تمر العلاقات بين إيران وأفغانستان حالياً بفترة من التوتر والتصعيد، على عكس التهدئة السابقة التي حرص عليها الطرفان على الرغم من وجود العديد من الملفات الخلافية بينهما، التي ما إن كانت تطفو على السطح حتى يسارع أحد الطرفين أو كلاهما لاحتواء الأزمة، نظراً لإدراك الجانبين خطورة التصعيد بينهما، وهو ما بدا واضحاً في التعامل مع الاشتباكات الحدودية المتكررة بين البلدين، وأزمة اللاجئين الأفغان في الداخل الإيراني، التي سرعان ما تم تداركها.
غير أن الخلاف حول حصة إيران من مياه نهر هلمند هذه المرة قد شهد تصعيداً غير مسبوق في حدة التصريحات المتبادلة بين البلدين، بلغت حد تهديد أحد قيادات طالبان بـ"احتلال إيران"، على خلفية اندلاع اشتباكات حدودية عنيفة بأسلحة متوسطة وثقيلة، اتهم فيها كلا الجانبين بعضهما البعض بالبدء في إطلاق النار، وهو ما يُنبئ بإمكانية استمرار الخلاف حتى يتم التوصل إلى توافق حول حلول للأزمة الأساسية المتسببة في التصعيد الأخير والمتمثلة في حصة إيران من المياه القادمة من داخل الأراضي الأفغانية، في ظل الحاجة الملحة لحلحلة أزمة المياه المتفاقمة في الداخل الإيراني.
أسباب رئيسية
لا يعتبر الخلاف حول حصة إيران من مياه نهر هلمند النابع من جبال هندوكوش شمال شرق أفغانستان جديداً، لكن تجدده الآن جاء بدافع الأزمة التي يواجهها النظام الإيراني في الداخل بسبب شح المياه، وتصحر مساحات شاسعة من الأراضي، لاسيما في إقليم سيستان بلوشستان الذي يعتمد على مصدر المياه القادم من أفغانستان.
فخلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الإقليم في 18 مايو الفائت (2023)، طالب رئيسي "حكام أفغانستان بمنح شعب سيستان وبلوشستان حقوقهم المائية على الفور"، مضيفاً أن "طالبان يجب أن تأخذ كلماته على محمل الجد"، وذلك عقب الوقوف على حجم الأزمة التي يعاني منها الإقليم، بسبب اتساع المناطق القاحلة فيه بشكل كبير، وتزايد معاناة سكانه من ندرة المياه في السنوات الأخيرة، بفعل العديد من العوامل التي من بينها، وربما أهمها، سياسة أفغانستان المائية، وتعاملها مع نهر هلمند، سواء بتغيير مساره أو بناء سدود على مجراه.
غير أن طالبان سرعان مع أعلنت عقب مخاطبة رئيسي لها، عن الشروع في بناء سد جديد على نهر فراه، الواقع في ولاية فراه، جنوب غرب البلاد، والذي يغذي الأراضي الزراعية في جنوب غرب أفغانستان، ويصب في مناطق جنوب شرق إيران، ليضاف السد الجديد المزمع إنشائه، إلى سدي كجكي الذي أنشئ عام 1953، وكمال خان الذي أنشئ عام 2021 على مجرى نهر هلمند.
ومع تجاهل طالبان لمطالب إيران بشأن السماح بتدفق مياه نهر هلمند لأراضيها، اتهمت إيران كابول بعدم احترام معاهدة المياه الثنائية الموقعة بين البلدين عام 1973، وعدم قيامها بفتح السدود لتغذية بحيرة هامون في إقليم سيستان بلوشستان، وهو ما نفته طالبان، التي عزت نقص حصة إيران من مياه النهر إلى انخفاض منسوب المياه فيه بسبب قلة الأمطار، الأمر الذي يحول دون إطلاق المزيد من المياه نحو إيران.
كما رفضت طالبان مطلب إيران بإيفاد خبراء إيرانيين مختصين لزيارة سدود أفغانستان، حيث أشار ذبيح الله مجاهد المتحدث باسم الحركة إلى أن زيارة الإيرانيين لسدود أفغانستان لم يتم الإشارة إليها في الاتفاق الموقع عام 1973، مع تأكيد إيران أن لديها صوراً جوية لسدود هلمند تظهر وفرة المصادر المائية فيها.
في المقابل، بلغ تصعيد طهران حد التهديد بطرد اللاجئين الأفغان وإغلاق السفارة وقطع طرق البضائع إلى أفغانستان، إذا ما أصرت طالبان على موقفها من الأزمة المائية، حسب ما ورد على لسان رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف.
