منظور متكامل: قراءة في الاستراتيجية الأولى للأمن القومي الألماني
2023-6-19

عبد المجيد أبو العلا
* باحث في العلوم السياسية

 

قدّم المستشار الألماني أولاف شولتس في مؤتمر صحفي عقده بالعاصمة الألمانية، برلين، في 14 يونيو 2023، رفقة وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، ووزير الدفاع بوريس بيستوريوس، ووزيرة الداخلية نانسي فيزر، ووزير المالية كريستيان ليندنر، استراتيجية الأمن القومي الألمانية، بعد أن اعتمدها مجلس الوزراء في اجتماعه الذي انعقد في نفس اليوم.

وقد جرى إعداد هذه الاستراتيجية تحت رعاية وزارة الخارجية، ولفت المستشار الألماني إلى أن وزيرة الخارجية وفريقها أنجزا نصيب الأسد من العمل على إعداد الاستراتيجية. وجاء الإعلان عن استراتيجية الأمن القومي بعد مضي أكثر من عام على تقديم وزيرة الخارجية رؤيتها لأسس الاستراتيجية وعناصرها الرئيسية، خلال الفعالية الافتتاحية بشأن تطوير استراتيجية الأمن القومي، في مارس 2022. وبعد عام ونصف تقريبًا على توقيع اتفاقية الائتلاف الحكومي، وتشكيل الحكومة الألمانية الجديدة التي وضعت نُصب أعينها تصميم هذه الاستراتيجية، فيما كان من المفترض أن تصدر حكومة شولتس استراتيجية الأمن القومي خلال عامها الأول. واعتبر المستشار الألماني أن المهمة الأساسية لاستراتيجية حكومته هي ضمان استمرار العيش في سلام وحرية وأمن.

أهمية خاصة

لا تكتسب استراتيجية الأمن القومي الألمانية التي أعلن عنها المستشار الألماني أولاف شولتس أهميتها فقط من كونها استراتيجية الأمن القومي الحاكمة للتوجهات الدفاعية والأمنية والسياسة الخارجية للبلاد، ولا ما تضمنته من مبادئ توجيهية، أو الكشف عن رؤية الحكومة الألمانية للتحديات المحلية والإقليمية والعالمية وللنظامين الإقليمي الأوروبي والدولي، وغير ذلك من النقاط المهمة التي تتناولها الاستراتيجية، إنما ثمة عامل آخر يضاعف من أهميتها، ويزيد من اعتبارها محطة مهمة بالنسبة لسياسات الأمن القومي الألمانية، باعتبار تلك الاستراتيجية هي أول استراتيجية للأمن القومي في ألمانيا. فضلاً عن السياق السياسي والعسكري المحيط بصدور الاستراتيجية الجديدة، وفي القلب منه الحرب الروسية-الأوكرانية.

ويمثّل إقرار استراتيجية للأمن القومي تطورًا جديدًا ونوعيًا للتخطيط الأمني الاستراتيجي في ألمانيا، بعدما كانت تقوم الحكومة الألمانية كل فترة بتحديد وتجديد المحاور الأساسية لسياستها الدفاعية، من خلال "الكتاب الأبيض" الذي صدر عام 1994 ثم 2006 وأخيرًا 2016، والذي كان أقرب إلى ورقة توجيهية للسياسة الدفاعية الألمانية.

فقد صدر الكتاب الأبيض عام 1994 لوضع سياسات أمنية على أسس جديدة بعد توحيد ألمانيا، وجرى تحديثه عام 2006 بالأخذ في الاعتبار التأثيرات العالمية لهجمات 11 سبتمبر 2001، ثم أخيرًا صدر الكتاب الأبيض حول "السياسة الأمنية الألمانية ومستقبل الجيش الألماني" في عام 2016 لمراعاة التغيرات الأمنية الهامة مثل تداعيات الثورات العربية عام 2011 وتغيرات البيئة الأمنية الناتجة عنها، وبروز تنظيم "داعش" وتحديات الإرهاب الدولي، فضلًا عن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في الوقت الذي كان يصف فيه "الكتاب الأبيض لعام 2006" موسكو بأنها من "الشركاء البارزين" لألمانيا.[1] ولا يتمحور التغيير حول الانتقال من "الكتاب الأبيض" إلى "استراتيجية الأمن القومي"، الأولى من نوعها فقط، إنما أيضًا بالتحول من التركيز العسكري التقليدي إلى مفهوم أمني متكامل.

 وقد شاركت الحكومة الألمانية بكامل أعضائها في إعداد الاستراتيجية الجديدة، مع إجراء مشاورات طويلة بين أعضاء الائتلاف الحاكم في ألمانيا، بالإضافة إلى مساهمة شركاء دوليين لألمانيا، وخبراء في مختلف الجوانب المتعلقة بالأمن، وكذلك مشاركة العديد من المواطنين في وضع استراتيجية الأمن القومي، حيث أُجريت خلال ربيع وصيف عام 2022 العديد من الحوارات الشعبية مع المواطنين في سبع مدن ألمانية، في إطار ما وصفته وزيرة الخارجية الألمانية بأنه "عملية تشاركية" من أجل صياغة الاستراتيجية.[2]

ولعل من المُلاحَظ أن مؤتمر الإعلان عن استراتيجية الأمن القومي شهد تمثيل الأطراف الثلاثة للائتلاف الحاكم، حيث ينتمي كلٌ من المستشار الألماني ووزير الدفاع ووزيرة الداخلية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، وتنتمي وزيرة الخارجية لحزب الخضر، فيما ينتمي وزير المالية للحزب الديمقراطي الحر.

