* المقال منشور ضمن العدد رقم 105 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية، مايو 2023.
تعرّض النظام الدولي مؤخراً لعدة صدمات دفعت للقول بأن هناك حالة من إعادة التشكيل التي يمر بها، وأن هناك تغير يحدث في ميزان القوى الدولي مدفوعًا بتغير عناصر وأدوات ممارسة «القوة» و»النفوذ» في العلاقات الدولية. وقد كان أهم هذه الصدمات هي الثورة الصناعية الرابعة والتطور الكبير في نظم الذكاء الاصطناعي. لذا، تسعى هذه المقالة لمناقشة تأثير تقنيات الثورة الصناعية الرابعة وبصورة خاصة نظم الذكاء الاصطناعي على شكل القوة وتداعيات ذلك على هيكل النظام الدولي وميزان القوى بين الدول، ثم تطرح مجموعة من التساؤلات التي قد تساعد في فهم عملية إعادة تشكيل النظام الدولي.
أولاً: الصدمات النظامية وملامح تشكل النظام
تمر عمليات التغيير الكبرى في التاريخ البشري بعدة صدمات تدفع في إعادة تشكيلها، كحرب عالمية أو مجاعة أو وباء أو أزمة اقتصادية أو تطور تكنولوجي كبير، ولو افترضنا أن التاريخ يدور في دوائر، فليس هناك شك أن الدائرة الجديدة قد بدأت، وبدأت معها عملية إعادة تشكيل النظام الدولي، فإلى جانب صدمة كوفيد- 19 التي أفرزت واقعاً جديداً “Neonormal” -أصبح هو المُعتاد حاليًا- قائمًا بصورة رئيسية على التكنولوجيا، وبالتزامن مع وجود ملامح لأزمة اقتصادية كبرى قد تؤثر على شكل النظام الدولي، وأزمة عسكرية قد تعصف بما تبقى من هذا النظام من استقرار شكلي، وهي الحرب الروسية - الأوكرانية، ظهرت صدمة أخرى هي التقدم الكبير الذي أحرزته نظم الذكاء الاصطناعي، والتي كان أحدثها هو روبوت المحادثة الفائق ChatGPT.
فمع الصدمات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، تحدث ثورة تكنولوجية كاسحة هي الثورة الصناعية الرابعة تقودها نظم الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء والبلوك تشين والعملات المشفرة والحواسيب الخارقة، ومعها فقدت كثير من الدول سيادتها، على الأقل على مواطنيها، بفعل تقنيات الاتصالات المتطورة والشبكات اللاسلكية، والتي كان لها صدى كبير على الشبكات الاجتماعية وتطبيقات الهواتف الذكية ثم التحول الأكبر عبر “الميتافيرس” وتقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، الذي من شأنه أن يفرز مواطنين جدد داخل عوالم افتراضية لهم قوانينهم وقيمهم المختلفة التي قد تكون بعيدة تمامًا عن سيطرة الدول.
حتى العولمة التي قام عليها النظام الدولي الحالي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والتي تم اعتبارها الإطار القيمي الثقافي للنظام الدولي؛ أصبحت هي الأخرى موضع إعادة تعريف. فنجد أن الدول الغربية التي دفعت نحو تبني هذا النمط العالمي بدأت تتراجع عن سياستها، فأغلقت الحدود وقيّدت حركة الأفراد وعناصر الإنتاج أثناء انتشار وباء كوفيد- 19. كما أنها فرضت حظرًا على التقنيات الذكية والمتقدمة ولم تسمح بتقديمها للدول التي تختلف معها أو تخالف قيمها كالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، وسعت لتقييد حركة المهاجرين إليها مثلما فعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وبدأت تنظر إلى نفسها محاطة بغابة من الوحوش ويجب أن تحافظ على نفسها منهم، مثلما شبه مفوض الأمن والخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في 13 أكتوبر 2022، أوروبا “المتميزة” بـ “حديقة”، والعالم من حولها بـ “أدغال” يمكن أن تغزوها.
