعود نحو التوتر والخلاف. إذ أن الأمر لا يرتبط فقط بإدارة الرئيس بايدن، وعلى الجانب الآخر الأمر لا يتعلق فقط بإدارة الرئيس شي جينبينج. فهنا رؤية، وهناك رؤية. هنا استراتيجية، وهناك استراتيجية. هنا مستقبل يخطط له بعناية وتبدو أهدافه وملامحه واضحة، وهناك مستقبل يخشى عليه.
إن ما يقوم به كسينجر ليس بالجديد على السياسة الأمريكية، حيث كان هناك مثال بارز آخر يتمثل في الرئيس الأسبق جيمي كارتر، والذي ربما كان أنشط من هنري كيسنجر قبل أن يضطره المرض إلى لزوم البيت. وقد كان له دور مهم على صعيد العلاقات بين بلاده وكوريا الشمالية زمن إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، قبل أن تتعقد الأمور لاحقاً مع مجئ إدارة الرئيس جورج بوش الإبن بنهج مغاير.
مسألة ثانية تثيرها زيارة كيسنجر الأخيرة إلى الصين حول ما يمكن أن يقوم به كبار المسئولين السابقين من أدوار في السياسة الخارجية لبلادهم. وهنا يثار التساؤل: لماذا يختص بهذه الميزة أشخاص دون غيرهم، هل هي صفات شخصية فقط؟، هل الخلفيات الأكاديمية تلعب دوراً في هذا السياق؟
والمسألة الثالثة الجديرة بالطرح هنا ترتبط بالخلفية الأكاديمية لصناع السياسة الخارجية الأمريكية، فإذا كان كيسنجر كما سبقت الإشارة إلى مكانته العلمية، فإنه ليس وحده في السياق الأمريكي، وهنا تكفي الإشارة إلى حالتي زبجينيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي للرئيس كارتر، حيث كان أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة جون هوبكنز. كما أن كوندوليزا رايس هي الأخرى كانت متخصصة في العلوم السياسية وهي التي جمعت بين منصبي مستشار الأمن القومي ووزيرة الخارجية مثل هنري كيسنجر.