تحولات الحرب الأوكرانية

رغم أن صياغة استراتيجية الأمن القومي لألمانيا كانت أحد الملفات التي يجري العمل عليها منذ تشكيل الائتلاف الحكومي الحالي، وتشكيل الحكومة الألمانية بقيادة المستشار أولاف شولتس أواخر عام 2021، وقُبيل اندلاع الحرب الأوكرانية، باعتبار أن أحزاب الائتلاف الحكومي التزمت في اتفاق تشكيل الائتلاف بوضع مثل هذه الاستراتيجية، إلا أن مضمون هذه الاستراتيجية تأثر بشدة بطبيعة الحال باندلاع الحرب الأوكرانية، والتي سلّطت الضوء على عديد من نقاط الضعف في السياسات الألمانية، ومنها الاعتماد الألماني على الغاز الروسي والحاجة إلى سلاسل إمداد أكثر تنوعًا وأمانًا، وضعف وقلة الاستثمارات  والنفقات الدفاعية الألمانية والحاجة إلى زيادتها.[3]

وبشكلٍ عام، تأثرت الاستراتيجية كغيرها من الوثائق والسياسات الألمانية ما بعد الحرب الأوكرانية بالحرب كمتغير جديد ومحوري وصفه المستشار الألماني في خطاب تسايتينويندي الشهير، في فبراير 2022، بأنه يمثّل "تغيرًا نموذجيًا" أو "نقطة تحول"، وهو الأمر الذي ارتبط بشكل كبير بالسياسات الدفاعية والعمل على تحديث الجيش الألماني والتوجه نحو زيادة الإنفاق العسكري.[4] فقد مثّلت الحرب نقطة تحول أيضًا في آراء الألمان فيما يتعلق بالمسائل العسكرية والقضايا العسكرية وحلف شمال الأطلسي وما يحدث في أوكرانيا، كما يؤكد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، مع الانتباه إلى معاناة الجيش من الإهمال وضعف التمويل والتسليح.[5]

وتظهر انعكاسات الحرب الأوكرانية على استراتيجية الأمن القومي الألمانية في مواضع عديدة منها ما يتعلق بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق ما تعهد به سابقًا المستشار الألماني أولاف شولتس، ووفق أهداف حلف الناتو. على أن يتم تحقيق هذا المعدل بحلول عام 2024 أولًا ثم عبر "متوسط متعدد السنوات"، بالاعتماد في البداية على الصندوق الخاص لدعم قدرات الجيش الألماني الذي تم إنشائه العام الماضي بقيمة 100 مليار يورو، وهو ما يتوافق مع الخطة التي وافق عليها البرلمان الألماني في يونيو 2022.

ويتوازى ذلك مع التعهد بجعل "البوندسفير" أحد أكثر القوات المسلحة التقليدية فعالية في أوروبا في السنوات المقبلة، بحيث يمتلك الجيش الألماني القدرة على الاستجابة والتصرف بسرعة في جميع الأوقات. فضلاً عن اعتبار الاستراتيجية أن روسيا حاليًا تعد التهديد الأكبر والأكثر أهمية للسلام والأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية. واتهامها بمحاولة زعزعة استقرار الديمقراطيات الأوروبية وإضعاف الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن خطوة إعداد استراتيجية للأمن القومي ترتبط بتأثيرات الحرب الأوكرانية على سياسة برلين، وقناعة الحكومة الألمانية بأن سياسة المنافع الاقتصادية لم تعد كافية للتعامل مع التحديات الأمنية في القارة واستمالة روسيا على غرار ما حاولت فعله عبر مشروع "نورد ستريم"، وأن ثمة أهمية لتطوير استراتيجية أمنية وسياسة دفاعية للتعامل مع تلك التحديات.[6]

كما ستركز الحكومة الألمانية على الأبعاد الأمنية بشكل أكبر فيما يتعلق بالقرارات والسياسة الاقتصادية، دون الاكتفاء بحساب المنافع الاقتصادية المباشرة، وهو ما يرتبط بالتداعيات السلبية للاعتماد على الغاز الروسي التي كشفتها الحرب الأوكرانية، وما عبّرت عنه وزيرة الخارجية، أنالينا بربوك بقولها في سبتمبر 2022: "لقد دفعنا ثمن كل متر مكعب من الغاز الروسي ضعفين وثلاثة أضعاف مع أمننا القومي"، وهو ما يدعو أيضًا إلى تقليل الاعتماد على الدول الأخرى فيما يتعلق بالسلع الاستراتيجية والأساسية والتقنية والمواد الخام، وتحفيز الشركات على الاحتفاظ باحتياطيات استراتيجية.

ولعل من أهم الدلالات التي تكشف عنها الوثيقة هي إدراك برلين لعمق التحولات العالمية وطموحها في تحمل المزيد من المسئولية في العالم ولعب دور قيادي في القارة الأوروبية، وتحمُّلها مسئولية خاصة في الحفاظ على السلام والأمن والازدهار والاستقرار في القارة بصفتها الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان وأكبر اقتصاد في أوروبا.

ولعل هذا الدور الأوروبي هو ما دفع المستشار الألماني أولاف شولتس للمطالبة بالاستمرار في مناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا بما في ذلك عند انتهاء الحرب. والعمل مع شركاء أوروبيين لتطوير سياسة أمنية مشتركة بشكل أكبر، بما في ذلك المشاركة المكثفة لتحقيق الاستقرار في جوار أوروبا، في ظل إدراك برلين للتأثير السلبي للحروب والأزمات والصراعات في جوار أوروبا على أمنها وأمن القارة بشكل عام، مع تحول الدول الهشة إلى ملاذ آمن للإرهاب، وتمدد الصراعات الداخلية إلى دول أخرى.