لكن من ناحية أخرى، عززت تقنيات الاتصالات من ربط الأفراد ببعضهم، وبدأ يظهر وطن افتراضي عالمي عبر شبكة الإنترنت وقريبًا سيكون عبر الميتافيرس، وانتشرت الأقمار الصناعية التي تبث خدمة الانترنت من الفضاء الخارجي. ولم يعد من صلاحيات الدول منع مواطنيها من الحصول على خدمة الانترنت أو حتى تقييدها، واستطاعت الدول التي عليها حظرًا أو عقوبات اقتصادية مثل إيران من القيام بالتحويلات المالية عبر العملات المشفرة خارج إطار النظام المالي العالمي، واستخدمت مجموعات القرصنة الموالية لروسيا “هجمات الفدية” Ransomware للحصول على التمويل اللازم للعمليات العسكرية عبر استهداف الشركات الأمريكية والغربية ببرمجيات التشفير والفدية، وأصبح العالم أكثر انكشافًا وفوضى من ذي قبل، وأكثر عرضة لصدمات تعمل كمسرعات Accelerator لعملية إعادة التشكيل.
وبات “الذكاء الاصطناعي” قادرًا على محاكاة أسلوب البشر لدرجة يصعب معها التمييز عما إذا كانت رواية معينة قد تم تأليفها بواسطة الذكاء الاصطناعي أم بواسطة الإنسان. ووصلت عملة “البيتكوين” المشفرة إلى مستويات غير مسبوقة من أسعار الصرف أمام ما عداها من العملات التقليدية، وباتت القيمة المضافة للاقتصاد العالمي يسهم فيها الروبوتات والنظم الذكية أكثر من البشر، ودارت طواحين الحرب السيبرانية ليل نهار بين الدول في محاولة منها للتجسس والاختراق وسرقة التقنيات الحديثة وتعطيل أي تقدم من شأنه أن يحقق ميزة نسبية لواحدة على غيرها.
وفي خضم هذا التشابك، فقد أصبح “النظام System” فوضويًا تشوبه حالة اللايقين المطلقة “Absolute Uncertainty”، ويصعب ليس فقط التنبؤ بمساراته، بل حتى رؤية المسارات الواضحة منه. ولم يعد “النظام الدولي” International System غربيًا Western كما كان، بفضل القوى الصاعدة كروسيا والصين والهند، كما أن القيم الغربية التي تم فرضها على النظام والقانون الدوليين أصبحت محل هجوم وموضع نقد لدى كثير من المجتمعات غير الغربية، وخاصةً فيما يتعلق بازدواجية المعايير، مثل فرض العقوبات على الدول التي تختلف في نظامها القيمي عن الغرب وتشكل تهديدًا لمصالحه، والتدخل في النظم السياسية بداعي الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن انتشار دعوات المثلية الجنسية وحرية تحويل الجنس وغيرها مما يتنافى مع النسق القيمي لكثير من المجتمعات.
ونظرًا لأن الصدمات التي يتعرض لها النظام الدولي من وباء وحرب وأزمة اقتصادية وثورة تكنولوجية قادرة على إعادة ترتيب القدرات العسكرية والاقتصادية للدول وتغيير أنماط العلاقات الدولية وإنشاء حاجات وموارد جديدة، فإن ثمة تطور تكنولوجي بحجم الثورة الصناعية الرابعة سوف يساهم في تسريع عملية إعادة تشكيل ميزان القوى بين الدول، ومثلما كان البارود والقنابل النووية من قبل محركًا لإعادة تشكيل النظام الدولي، فإن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية هو المحرك الجديد لإعادة التشكيل لما يتمتع به من تطبيقات ثورية.
