كشفت زيارة رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى للقاهرة فى 12 يونيو الجارى (2023)، وهى الثانية من نوعها منذ توليه منصبه كرئيس للحكومة العراقية فى أكتوبر 2022، عن رغبة العراق فى رفع مستوى التعاون الاستراتيجى مع مصر، وذلك عبر تفعيل آلية لجان التعاون الثنائية المشتركة التى دشنتها زيارة السودانى الأولى للقاهرة مطلع شهر مارس 2023. كما حملت الزيارة عدة ملفات مهمة فى سياق تنمية العلاقات المصرية-العراقية ودفعها على كافة المستويات، وإن حظيت ملفات التعاون الاقتصادى بأولوية مهمة فى أجندة الزيارة الثانية، لاسيما ملفات إعادة إعمار العراق، والاستثمار، والتجارة، والسياحة، وتبادل الخبرات فى مجال التدريب والتطوير الإدارى إلى جانب متابعة اتفاقات الربط الكهربائى.
وبالرغم من أن الزيارة تبدو فى عنوانها العريض أنها تتضمن ملفات اقتصادية محضة تناقشها اللجنة العليا المشتركة فى اجتماعها الثانى؛ إلا أن مضمونها السياسى يظل حاضراً وتحديداً فى اللقاء الذى جمع السودانى بالرئيس عبدالفتاح السيسى؛ فليس بخافٍ الدور الذى يقوم به رئيس الوزراء العراقى فى محاولة تقريب وجهات النظر بين مصر وإيران فى سياق مسار تطبيع العلاقات المصرية-الإيرانية الذى لايزال يأخذ نمطاً "حذراً" من جانب القاهرة.
البعد الاقتصادى
رفع مستوى التعاون المشترك بين العراق ومصر بدأت خطواته الفعلية خلال فترة رئاسة مصطفى الكاظمى للحكومة العراقية التى انتهت مهامها فى أكتوبر 2022، لكن ترقية مستويات هذا التعاون فى مختلف المجالات الاقتصادية تحديداً بدأت فعلياً مع تولى السودانى الحكومة العراقية الجديدة، وبدا أكثر وضوحاً خلال زيارة السودانى الأولى للقاهرة فى مارس الماضى؛ أى قبل ثلاثة شهور فقط من تاريخ زيارته الثانية.
وينعكس هذا المستوى من التعاون فى حجم ونوع اتفاقات التعاون المشتركة التى تم توقيعها خلال اجتماعات اللجنة العليا المشتركة؛ حيث تم توقيع 10 اتفاقات فى مختلف المجالات، وتأتى فى مقدمة هذه الاتفاقات تلك المتعلقة بإعادة إعمار المحافظات العراقية التى تضررت خلال سنوات الحرب على تنظم الدولة "داعش"، وهو ما يفتح المجال أمام الشركات المصرية للمشاركة فى هذا المجال، حيث تمتلك الحكومة المصرية العديد من الإمكانيات والخبرات فى مجال إعادة الإعمار وتحديداً فى القطاعات المتعلقة بالبنية التحتية كالكهرباء، والطرق، والاتصالات، فضلاً عن الخبرات فى مجال الصحة ودعم بنيتها التحتية، والصناعات بمختلف قطاعاتها وأنواعها، يضاف إلى ذلك الاتفاقات ذات الطبيعة التجارية التى تفيد الجانبين بما يؤدى إلى رفع معادلات التبادل التجارى بينهما.
أيضاً تطرقت اجتماعات اللجنة العليا المشتركة إلى تقييم المرحلة الأولى من مشروع الربط الكهربائى بين مصر والعراق عبر الأردن. فمن المعروف أن مصر لديها فائض فى الطاقة الكهربائية بإمكانها تصديره للعراق الذى يعانى عجزاً فعلياً فى الكهرباء. فى المقابل، تحتاج مصر إلى النفط العراقى، وبالتالى فإن المصلحة المشتركة للبلدين تدفعهما إلى تعزيز سبل التبادل التجارى فى هذا الشأن.
وبدا وفقاً لهذه النتائج أن هدف الزيارة الرئيسى هو ترقية حجم التعاون الاقتصادى بين البلدين، وتحسين فرصه ونوعيته، وهو ما انعكس فى طبيعة الوفد العراقى المصاحب للسودانى، والذى تألف من العديد من رجال الاقتصاد والتجارة والأعمال العراقيين.
وعلى الجانب المصرى، تنطلق الرؤية الاستراتيجية فى التعاون مع العراق من محورية دوره فى المنطقة العربية، ومن قناعة القيادة المصرية بأهمية وضرورة "دعم العراق ودوره القومى العربى"، وما يعنيه ذلك من ترقية كافة أنواع التعاون التى تمكنه من مواجهة وتجاوز التحديات، واستعادة حالة الاستقرار والأمن، سواء من خلال التعاون الثنائى المشترك أو عبر آليات العمل العربى المشترك.