 كما تعيد ألمانيا التذكير بمطلبها بتخصيص مقعد دائم لها بمجلس الأمن، واضعة ذلك في إطار استعدادها لتحمل المسئولية العالمية لتقوية الأمم المتحدة.[7] ومع التزام الاستراتيجية بسياسة الأمن الجماعي للاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي أساس ألمانيا، لكنها في الوقت نفسه تدعو الحكومة الألمانية للبحث عن شركاء جدد في العالم. مع الدعوة إلى توسيع الاتحاد الأوروبي.[8]

الصين.. شريك ومنافس

تُعد الرؤية الألمانية للصين من أهم الجوانب التي تناولتها استراتيجية الأمن القومي الألمانية، خاصةً أن إدارة العلاقات مع الصين تعد من التحديات التي تواجه أوروبا بشكلٍ عام، مع السعي إلى بلورة مقاربة تستفيد من الفرص وتحافظ على العلاقات والمصالح المشتركة، دون إغفال ما يطرحه الصعود الصيني من تهديدات للمنظومة الغربية على الأصعدة المختلفة السياسية والاقتصادية والعسكرية والقيمية. مع استعداد ألمانيا لإقرار استراتيجية خاصة بالصين، من المنتظر أن ترى النور خلال شهر يوليو القادم.

ورغم ظلال الحرب الروسية – الأوكرانية التي خيمت على القارة الأوروبية، وجعلت من أوروبا محل اهتمام رئيسي لدولها، وأعادت إلى مقدمة الأولويات ملف الدفاع الأوروبي بعد سنوات السلام في القارة، وجعلت من روسيا ونزعتها "التوسعية" و"العدوانية" الخصم والتهديد الرئيسي من وجهة نظر دول الاتحاد الأوروبي، فإن الاستراتيجية الجديدة لم تُغفل التحديات التي يطرحها صعود الصين من جهة، والأهمية الاستراتيجية المتزايدة لمنطقة الإندو-باسيفيك من جهةٍ أخرى، حيث تتوافق الاستراتيجية مع الاهتمام الأمريكي والغربي عموماً بالمنطقة كساحة تنافس جيو-استراتيجي جديدة على المستوى العالمي. وتصف استراتيجية الأمن القومي الألمانية منطقة المحيطين الهندي والهادئ بأنها منطقة ذات أهمية خاصة لألمانيا وأوروبا.

وتعتبر برلين وفق استراتيجية الأمن القومي الجديدة بكين شريكًا ومنافسًا ومنافسًا منهجيًا لها في آنٍ واحد، وهو ذات ما نصت عليه اتفاقية الائتلاف الحكومي، التي وقعتها الأحزاب الثلاثة المشكلة للحكومة في ديسمبر 2021، والتي وصفت الصين بأنها "شريك"، و"منافس" و"منافس منهجي" أيضًا، حيث تدرك الحكومة الألمانية أن عناصر وحالة التنافس مع الصين -سواء فيما يخص ألمانيا خصوصًا، أو أوروبا والغرب عمومًا- قد ازدادت في السنوات الأخيرة، وأن الصين تستخدم نفوذها الاقتصادي لتحقيق مكاسب سياسية. وتتهم الوثيقة الصين بالتصرف بشكل متكرر بما يتعارض مع المصالح والقيم الألمانية والأوروبية، وأنها تُعرّض الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي لضغوط متزايدة، مع تجاهل حقوق الإنسان. فضلًا عن محاولة إعادة تشكيل النظام الدولي، والسعي نحو مزيد من التفوق الإقليمي. مع اعتبار "التجسس الصيني" أحد التهديدات الأمنية لألمانيا.

وستهتم ألمانيا في علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الصين بمسألة تنويع سلاسل التوريد، فبعدما أرسلت جائحة كورونا إشارة للحكومة الألمانية وغيرها من الحكومات الأوروبية بمخاطر الاعتماد على الصين في الضروريات الطبية، أكدت الحرب الأوكرانية أهمية تنويع سلاسل الإمداد خشية تكرار سيناريو الاعتماد على الغاز الروسي، مع بكين في قطاعات حيوية أخرى مثل "أشباه الموصلات". فضلًا عن الحد من درجة التشابك بين المجموعات الصناعية وبين الصين بالنظر إلى أن العلاقات العميقة الحالية تحد من درجة المرونة والقدرة على التعامل حال اندلاع أزمة كبرى مع الصين.[9]

ولكن رغم ذلك كله، لا تزال ألمانيا ترى في الصين شريكًا عالميًا مهمًا لا يمكن حل العديد من التحديات العالمية الأكثر إلحاحًا بدونه، مثل مواجهة التغيرات المناخية. فضلًا عن المصالح الاقتصادية المترابطة بين البلدين، فطوال سبع سنوات ماضية، حافظت الصين على مكانتها كأكبر شريك تجاري لألمانيا بحجم تبادل تجاري بلغ 297.9 مليار يورو عام 2022.[10] كما تُعد الصين سوقًا أساسيًا لكبرى الشركات الألمانية، إلى الحد الذي دفع العديد من الرؤساء التنفيذيين لتلك الشركات من التحذير من مخاطر قطع أو تقليص الروابط مع بكين. فعلى سبيل المثال، اعتبر الرئيس التنفيذي لشركة مرسيدس-بنز أولا كالينيوس، في أبريل الماضي، إن الانفصال عن الصين "لا يمكن تصوره" بالنسبة لكل الصناعة الألمانية تقريبًا.[11]