ثانيًا: الذكاء الاصطناعي وإدراك “القوة”
في تصريح له قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إن “من يسيطر على الذكاء الاصطناعي سوف يسيطر على العالم”. وفي تقرير للجمعية البرلمانية لحلف الناتو الصادر في أكتوبر 2022 أشار إلى أن “للذكاء الاصطناعي آثار مدمرة على القدرات العسكرية، ومن المتوقع أن يزداد هذا الأثر بشكل كبير خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة”. ومن ناحيته حذر من قبل عالم الفيزياء الشهير ستيفين هوكينج من أن يكون الذكاء الاصطناعي “أسوء شيء يحصل للبشرية”. وتنبأ بأنه “ربما تطور الروبوتات أسلحة قوية ذاتية التحكم أو أساليب جديدة لاضطهاد الكثيرين”، وقال “أعتقد أنه لا توجد فروقات عميقة بين ما يمكن للعقل البيولوجي أن يحققه وما يمكن للحاسوب أن يحققه .. نتيجة لذلك فإنه يمكن للحواسيب -نظريا- مضاهاة الذكاء البشري والتفوق عليه”. كل ذلك ما هو إلا دليل على التأثير الكبير الذي يمكن أن يتسبب به الذكاء الاصطناعي في تغير موازين القوى الدولية.
ويعتبر الذكاء الاصطناعي من أهم محركات الثورة الصناعية الرابعة لما له من تداعيات وتطبيقات لا متناهية. تمامًا مثلما كانت الكهرباء في الثورة الصناعية الثانية، هذا الانتشار الكبير على مستوى الاستخدامات للذكاء الاصطناعي يقابله أيضاً انتشار للقوة Diffusion of power أو تشتيت لها وعدم تمركزها في يد فاعل واحد. فقد يحرز أحد الفواعل الدولية تقدمًا بفضل الذكاء الاصطناعي على مستوى الأسلحة الهجومية كالدرونز ولكن قد يقابله أيضًا تطور على مستوى الأسلحة الدفاعية كالصواريخ القادرة على إصابتها. أيضًا قد يساهم في دعم الاقتصاد وزيادة الإنتاج، لكنه قد يقابله أيضًا قدرة كبيرة على نشر للشائعات واضطراب الأسواق.
وإذا كان من الصعب على فاعل واحد أن يسيطر على الذكاء الاصطناعي خاصة مع تعدد الفاعلين في سباق الذكاء الاصطناعي، فهنا يؤثر مفهوم إدراك القوة Perception of power على شكل النظام الدولي، فإدراك قوة الذكاء الاصطناعي لن يكن بنفس الطريقة عند جميع الدول، وهو ما يدفعها لتعظيم قوتها فيحدث سباق تسلح حول الذكاء الاصطناعي.
على سبيل المثال، لا تُعامِل الولايات المتحدة الأمريكية التطور في نظم الذكاء الاصطناعي الذي تقوم به الصين وروسيا بنفس الطريقة التي تعامل بها المملكة المتحدة وكندا على سبيل المثال، فترى في الأول تهديدًا وترى في الثاني تدعيمًا للأمن. ومن ثم، فإن إدراك قوة الذكاء الاصطناعي له دلالة على شكل النظام الدولي وفقًا للإطار القيمي الذي يحكم الدول الذي تطوره.
لكن من الوارد جدًا أن الدول التي حققت تفوقًا كبيرًا في تطوير نظم الذكاء الاصطناعي، على اختلاف نسقها القيمي، أن تقوم بمعاملته مثلما تعامل الأسلحة النووية حاليًا، فيتم فرض حظر على نظم الذكاء الاصطناعي المتقدم، وتحدد طبيعة الاستخدامات التي يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي فيها، وتنشأ منظمة تراقب عمليات البحث والتطوير، وذلك حتى لا تمتلكها غيرها من الدول بداعي التخوف من الوقوع في أيادي أُناس غير مسئولين يُسيئون استخدامها نظرًا لما تتمتع به هذه النظم من قدرات غير مسبوقة، فتحرم بذلك غيرها من الدول من الحصول على حق آخر من حقوق امتلاك القوة ألا وهي قوة الذكاء الاصطناعي.