وبالتزامن مع التصعيد الكلامي بين الطرفين على خلفية أزمة إدارة الملف المائي بين البلدين، جاءت الاشتباكات المسلحة التي شهدتها حدود البلدين في المنطقة الواقعة بين محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية وولاية نمروز الأفغانية، والتي استمرت قرابة الـ4 ساعات، وأسفرت عن قتلى وجرحى من العسكريين والمدنيين من الجانبين، تم خلالها استخدام الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وإطلاق النار على مقر للشرطة في منطقة "ساسولي" الإيرانية الحدودية - بحسب موقع "حال وش" الذي يرصد أخبار إقليم سيستان بلوشستان- لتشير إلى تطور ملحوظ لنمط الاشتباكات التي اندلعت سابقاً بين البلدين على الحدود منذ استيلاء حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، وتم احتوائها سريعاً من جانب كلا الطرفين.
أزمة ممتدة
ترجح العديد من المؤشرات استمرار الأزمة بين الطرفين، في ظل وجود عوامل حاكمة لسياسات الطرفين المائية، وكيفية إدارة ملف المياه في البلدين، ويتمثل أبرزها في مؤشرين مهمين هما:
1- إخفاق أفغانستان في إدارة ملف المياه رغم الوفرة: على الرغم من وجود 5 أنهار رئيسية في أفغانستان، إلا أنها تعاني من نقص في المياه لاسيما في المناطق الجنوبية من البلاد، وذلك بفعل عدد من العوامل، منها مواسم الجفاف التي تتعرض لها أفغانستان ضمن دول المنطقة التي تعاني من التغير المناخي الشديد التي تشمل باكستان والعراق وإيران، الأمر الذي بات يهدد قطاع الزراعة الذي يعتمد عليه اقتصاد البلاد. إلى جانب غياب الخطط التنموية المستدامة، أو بالأحرى عدم الاستمرار في تنفيذها بسبب عدم الاستقرار السياسي في البلاد، فضلاً عن الاستخدام الجائر للمياه من قبل المواطنين وبصفة خاصة في شمال البلاد، وعدم إدارة الموارد المائية من قبل الحكومة بشكل حصيف، خصوصاً الأنهار.
يأتي ذلك في ظل الاعتماد الشديد على مياه الأنهار في شمال البلاد عند منابع الأنهار فى ري الأراضي الزراعية، ما يؤثر سلباً على منسوب المياه المتدفق نحو الجنوب، في ظل قلة الأمطار، وزيادة معدلات البخر بسبب التغير المناخي، في الوقت الذي يؤكد فيه الخبراء الأفغان على أن البلاد لا تستخدم سوى 25% فقط من ثروتها المائية، في حين تذهب الكميات الباقية إلى الدول المجاورة، وبالتالى تلجأ أفغانستان إلى بناء السدود والأحواض في وسط البلاد كوسيلة للحفاظ على المياه من التسرب عبر الحدود للدول المجاورة، وبالرغم من الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها أفغانستان في الوقت الحالي، فقد أعلنت حكومة طالبان البدء في بناء سد جديد، وأحواض في أطراف العاصمة كابول، في حين أن 70% من المياه الموجودة في العاصمة غير صالحة للشرب، الأمر الذي يستلزم استثمارات كثيفة في مشروعات المياه لسد حاجة أفغانستان من المياه للاستخدامات كافة.
وبالرغم من أن أفغانستان تشترك مع خمسة من دول جوارها في مياه الأنهار، إذ تشترك مع طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان في نهر أمو جيحون، ومع تركمانستان وإيران في نهر هريرود، ومع إيران وحدها في نهر هلمند، ومع باكستان في نهر كابول، إلا أنها قد وقعت اتفاقية تقاسم المياه مع إيران فقط، خلال عام 1973، ومع ذلك لم تحل الخلافات بين البلدين بشأن المياه، وقد اعتبرت إيران عرض الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني عام 2021 إعطاء إيران الماء مقابل النفط، التفافاً على الاتفاقية، واعترافاً بقدرة أفغانستان على الوفاء بحصة إيران المائية من نهر هلمند، لكنها تريد ذلك بمقابل خارج بنود الاتفاقية، ولذلك قدم وزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف، مذكرتي احتجاج إلى أفغانستان بشأن حقوق إيران المائية في نهر هلمند.