وتعبّر رؤية الاستراتيجية للصين كمنافس وشريك عن محاولة صياغة رؤية متوازنة ليس فقط بين الحكومة ورجال الأعمال، بل داخل وزارات وأحزاب الحكومة أيضًا. فثمة تباين في وجهات النظر داخل الائتلاف الحكومي من المنظور الحزبي والأيديولوجي بشأن كيفية التعامل مع الصين بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي المؤيد للنهج العملي والحفاظ على المصالح الاقتصادية مع الصين والداعم لاتفاقية الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين، وبين حزبي الخضر الديمقراطي الحر اللذين يدفعان نحو تبنّي سياسة خارجية قائمة على القيم، وتوجيه انتقادات أكبر لسياسات الصين. وكذلك ثمة تباين في وجهات النظر داخل الحكومة من المنظور المؤسسي والمصلحي، حيث ترى وزارة الشئون الاقتصادية وحماية المناخ أن التعاون مع الصين يساعد على مواجهة تحديات مشتركة وتعزيز النمو ومكافحة التغير المناخي، فيما تنظر وزارة التعاون الاقتصادي إلى الصين من منظور التنافس بين البلدين على المشروعات الإنمائية في الدول الأخرى، بينما تدفع وزارة الداخلية بأهمية تعزيز الأمن الألماني في مواجهة التهديدات الأمنية الصينية، ومنها الهجمات السيبرانية والتجسس.[12]

الأمن المتكامل

تتخذ حكومة المستشار الألماني أولاف شولتس من مفهوم "الأمن المتكامل" مفهومًا رئيسيًا ومركزيًا لسياساتها الأمنية، الأمر الذي انعكس على استراتيجية الأمن القومي التي وضعت من "الأمن المتكامل لألمانيا" عنوانًا رئيسيًا لها. فتسترشد الاستراتيجية بمفهوم الأمن المتكامل، وترتبط بالمنظور الواسع للأمن الذي يشمل الدبلوماسية والشرطة وفرق الإطفاء ووكالات الإغاثة الفنية والتنمية والشركات والأمن السيبراني ومرونة سلاسل التوريد، وغير ذلك. وينظر النهج الأمني المتكامل الذي تتبناه الاستراتيجية إلى الأمن على أنه جزء من جميع مجالات السياسة، وليس المجال العسكري والدبلوماسي فقط، بحيث إذا تدهور الوضع الأمني تأثرت بقية المجالات السياسية، في الوقت نفسه الذي يساهم فيه كل مجال من مجالات السياسة أيضًا في تعزيز وصيانة الأمن.[13]

إذ تأتي الاستراتيجية في إطار رؤية حكومية لربط جميع مستويات المجتمع لتعزيز الأمن على المدى الطويل في البلاد، وترتبط بقناعة عبرت عنها وزيرة الخارجية الألمانية بقولها أن "الأمن في العصر الحديث يعني القدرة على شراء الأدوية الأساسية من الصيدلية"، في إشارة ليس فقط إلى أزمة نقص الدواء التي تعانيها ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية، ولكن أيضًا الدور الذي لعبته جائحة كوفيد-19 في تأكيد مخاطر الأوبئة كتهديد أمني غير تقليدي، وكذلك أزمة سلاسل التوريد التي أبرزتها الجائحة وعمقتها الحرب الأوكرانية. كما أضافت وزيرة الخارجية أن "الأمن يعني التأكد من أن التدفئة تعمل في الشتاء"، في إشارة إلى معاناة أوروبا خلال فصل الشتاء بسبب نقص إمدادات الغاز الروسي الذي استخدمته موسكو كسلاح ضد الدول الأوروبية. فضلًا عن التهديدات السيبرانية وغيرها من التهديدات الأمنية غير التقليدية والمخاطر التي تهدد أمن المجتمع بمفهومه الواسع، حيث تتبع الاستراتيجية نهجًا شموليًا يأخذ في الاعتبار التهديدات الداخلية والخارجية.

وبالإضافة إلى جوانب سياسات الدفاع التقليدية المرتبطة بالقوات المسلحة، تولي الاستراتيجية أهمية لمرونة النظام الديمقراطي ضد الشعبوية وحملات التضليل، والقدرة على توفير المواد الخامة اللازمة، وحماية البنية التحتية الحيوية مثل قطاع الاتصالات وإمدادات الطاقة، وتحقيق الاستقرار المالي، وحماية التنوع البيولوجي، ومواجهة التهديدات الجديدة مثل الأوبئة والهجمات السيبرانية والتغيرات المناخية.[14] كما أكدت وزيرة الخارجية تقاطع تحديات الأمن في ألمانيا مع جميع مجالات الحياة، وأن الأمن في القرن الحادي والعشرين يدور حول ما هو أكثر من الوسائل العسكرية والدبلوماسية.

ويهدف مفهوم "الأمن المتكامل" إلى التفاعل التعاوني لجميع الجهات الفاعلة والموارد والأدوات ذات الصلة من اجل ضمان شامل لأمن ألمانيا وتقويته ضد التهديدات الخارجية. وفي هذا الإطار، اعتبر وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر أن أمن بلاده يتطلب "منظور 360 درجة"، وأن على جميع الدوائر الحكومية تقديم مساهمتها في ذلك، بما في ذلك النقل والشؤون الرقمية والتعليم والبحث.