ومع تعاظم التأثير الذي تلعبه التقنيات الذكية التي نجمت عن الثورة الصناعية الرابعة في الشؤون العسكرية من نظم الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار والمركبات المستقلة والحواسيب الخارقة والكمومية والأسلحة السيبرانية والمعلومات الاستخباراتية التي يمكن الوصول إليها من المصادر المفتوحة (Open Source Intelligence) يمكن أن يؤدي ذلك إلى ثورة جديدة في الشؤون العسكرية Revolution in Military Affairs (RMA). وتاريخيًا حينما تحدث ثورة في الشؤون العسكرية يؤدي ذلك إلى حدوث تغير استراتيجي على مستويين رئيسيين: أولهما، مستوى تغير شكل وأدوات وعناصر القوة، وثانيهما، مستوى النظام الدولي وميزان القوى الدولي، وهو ما سيتم مناقشته في السطور التالية.
ثالثًا: الثورات الصناعية وتغير أشكال «القوة»
كان الإنسان القديم يعتمد على قوته الجسدية لضمان بقائه على قيد الحياة والنجاة من شركاء الطبيعة، لكن هذا وحده لم يكن كافيًا، فبدأ في توظيف أدوات الطبيعة من حوله لتدعيم قوته، فصنع الحراب من الخشب والخناجر من الحجر. ومع اكتشاف النار ثم الحديد استطاع الإنسان أن يكتسب مزيدا من القوة بصناعة السيوف والسهام والفؤوس، ثم تعاظمت هذه القوة مع اكتشاف البارود.
ومع دخول عصر الثورات الصناعية المتعاقبة تغير مفهوم القوة وعناصرها بشكل كبير، ففي الثورة الصناعية الأولى Industry 1.0 التي استمرت من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر تغير مفهوم القوة بفعل توظيف الفحم وقوى البخار، واستطاع الإنسان خلالها بناء الآلات والمحركات الضخمة التي تساعده في القيام بالوظائف الصعبة التي لن تسعفه فيها قوته الجسدية، فأنشأ السفن والسكك الحديدية وبنى المصانع، وما أن اكتملت هذه الثورة حتى بدأت الثورة الصناعية الثانية Industry 2.0 على مكتسبات الثورة الأولى، فاكتشف الإنسان الكهرباء ووظفها إلى جانب قوى البخار، ومن بعدها تغير شكل الحياة البشرية فظهرت نظم الإنارة في الشوارع والمنازل، وظهرت الآلات والمصانع الضخمة ونظم الإنتاج، وتغير شكل المواصلات، فظهرت الطائرات والمركبات إلى جانب السفن والسكك الحديدية، ومعها ظهرت البنادق الآلية والطائرات الحربية والمركبات العسكرية والدبابات.
ومع بداية اختراع الكمبيوتر في خمسينات القرن الماضي، بدأت الثورة الصناعية الثالثة Industry 3.0 القائمة على المعلومات، والتي استمرت قرابة نصف قرن من الزمان، حتى بدأت تظهر وفرة في المعلومات وتعاظم تأثير دور المعلومات في إدارة الحروب الحديثة بشكلها التقليدي. وبدأ يظهر مصطلح «حروب المعلومات» في الكتابات الأكاديمية. ومع تطور حجم الترانزستور ساهم في تسريع عملية دخول الثورة الصناعية الرابعة Industry 4.0 ، التي بدأت منذ أكثر قليلاً من عقد من الزمان، مدفوعة بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والاتصالات اللاسلكية، تغير أيضًا شكل القوة، فانتقلت الحروب من مرحلة المواجهة المباشرة بين الجنود عبر السيوف والرماح إلى مرحلة المواجهة عن بعد عبر الدرونز والربوتات، مرورًا بكل مرحلة تغيُر ظهر فيها قوة معينة مثل الدبابات والغواصات والطائرات ونظم الدفاع الجوي وصولاً إلى القنابل النووية والصواريخ البالستية ثم مؤخرًا الصواريخ الفرط صوتية، وهي كلها عبارة عن تطورات تكنولوجية بالأساس.