والجدير بالذكر هنا أن رئيس الوزراء العراقى طالما أبدى إعجابه بالتجربة التنموية المصرية وخصوصيتها على صعيد تطوير مؤسسات الدولة، واستراتيجيات التنمية المستدامة، والمشروعات القومية الكبرى، وهى الخصوصية النابعة من التحديات التى واجهت الدولة المصرية على مدار السنوات الماضية، لاسيما وأن العراق قد مر بتحديات مشابهة لها، ومنها على سبيل المثال، التحديات الأمنية، والتحديات الاقتصادية التى جاءت كأحد تداعيات الأزمات الكبرى التى واجهت المجتمع الدولى ككل وتحديداً جائحة كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية؛ وكلتا الأزمتين أثرتا بقوة على النشاط الاقتصادى للبلدين.
إيران الغائب الحاضر
على هامش البعد الاقتصادى الذى كان الهدف الرئيسى لزيارة رئيس الوزراء العراقى للقاهرة للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر تقريباً، يحضر ملف العلاقات المصرية-الإيرانية، من منطلق مساعى العراق فى تقريب وجهات نظر البلدين ورعاية "حوار" مصرى-إيرانى محتمل رفيع المستوى، وهو الدور الذى يلعبه العراق بقوة، حيث سبق أن قام برعاية حوارات سعودية-إيرانية قبل عودة العلاقات بين الرياض وطهران، فى خطوة هدف منها العراق إلى تحسين العلاقات بين دول المنطقة فى ظل ما تواجهه من تحديات ناتجة عن حالة التغير الحادث فى العلاقات الدولية، وما ينتج عنها من تداعيات حادة على دول الإقليم وعلى علاقاتها البينية.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن العراق يتبنى–حالياً–توجهاً استراتيجياً يقوم على ضرورة تعزيز العلاقات العراقية مع دول المنطقة، بما يمكن دولها العربية من خلق حالة من "التوازن" فى توجهاتها الاقتصادية والسياسية هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن محاولات العراق تقريب وجهات النظر بين القاهرة وطهران حول بعض النقاط الخلافية، تستهدف بالأساس تحقيق حالة عامة من التهدئة فى العلاقات الإقليمية بين الدول العربية وإيران، وأن هذا الأمر يمثل مصلحة عراقية فى حد ذاته؛ لأن هذا الهدوء سينعكس إيجابياً على الداخل العراقى ويساهم فى استقرار الأوضاع فيه، والاستقرار السياسى من أولى الخطوات التى تمكن أى دولة من البدء فى مسار التنمية بأبعادها المختلفة.
من هنا، ينطلق العراق فى مسعاه لتقريب وجهات النظر المصرية-الإيرانية من قاعدة أن دوره لا يتعدى محاولة تذليل العقبات فى عدد من الملفات أبرزها مشروع إيران الإقليمى وتدخلها فى شئون الدول العربية.
فإيران تدرك أن تطبيع العلاقات مع مصر يعد "هدفاً ثميناً" بالنسبة لها لما تتمتع به مصر من ثقل استراتيجى إقليمى عربى، على الرغم من التحديات الاقتصادية شديدة الوطأة التى تواجهها، ومن ثم فهى فى حاجة إلى الوصول لهذا الهدف لاستكمال مسار "التهدئة الإقليمية" مع الدول العربية، ويدلل على ذلك تزامن زيارة السودانى للقاهرة مع تصريحات صدرت عن وزارة الخارجية الإيرانية مؤداها أن طهران مستعدة لتطبيع العلاقات مع مصر حال رغبة القاهرة فى ذلك، ما فسره المختصون بأنها محاولة إيرانية لاستكشاف ردود فعل القاهرة حول استعادة كامل العلاقات مع طهران. ويبدو من ردود فعل القاهرة أنها لاتزال "تتريث" بشأن إحداث نقلة نوعية فى العلاقات مع طهران، وهى الخطوة التى ترغب فيها الأخيرة وتسعى لها بصورة "سريعة"، ومن ثم فإن القاهرة ربما ترى أن عودة "تدريجية" للعلاقات مع طهران -في حالة حدوث ذلك- هو المسار الأنسب للعلاقات الثنائية على الأقل فى الوقت الراهن.
وفى الأخير، يمكن القول إن زيارة رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى للقاهرة فى نسختها الثانية حملت العديد من الملفات المهمة فى مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، لاسيما ما يتعلق منها بترقية التعاون الاقتصادى، وأنها فى الوقت نفسه عبرت عن دور "العراق الجديد" –إن جاز التعبير- الساعى إلى صياغة سياسة خارجية متوازنة بين إيران من ناحية، والدول العربية من ناحية ثانية، باعتبار أن ذلك من شأنه أن يخلق بيئة مواتية لدول المنطقة تمكنها من الخروج من أزماتها التى لعبت فيها التنافسات والصراعات الإقليمية الدور الأكبر.