ثلاثة أبعاد مركزية للاستراتيجية الأمنية

تُحدد استراتيجية الأمن القومي الألماني ثلاثة أبعاد مركزية للأمن المتكامل هي "الدفاع" و"المرونة" و"الاستدامة". فتربط الوثيقة أولًا بين بتقوية القدرات الدفاعية والدفاع عن السلام والحرية، مشيرةً إلى ضرورة أن تمتلك ألمانيا القدرة على حماية نفسها والدفاع عن حلفائها، وضمان أن المواطنين الألمان يمكنهم العيش بسلام، والتمتع بالحرية والأمن في المستقبل أيضًا. وتعزيز وتحديث القوات المسلحة لضمان قدرتها على الوفاء بواجبها الذي يتمثل في الدفاع الوطني والجماعي باعتبار "البوندسفير" حجر الزاوية للدفاع في أوروبا في ظل التمسك بالدفاع المشترك بموجب المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي. مع تحسين وتحديث المؤسسات والجهات الأخرى التي يمكن أن تُساهم في تحقيق الأمن الشامل للمجتمع وحماية السكان من مختلف التهديدات. مع مواصلة الالتزام بالعمل مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وتحمُّل الحكومة الألمانية مسئولية في إدارة الأزمات الدولية، بالنظر إلى ارتباط الأمن الألماني بالأمن والاستقرار في أجزاء أخرى من العالم.

وفي هذا الإطار، تشير الوثيقة إلى سعي الحكومة الألمانية لضمان قدرة الاتحاد الأوروبي على التصرف جيو-سياسيًا والحفاظ على أمنه وسيادته للأجيال القادمة. وتدعم المزيد من تكامل الاتحاد الأوروبي وتماسكه وتوسيعه ليشمل دول غرب البلقان وأوكرانيا وجمهورية مولدوفا وجورجيا على المدى الطويل. ولكنها تجادل بأن إعداد الاتحاد الأوروبي لهذا التوسيع وضمان قدرته المستمرة على العمل، مرهون بإجراء إصلاحات ضرورية داخل الاتحاد الأوروبي. كما تدعو الوثيقة إلى زيادة الجهود الألمانية لدعم الهيكل العالمي للحد من التسلح ونزع وعدم انتشار السلاح النووي على أساس معاهدة عدم الانتشار، للوصول إلى عالم آمن خالي من الأسلحة النووية، وذلك في الوقت الذي تبرز فيه المخاوف بشأن مستقبل النظام الدولي لمنع الانتشار النووي. كما ستزيد الحكومة الاتحادية من مشاركتها في مكافحة الفقر والجوع وعدم المساواة الاجتماعية وأزمة المناخ.

أما عن البُعد الثاني (المرونة) فيشير إلى الحفاظ على قيم ألمانيا من خلال القوة الداخلية. وتجادل الوثيقة بأنه لا يمكن ضمان الحياة في حرية إلا إذا كان المجتمع والاقتصاد مرنين وقابلين للتكيف ومستقرين داخليًا. ولذلك يجب حماية النظام الديمقراطي الحر والدفاع عنه ضد التأثيرات والتدخلات الخارجية غير المشروعة والمعلومات المضللة وجميع أشكال التطرف، مع الحفاظ على نظام دولي حر قائم على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وتنفيذ سياسة نشطة لحقوق الإنسان، وتشجيع القضاء على التمييز، وتعزيز المشاركة والتنوع. إذ تجادل الوثيقة بوجود علاقة عكسية بين درجة حماية حقوق الإنسان، وبين احتمالات نشوب الأزمات والحروب، في إشارة إلى التفسيرات الغربية لاندلاع الحرب الأوكرانية بغياب البعد القيمي الديمقراطي والحقوقي في روسيا، فضلًا عن النظريات الغربية التي تجادل بأن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض، وأن الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان تحدان من احتمالات حدوث الحروب والأزمات بين الدول وبعضها البعض على الصعيد الدولي أو داخل تلك الدول نفسها على الصعيد المجتمعي. فيما يرتبط جانب آخر من بناء المرونة تجاه الأزمات بتقليل الاعتماد الأحادي في المواد الخام والتقنيات والطاقة من خلال تنويع علاقات التوريد، وتعزيز مشروعات المواد الخام المحلية، وتكوين احتياطيات استراتيجية. فضلًا عن تعزيز الأمن السيبراني والاهتمام بأمن الفضاء.

وآخيرًا، يرتبط بُعد "الاستدامة" بحماية الموارد الطبيعية والتركيز على الوقاية، فتشير الوثيقة إلى العمل على  الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية، وتعزيز الأمن الغذائي العالمي من خلال التحول إلى أنظمة زراعية وغذائية مستدامة، بالنظر إلى الأضرار التي يسببها الجوع وسوء التغذية لصحة الناس، وتهديدها الأسس الاقتصادية للمجتمعات للدرجة التي قد تؤدي إلى انتكاسات في العمل التنموي. وتؤكد الوثيقة أن الوقاية العالمية من الأوبئة والاستجابة السريعة لها أمران أساسيان لضمان الأمن البشري. وستعمل الحكومة الألمانية على تعزيز المرونة من خلال ضمان القدرة طويلة الأجل على توفير الرعاية الطبية والحفاظ على سلاسل التوريد، وتدريب الخبراء المتخصصين، وتحسين الاكتشاف المبكر لمخاطر الأوبئة، والاستثمار في البحث والتطوير المرتبط بالأمن. مع الدعوة إلى قواعد ملزمة دوليًا بشأن كيفية التعامل مع الأوبئة.