ومع تطور نظم الذكاء الاصطناعي فإن تأثيراتها باتت متعدية لكافة أوجه القوة التقليدية سواء العسكرية أو الاقتصادية أو حتى الثقافية، فتصبح الأسلحة ذاتية التشغيل، تشمل الدرونز والروبوتات المقاتلة والمركبات والغواصات المستقلة Autonomous والجيل الخامس من المقاتلات، وتتوقف كفاءة استخدام أنواع القوة المختلفة سواء الصلبة والناعمة والذكية على درجة وكفاءة توظيف الذكاء الاصطناعي فيها.
ويصبح الاقتصاد قائمًا على القيمة المضافة التي يساهم بها الذكاء الاصطناعي سواء على مستوى المنتجات أو تحليل البيانات أو اتخاذ القرارات، وفي النهاية تنشأ ثقافة عالمية وإطار قيمي جديد يقوده ويفرضه الذكاء الاصطناعي سواء على مستوى العلاقات الإنسانية أو العلاقات الدولية، ويصبح بمثابة المرجع الذي يضع للبشرية كلها قوانينها وتشريعاتها وعاداتها وتقاليدها.
رابعًا: الثورة الصناعية الرابعة وتحولات ميزان القوى
مع كل تطور في شكل القوة كان هناك تغير في شكل النظام الدولي وميزان القوى، فمثلاً انتقلت القوة من إسبانيا والبرتغال القوتين العظميـين في أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي إلى هولندا التي أصبحت القوى العظمى في القرن السابع عشر بفضل التطور الهائل في قوتها البحرية، ومع دخول الثورة الصناعية والتحول إلى البارود والرصاص تحول ميزان القوة نحو بريطانيا العظمى وفرنسا لفترة طويلة من الزمن، ومع ظهور القوة النووية سيطر على النظام الدولي الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي كل مرحلة من مراحل إعادة التشكيل تقوم القوى المسيطرة على النظام الدولي بفرض رؤيتها وقوانينها على العالم، فحينما تقاسمت بريطانيا وفرنسا العالم كان يسوده إطار قيمي بين الفرانكفونية والكومنولث. وحينما اعتلى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية قمة النظام الدولي سيطرت الشيوعية والليبرالية على ملامح النظام الدولي. ومع دخول عصر المعلومات وانتشار شبكات الكمبيوتر والإنترنت سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية بصورة شبه منفردة على النظام الدولي لفترة من الزمن، استطاعت خلالها أن تفرض رؤيتها ونموذجها القيمي والثقافي على العالم.
فخلال كل مرحلة من مراحل إعادة تشكيل النظام الدولي تكون هناك قوة دافعة ومحركة لهذا التشكيل، مثلما كانت القوة البحرية والبارود والقوة النووية، وحاليًا أصبح الذكاء الاصطناعي باعتباره أحد أهم مرتكزات الثورة الصناعية الرابعة هو القوة المحركة الجديدة لإعادة تشكيل النظام الدولي، لذا ليس من المستعبد أن تكون الدول أو الدولة التي تمتلك هذه القوة الجديدة هي التي تفرض سيطرتها على العالم.
ونظراً لأن الذكاء الاصطناعي يتفاعل مع غيره من أبعاد القوة التقليدية، فإن ذلك قد يزيد من الفجوة بين مركز النظام الدولي والأطراف Peripheral ، فتزداد الدول التي طورت تقنيات الثورة الصناعية الرابعة قوة وتزداد باقي الدول في النظام الدولي ضعفًا .