2- أزمة إيران المتزايدة من شح المياه: على الرغم من أن أزمة شح المياه في إيران ليست بالجديدة بل توقعها خبراء ومتخصصون منذ عام 2015، عندما حذر وزير الزراعة الإيراني الأسبق، عيسى كالانتاري، من أن شح المياه في البلاد سيدفع ما يقرب من 50 مليون إيراني إلى مغادرة البلاد، أو النزوح داخلياً، لاسيما من المناطق الريفية، فإن هذا التحذير لم ينتج عنه تبني سياسات مائية رشيدة، للمحافظة على الموارد المائية وتنميتها من قبل النظام الإيراني، فيما تشير الإحصاءات الحالية إلى أن أكثر من 5000 قرية في إيران تعاني من نقص المياه، وأن حوالى 7000 قرية أخرى يتم إمدادها بالمياه بواسطة الصهاريج، وذلك وفقاً لتصريحات عضو جمعية المخاطر البيئية والتنمية المستدامة، حميد رضا محبوب فر لوكالة أنباء ميزان الإيرانية في مايو 2022، والتي أوضح فيها أن شح المياه الحالى في البلاد قد جاء نتيجة استهلاك 90% من الموارد المائية السطحية والجوفية في البلاد، وعدم تجدد مصادر المياه في ظل التصحر ونقص كميات الأمطار، وتغير المناخ الذي تعاني منه البلاد. فضلاً عن الاستخدام الكثيف للمياه في الأعمال الزراعية بهدف تحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية كوسيلة لتلافي آثار العقوبات الأممية والغربية التي فرضت على إيران لعشرات السنوات بسبب برنامجها النووي، إلى جانب تلوث المصادر النقية بمياه الصرف الصحى، ما جعلها غير قابلة للاستخدام.
وفي هذا الإطار، أشارت التقارير الدولية إلى أن إيران تحتل المرتبة الـ131 عالمياً من حيث قدرتها على إدارة الموارد المائية، وأن السلطات الإيرانية يقع على عاتقها جزء كبير من أسباب أزمة المياه التي تمر بها البلاد؛ بسبب سياستها المائية غير الرشيدة، والتوسع في بناء السدود، والاستغلال المفرط لموارد المياه الجوفية من خلال استخدام مضخات عالية الطاقة خلال العقود الثلاثة الماضية، وغيرها من أسباب الاستخدام الجائر للمياه.
أمام هذه الأزمة، انتهجت إيران سياسة مائية تمييزية، في ظل احتدام الأزمة في المركز الذي يعاني من عدم وجود مصبات للأنهار فيه، فقامت الحكومات الإيرانية المتعاقبة بتحويل مجرى أكثر من نهر لصالح أقاليم المركز، الأمر الذي أدى إلى جفاف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في الأقاليم الحدودية لاسيما في إقليم الأحواز من خلال تحويل مسار نهر كارون، فيما يظل إقليم سيستان بلوشستان الإقليم الأكثر تضرراً ناحية الجفاف وشح المياه، نظراً لاعتماده في إمدادات المياه على مياه نهر هلمند، القادمة من أفغانستان.
وعلى الرغم من شكوى إيران مع السياسة التي تتبعها أفغانستان تجاه حصتها من المياه القادمة من أنهارها، فإنها تبنت السياسة ذاتها مع العراق، حيث أقرت الحكومة الإيرانية عام 2011 مشروعاً يهدف إلى بناء 152 سداً على عدد من الأنهار، منها نهري وند وكارون الأمر الذي أضر بحصة العراق المائية، وبمساحات زراعية ممتدة في مدن البصرة وواسط وديالى، ما دعا وزير الموارد المائية العراقي، مهدي رشيد، في 10 يوليو 2021، إلى التلويح بلجوء بلاده إلى المؤسسات الدولية للشكوى ضد إيران، والمطالبة بالحصول على نصيب العراق العادل من الموارد المائية القادمة إليه من إيران.
وفي النهاية، يمكن القول إن إيران تواجه معضلتين مهمتين فيما يخص أزمتها المائية، تتصل الأولى بمعاناتها من التغير المناخي والتصحر الذي بات ضاغطاً على النظام داخلياً وسبباً في العديد من الاحتجاجات الجماهيرية، والتي أطلق عليها احتجاجات العطش، التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الماضية، أما الثانية فترتبط بتوتر علاقاتها مع دول الجوار على خلفية السياسات المائية المتبادلة بينهما، بسبب سياسة بناء السدود وحفر الأحواض بهدف الاستفادة القصوى من مياه الأنهار في الداخل، كما تفعل أفغانستان حيال حصة إيران، وكما تفعل إيران حيال حصة العراق، كل ذلك في ظل غياب استراتيجية أو خطة لمعالجة الأزمة في الداخل والخارج، فوفق الرؤية الإيرانية فإن استمرار محاولاتها إدارة صراعها المائي مع أفغانستان يعد الطريق الأقصر لحل جزء من أزمتها المائية في الداخل، الأمر الذي يرجح معه استمرار الأزمة بين إيران وطالبان خلال الفترة القادمة.