وتحذّر الوثيقة من أن تؤدي عواقب أزمة المناخ والتهديدات التي يتعرض لها الأساس الطبيعي للحياة والبيئة الطبيعية إلى ظهور تهديد أساسي للأجيال القادمة. ولذلك ترى أن العمل المبكر يمكن أن ينقذ الأرواح من خلال مكافحة تغير المناخ وحماية التنوع البيولوجي والنظام البيئي. وفي هذا الإطار، ترى الوثيقة أن التحول العالمي والمستدام والأخضر والعادل يوفر اجتماعيًا فرصًا كبيرة، لأنه لا يعني فقط استخدام الطاقة النظيفة، ولكن أيضًا تقليل تبعات ومخاطر التغير المناخي، وهي أزمة عالمية تحتاج إلى مشاركة جميع الدول في مواجهتها.

إشكاليات وانتقادات

مثّلت فكرة إنشاء مجلس للأمن القومي ينسق القرارات المتعلقة بالسياسة الأمنية والخارجية ويتولى التوجيه العملياتي في حالات الأزمات، وفق ما طالب به الحزب الديمقراطي الحر، إحدى نقاط الخلاف الأساسية داخل الائتلاف الحكومي، وكانت من الأسباب الرئيسية لتأخير إصدار الوثيقة. وللرد على التساؤلات حول أسباب عدم إدراج المجلس في الاستراتيجية، قلل شولتس من القيمة المضافة لإنشاءه.[15] وقالت بربوك إن النظام الحالي هو الأفضل لألمانيا، بالنظر إلى أن البلاد ليس لديها نظام سياسي رئاسي. في حين أن الخلاف دار تحديدًا بين مكتب المستشارية ووزارة الخارجية حول مكان مكتب الأمن القومي المقترح وتبعيته لأي منهما، حيث أرادت كل جهة أن يكون يكون مجلس الأمن القومي الجديد تحت إشرافهما، واعترض حزب الخضر الذي تتبعه وزيرة الخارجية على وضع المزيد من السلطة في يد مستشارية شولتس، وخشيت وزارة الخارجية من فقدان أو تراجع نفوذها إذا تولت المستشارية قيادة المجلس الجديد.[16] وقد انتبهت مختلف الأطراف إلى أن إنشاء المجلس من شأنه أن يخل بتوازن القوى بين الوزارات والمستشارية، وهو تغيير يواجه صعوبة في تمريره، وكان يحتاج إلى مناقشة خلال مفاوضات التحالف كجزء من صفقة تشكيل الحكومة بشكلٍ عام.[17]

وكما كانت إدارة العلاقات مع الصين وروسيا من النقاط الرئيسية في الاستراتيجية كانت من النقاط الرئيسية في جانب الانتقادات، حيث برزت في هذا الجانب الانتقادات المبنية على اتهام الاستراتيجية بتحديد "أولويات خاطئة" مستندة إلى رصد الموضوعات التي اهتمت بها الاستراتيجية بشكل أكبر أو أقل، مثلما قال زعيم المجموعة الإقليمية في الحزب المسيحي الديمقراطي ألكسندر دوبريندت الذي ضرب مثالًا على ذلك بذكر الوثيقة كلمة "مناخ" 71 مرة مقابل ذكر كلمة "الصين" 6 مرات فقط.[18] بينما تظهر كلمة "روسيا" 20 مرة فقط. ورغم أن ذلك الأمر كان محل انتقاد من وجهة النظر الأمنية التقليدية التي تستهدف التركيز على التهديدين الروسي والصيني، فإن حماية المناخ تحظى بأولوية لدى جيل الشباب وبعض القوى السياسية والحركات الاجتماعية تجعله على رأس أولويات الحماية ضد التهديدات.[19] فيما أشار المنتقدون إلى غياب الحديث عن علاقات الصين العميقة مع روسيا رغم ما تمثله من تحدٍ أمني واقتصادي وسياسي لأوروبا. وكذلك عدم ذكر "تايوان" على الإطلاق في الوقت الذي يٌشار إليها كساحة حرب محتملة قادمة.[20] وكذلك فإن الشركاء المتشابهين مع ألمانيا في التفكير في "الإندو-باسيفيك" مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية لم يحظوا باهتمام في الاستراتيجية.[21] ورغم أن الاستراتيجية تناولت العناصر الاقتصادية للأمن القومي، وأشارت إلى أهمية تقليل الانكشاف على الصين، فإن بعض الآراء اعتبرت أن العلاقة المتنامية بين التجارة والتكنولوجيا والأمن لم يتم الاهتمام بها كثيرًا أو بالدرجة الكافية في الوثيقة.[22]

وقال نوربرت روتغن، عضو لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الألماني عن الحزب المسيحي الديمقراطي المعارض، إن الاستراتيجية تفتقر إلى الوضوح بشأن إنشاء نظام أمني جديد لأوروبا، مثل كيفية حماية مولدوفا وجورجيا من روسيا، وما إذا كان يجب ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.[23]