وتتطلب مرحلة إعادة التشكيل هذه المرة النظر في المفاهيم التقليدية مرة أخرى، حتى يمكن تسمية الأشياء بمسماها الصحيح، فندرك ما نقصد، ونفهم ما نتفق ونختلف عليه، ونضع الآليات المناسبة للتعامل مع الظواهر المتغيرة والجديدة. ثم تأتي عملية صياغة مفاهيم تفسيرية جديدة تشرح الظواهر التي أفرزتها عملية إعادة التشكيل، وصياغة كذلك إطار نظري يمكن من خلاله فهم الواقع الجديد وتفسيره بما يخدم عملية صُنع القرار، بدايةً من التعريف التقليدي لمفهوم الدولة “State”، والحرب “war”، والنظام “System”، والدولي “International”، والإقليمية “Regional”، والفرعي “Sub regional”، والأصدقاء “Friends”، والأعداء “Enemies”، والقيم “Values”.
ختامًا، ثمة تساؤلات مهمة مازالت مطروحة من أجل فهم عملية إعادة التشكيل ومنها: هل ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية قوة مهيمنة على النظام الدولي تستطيع التأثير فيه سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا؟ حتى وإن كانت، هل لا زالت تمتلك الدافع والرغبة في تحقيق ذلك، أم أنها تحاول فقط التصرف وكأنها قوة مهيمنة “Act as”؟ أي تحاول الحفاظ على مكانتها “Prestige” وشكلها كقوة دولية دون امتلاك آليات حقيقية للتأثير.
أيضًا، أي مفهوم نقصد بالعولمة، وما هو تعريف الهيمنة، وأي مفهوم نقصد بالدولة، وماذا نقصد بالسيادة، وما هو تعريف المواطن، وكيف يمكن تحديد المصلحة القومية، وما هو شكل النظام الدولي الذي تمر من خلاله هذه التفاعلات، ومن هم المؤثرين فيه، وما هي عناصره، وما هي مرجعية القيم التي سوف تسيطر عليه، وكيف سيكتسب شرعيته؟ فإذا كان النظام الحالي اكتسب شرعيته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق من انتصار الأيديولوجية الرأسمالية الغربية على المعسكر الاشتراكي، وكانت مرجعتيه مادية غربية، كيف سيستقي النظام العالمي الجديد، إن جاز التعبير، مبادئه وقيمه، ومن أي اتجاه؟ هل من الذكاء الاصطناعي وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة؟ أم من حرب عالمية جديدة يفرض فيها المنتصر رغبته على الجميع؟
هذا على مستوى المفاهيم الراسخة التقليدية التي بدأت تتغير، لكن ماذا أيضًا عن المفاهيم الجديدة التي سوف تفرزها مرحلة إعادة التشكيل، أي المفاهيم التفسيرية التي يمكن أن تشرح الظواهر المستجدة بفعل الثورة الصناعية الرابعة. وهل هذا النظام الدولي سوف يعطي الدول وضعها باعتبارها الفاعل الرئيسي فيه، أم سيعظم من دور فواعل آخرين مثل شركات التكنولوجيا العملاقة التي أصبحت لديها قدرات تأثير أكبر من الدول؟ وما هي الصيغة التي يمكن أن تنشأ من تفاعل الدول مع هذه الشركات؟ وما هي المؤسسات الدولية التي يمكن أن تظهر لكي تحكم هذه العلاقة وتديرها؟ وفي النهاية ما هو الإطار النظري الذي يمكن من خلاله فهم الواقع وتفسيره وتحليله والتنبؤ بمساراته وتحديد اتجاهاته، حتى تستطيع الدول أن تعرف، وفق قدراتها وإمكانياتها، أين ستكون وعلى أي شكل ستكون حينما يتشكل هذا النظام الجديد؟