كما تطرقت بعض الانتقادات إلى غياب الطابع الاستراتيجي عن الوثيقة، مثل وزير داخلية ولاية هامبورج، آندي جروت ، الذي وصف الوثيقة بأنها "كُتيب أمني أكثر من إستراتيجية سليمة".[24] وأنها تفتقر إلى التفكير الاستراتيجي الحقيقي، ولا تعبر عن سياسة استباقية، بقدر ما تعبر عن سياسة رد الفعل. وكذلك الحديث عن أن الرؤية التي تضمنتها الوثيقة كانت دون المأمول وليست على قدر كاف من الوضوح.[25] وأنها رغم تسليطها الضوء على التهديدات الرئيسية التي تواجه ألمانيا، إلا إنها لا تحدد أولويات للتهديدات التي يجب مواجهتها أو العمل على احتواء أي مفاجآت أو تهديدات كبيرة.[26] فضلًا عن عمومية الوثيقة باعتبار أنها تحدد النهج العام دون التعمق في التفاصيل[27]، وأنها مع ذكر طموحات ورؤية ألمانيا لبناء مرونتها تجاه العديد من الملفات والمجالات مثل الإمدادات الحيوية والأمن السيبراني والصين وتغير المناخ، إلا إنها لم تتجاوز الطموحات إلى تقديم مقترحات سياسية جديدة لتحقيق هذه الأهداف ولم تحتوي على الكثير من التفاصيل حول الكيفية التي تنوي بها الحكومة المضي قدمًا لتحقيق تلك الأهداف. في حين أن الوثيقة تضمنت بعض التفاصيل مثل إنشاء وكالة لمكافحة الهجمات الإلكترونية. وقد لخص أحد التقارير الصحفية الانتقادات الموجهة إلى استراتيجية الأمن القومي الألمانية بتشبيه برلين بأنها "لا تزال نباتية إلى حدٍ كبير وسط عالم من آكلي اللحوم"[28]

شكوك التنفيذ والتمويل

ثمة شكوك في تحول الاستراتيجية الألمانية إلى سياسات واقعية، وهي شكوك لها جذور خلال الفترة السابقة من حكم المستشار الألماني أولاف شولتس، ومنها حديث زعيم المعارضة فريدريك ميرز خلال مناقشة برلمانية، في فبراير 2023، عن أن أجزاء كبيرة  من عناصر "نقطة التحول" التي تحدث عنها شولتس في فبراير 2022، تحدث إلى حدٍ كبير على الورق فقط.[29] ووجّه ميرز انتقادات حادة لاستراتيجية الأمن القومي إلى حد وصفها بأنها "خيبة أمل كبيرة" وأنها "ليس لها قيمة ولا جوهر ولا أهمية" وذلك بسبب اعتبارها ضعيفة الجوهر، وغير ذات صلة من الناحية الاستراتيجية، وبدون إجراءات عملياتية، وأنه تم وضعها دون التشاور مع حلفاء ألمانيا.[30] رغم أن التصريحات الحكومية أشارت إلى عمليات التشاور والمشاركة داخليًا وخارجيًا في عملية وضع الاستراتيجية.

وفي حين تهدف الخطة إلى تعزيز الاستثمارات في العديد من القطاعات مثل تحديث القوات المسلحة وحماية البنية التحتية الحيوية والقدرات السيبرانية والدبلوماسية الفعالة والحماية المدنية، والمساعدة الإنسانية والتعاون الإنمائي، فإن هذه الأهداف لن تتجاوز توصيف "التطلعات" دون تخصيص تمويل إضافي لتحقيقها، حيث يرتبط تنفيذ الاستراتيجية بالموارد، في الوقت الذي لا توجد فيه ميزانية أو موارد إضافية جديدة لها.[31] إذ أشارت الوثيقة إلى السعي لتنفيذ الاستراتيجية دون أي تكلفة إضافية على الميزانية الفيدرالية نظرًا للالتزامات الحالية والمطالب الكبيرة على الموارد المالية الألمانية العامة في الوقت الحالي.[32]  

خاتمة

أصدرت ألمانيا لأول مرة في تاريخها استراتيجية للأمن القومي، مدفوعة بتغيرات البيئة الإقليمية والدولية، خاصةً التغيرات الأمنية خلال العام ونصف العام الماضيين على وقع شن روسيا حربها التوسعية المستمرة تجاه أوكرانيا. وتأتي تلك الاستراتيجية في ظل قناعة الحكومة الألمانية بأنها لا تستطيع ضمان الحرية والاستقرار والازدهار لها ولمواطنيها ولشركائها دون ضمان الأمن، ليس فقط بمفهومه الضيق التقليدي، بل بمفهومه الشامل المتكامل.

وبصرف النظر عن الانتقادات الموجهة للاستراتيجية من حيث التفاصيل أو الإجراءات والسياسات، فإنها تعبّر عن خطوة جديدة على طريق "نقطة التحول" التي تحدث عنها المستشار الألماني عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، وحتى مع اعتبارها وفق رؤية البعض مجرد "إعلان نوايا" أو "توجهات عامة" فإنها تعكس تغيرات ملحوظة في الرؤية الألمانية للمجال الألماني. وبعد استفادة ألمانيا –كغيرها من الدول الأوروبية- من سنوات "عائد السلام"، الأمر الذي انعكس على هيكل توزيع الإنفاق، وعدم إيلاء الحكومة الألمانية اهتمامًا كبيرًا بالإنفاق الدفاعي، فإن صدور الاستراتيجية الجديدة، وحالة الحرب المستمرة في أوكرانيا، تشير إلى حدوث تغيير في بعض الأولويات بالميزانية الاتحادية الألمانية. ولذلك أشار وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر بوضوح في مؤتمر تقديم الاستراتيجية إلى أن "الحصص في الميزانية ستتغير بشكل مستدام"، فمن المرجح أن يتم تخفيض الإنفاق على بعص المشروعات الأخرى، وتأجيل بعض المشروعات نتيجة لذلك، حيث سيتم إعطاء ستكون الأولوية التمويلية للمشروعات التي لها اعتبارات أمنية، ولا يعني ذلك بالضرورة المشروعات الدفاعية العسكرية فقط، إذ يجب الأخذ في الاعتبار عند تحليل تلك التصريحات المنظور الشامل والمفهوم المتكامل للأمن لدى الحكومة الألمانية الذي تؤسس له وتعتمده استراتيجية الأمن القومي، والذي يوسّع من القطاعات والمشروعات التي ستعتبر الحكومة الألمانية أن لها اعتبارات أمنية.


[1]  "الكتاب الأبيض" – منظور جديد للسياسة الدفاعية الألمانية، DW عربية، 18 فبراير 2015، متاح عبر: https://p.dw.com/p/1EdgS

[2]  مفاهيم وحدود للسياسة الأمنية الجديدة، دويتشلاند، 5 سبتمبر 2022، متاح عبر: https://www.deutschland.de/ar/topic/politik/deutschlands-nationale-sicherheitsstrategie-fragen-antworten

[3]  Latika Bourke. ‘Vegetarian in a world of meat eaters’: Germany’s national security strategy slammed. Sydney Morning Herald. June 15, 2023. Available at: https://www.smh.com.au/world/europe/vegetarian-in-a-world-of-meat-eaters-germany-s-national-security-strategy-slammed-20230615-p5dgn8.html

[4]  حرب أوكرانيا خلقت نقطة تحول لألمانيا.. واقع محفوف بالمصاعب؟، DW عربي، 25 فبراير 2023، متاح عبر: https://p.dw.com/p/4NpqL

[5] GEIR MOULSON. Germany’s military ‘turning point’ still a work in progress. AP News. February 22, 2023. Available at: https://apnews.com/article/russia-ukraine-politics-germany-government-olaf-scholz-44dca48439255f9bc0722c6cd7d157bf

[6] Swasti Rao. Germany is undergoing end-of-an-era change. But its National Security Strategy still half-baked. ThePrint. June 16, 2023. Available at: https://theprint.in/opinion/germany-is-undergoing-end-of-an-era-change-but-its-national-security-strategy-still-half-baked/1628566/

[7] Factbox: Germany announces first National Security Strategy. Reuters. June 14, 2023. . Available at: https://www.reuters.com/world/europe/germany-announces-first-national-security-strategy-2023-06-14/

[8] Malte Zabel. Germany’s First National Security Strategy: “The Strategic Journey Has Just Begun”. Global & European Dynamics. June 16, 2023. Available at: https://globaleurope.eu/europes-future/germanys-first-national-security-strategy-the-strategic-journey-has-just-begun/

[9] Hui Min NEO. Germany Takes Aim At China In First National Security Blueprint. Barron's. June 14, 2023. Available at: https://www.barrons.com/news/germany-takes-aim-at-china-in-first-national-security-blueprint-2d2cf306

[10]  للعام السابع.. الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا في 2022، سكاي نيوز عربية، 17 فبراير 2023، متاح عبر: https://cutt.us/A4PB1

[11]  Sarah Marsh and Matthias Williams. Germany calls China a growing threat as it steps up focus on security. Reuters. June 14, 2023. Available at: https://www.reuters.com/world/europe/germany-unveil-first-ever-national-security-strategy-2023-06-14/

[12]  د. محمد غاشي، من الشراكة الاستراتيجية إلى المنافسة النظامية: حدود التغيير في السياسة الألمانية تجاه الصين، تريندز للبحوث والاستشارت، 18 أبريل 2023، متاح عبر: https://cutt.us/iFIQb

[13] National Security Strategy adopted by the German Federal Cabinet. Federal Foreign Office. June 14, 2023. Available at: https://www.auswaertiges-amt.de/en/aussenpolitik/themen/-/2601730

[14] Malte Zabel. Op. cit.

[15] Latika Bourke. Op. cit.

[16] Loveday Morris and Kate Brady. Russia the ‘most significant threat’ in new German security strategy. The Washington Post. June 14, 2023. Available at: https://www.washingtonpost.com/world/2023/06/14/germany-national-security-strategy-russia-scholz/

[17] SARAH MARSH and ANDREAS RINKE. Germany’s first-ever National Security Strategy to focus on defence, national security. ThePrint. June 14, 2023. Available at: https://theprint.in/world/germany-to-unveil-first-ever-national-security-strategy/1625791/

[18] Frank Jordans And Geir Moulson. Germany unveils 1st national security strategy to address growing threats, singles out Russia. Winnipeg Free Press. June 14, 2023. Available at: https://www.winnipegfreepress.com/world/2023/06/14/german-government-to-present-1st-national-security-strategy-to-address-growing-threats

[19] Malte Zabel. Op. cit.

[20] Latika Bourke. Op. cit.

[21] The hits and misses in Germany’s new national security strategy. Atlantic Council. June 14, 2023. Available at: https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/experts-react/the-hits-and-misses-in-germanys-new-national-security-strategy/

[22] Latika Bourke. Op. cit.

[23] Sarah Marsh and Matthias Williams. Op. cit.

[24] Latika Bourke. Op. cit.  

[25] Loveday Morris and Kate Brady. Op. cit.

[26] Sarah Marsh and Matthias Williams. Op. cit.

[27] FRANK JORDANS and GEIR MOULSON. Germany unveils national security strategy, singles out Russia. Antelope Valley Press. June 15, 2023. Available at: https://www.avpress.com/news/newsline/germany-unveils-national-security-strategy-singles-out-russia/article_2baa9302-0b26-11ee-8638-ff3ff5d004fd.html

[28] Latika Bourke. Op. cit.

[29] GEIR MOULSON. Op. cit.

[30] Frank Jordans And Geir Moulson. Op. cit.

[31] Loveday Morris and Kate Brady. Op. cit.

[32] The hits and misses in Germany’s new national security strategy. Op. cit.


رابط دائم: