"الذاتية" هى كلمة السر للدخول لعالم مختار تصنعه الفقاعات التكنولوجية، عالم يجمع بين الافتراضى والواقعى، عالم يمثل أسلوب حياة القرن الـ21، أسلوبًا يعتمد على أنماط ومغذيات معرفية وفكرية تصيغ العقول وأنماط التفكير وتشكل الوجدان. فتلك الفقاعات ليست كمثيلاتها التى عرفها الإنسان عبر تطور مجتمعاته وأسلوب معيشته وارتبطت بفترات زمنية، وأخذت أشكالا متعددة اقتصادية واجتماعية وسياسية، أو عبرت عنها رغبات شخصية وجماعية فى الانتماء لجماعات مغلقة، أو الرغبة فى العزلة أو الانغلاق. فهى تعبير عن انتقال الإنسان إلى عالم جديد يهيمن عليه الذكاء الصناعى، وتغذيه الثورة التكنولوجية، لبناء فكر جمعى متعدد يتجاوز الواقع المعيشى ويرتبط بأنماط معيشية وفكرية عولمية.
نحن إذن أمام واقع جديد يتشكل بوتيرة سريعة ويضع تحديات كبرى لاسيما فى المجتمعات التقليدية التى تصبغ بقشور حداثية، وتعانى من تداعيات محاولات اللحاق بمخرجات الثورة التكنولوجية، وما أحدثته المنصات الرقمية من تشكيل للذهنية والعقل الجمعى، خاصة لدى الأجيال الشابة، التى يتنامى منظورها الخاص لذاتيتها وتقاطعاتها مع محيط أسرتها والمجتمع والدولة، ورؤيتها للمستقبل، وصناعتها لعالمها الخاص من خلال أشكال متعددة من الفقاعات الإليكترونية، والتى امتدت على سبيل المثال إلى التعليم والعمل عن بعد، فضلا عن التطبيقات الترفيهية والحوارية. فى المقابل تراجع دور مؤسسات التنشئة التقليدية، ودور المؤسسات الثقافية، وتلك المعنية بتشكيل الرأى العام وتحديد مساراته، لتتقلص التفاعلات الاجتماعية المستندة إلى التواصل المباشر واستعاضتها بأشكال ووسائل التواصل الاجتماعى.
التمحور حول الذات وتنميط الحياة، وتحديد أشكال ومستويات التفاعل الاجتماعى، سمات واضحة لعدد الفقاعات التى يصنعها كل فرد لنفسه، ولحجم مساحة التفاعل الافتراضى مع الواقع، وحدود التوجه نحو المجتمع العولمى ونظرته للمجتمع المحلى، وهو ما ينعكس بالتبعية على العلاقة الثلاثية التى تجمع بين المواطن والمجتمع والدولة، ودور المواطنة ودرجة الوعى بها كقاعدة بناء للدولة الحديثة وتعزيز لروابط التماسك المجتمعى.
أولًا: المواطنة وعولمة المفهوم
تجدر الإشارة هنا، إلى أهمية الوقوف حول تأثير الفكر العولمى وما أحدثته الثورة التكنولوجية والمنصات الرقمية من تغيير فى أنماط الوعى وطبيعة المشاركة والنظر للحقوق والواجبات من قبل المواطن، وتأثير ذلك على الفهم التقليدى لقيمة المواطنة القائمة على التقنين القانونى للمساواة بين أعضاء المجتمع فى الحقوق والواجبات، وارتباطها بحجم المشاركة والانتماء والولاء مع مفهوم الدولة والعلاقة المجتمعية، وارتباطها أيضًا بطبيعة المنظور الأخلاقى والقيمى المحدد للسلوك التى يفرضها المجتمع.
هذا الفهم يكتنفه الكثير من التساؤلات، وربما الغموض الذى يحيط بالكثير من القيم والمرتكزات التى بنيت عليها مجتمعاتنا، وهو أمر مفهوم ولكنه ربما لا يكون مقبولًا فى بعض جوانبه ويتطلب المراقبة والتتبع لما تفرضه المتغيرات ولحظات التحول من تأثيرات على طبيعة التفاعلات وتغير البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع. لذا ذهب العديد من الدراسات لتوصيف ماهية المواطنة العالمية كمدخل للترويج للنموذج الغربي، كما استندت دراسات أخرى إلى المنظور الاستشرافى للوقوف على حجم التأثير العولمى والتحولات الكبرى التى تحيط بدور الإنسان وعلاقته بالطبيعة والكون وبهويته وخصوصيته وتنوعه الثقافى. كذلك ذهبت بعض الدراسات إلى التأكيد على أهمية إدراك حجم التغير الذى ارتبط بصفات المواطنة فى الألفية الثالثة، وأن منظور الحقوق والواجبات لم يعد كافيًا، وأن الفعالية والمشاركة سوف ترتبط بدرجة الشعور بالاستقلالية والمنظور الذاتى للأخلاق والقيم. وأن حجم المشاركة ومساراتها سوف تتحدد وتنظم بناء على الاعتبارات العملية تجاه المجتمع الذى يعيش فيه والرؤية الحاكمة لحدود المسئولية. من هنا يمكن التأكيد على مجموعة من المعانى والدلالات التى ترتبط بحدود تطور مفهوم المواطنة:
1- المنظور الأحادى للمواطنة: هو منطلق لصياغة المجتمع العالمى، وتحديد لنمط المشاركة والمسئولية للمواطن العالمى فى هذا المجتمع. ويتقاطع مع المنظور المتعدد للمواطنة باعتبارها مصدرا للشرعية السياسية وللعلاقات الاجتماعية ولبناء الدولة الحديثة. ولكنه يثير فى نفس الوقت قدرًا من التعارض بين الرغبة فى الانتماء للمجتمع العالمى مع ما يحمله من تعارض فى منظور الانتماء للدولة الوطنية وسيادتها وخصوصية المجتمع وثقافته. بهذا المعنى نكون أمام تحدٍّ متعدد المحاور فرضته العولمة والثورة التكنولوجية ونوعيات التطبيقات الرقمية، وسبل التعامل معها فى ظل مجتمعات نامية يغلب عليها الطابع التقليدى ولا تزال تعانى قصور التحول لمجتمعات المعرفة. ويواجه العديد من الاختلالات وعدم الوضوح التى تفرضها المرحلة الانتقالية وما تقتضيه من تعامل مع تحديات مثل: الأمية، والأمية الرقمية، وفجوة الأجيال، والمنظور المختلف لمفاهيم وقيم حاكمة كالمواطنة والوطن والأمة والمجتمع والدولة. الأمر الذى يتطلب وعيًا وفهمًا ومتابعة ودراسة لطبيعة وحجم التحولات من قبل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية واستيعابًا من قبل القوى السياسية والاجتماعية والنخب الثقافية.
2- المواطنة الرقمية: تظهر كسمة لهذا العصر، وتعبر عن مسار التطور التقنى وقدرته على تشكيل ما يعرف بالمجتمع الرقمى، الذى يتزايد تأثيره وفعاليته فى تشكيل الحياة وأسلوب التعامل مع الآخرين والمجتمع. ويعيد صياغة مفهوم المواطنة، وحدود الشعور بالمواطنة وإدراكها تجاه المجتمع الواقعى، فالمنصات الرقمية ساهمت بايجابياتها وسلبياتها فى تغيير العديد من أنماط وأشكال التفاعل الاجتماعى والثقافى.
3- المواطنة الافتراضية: ترتبط بالانتقائية وماهية مجتمع الفقاعات، وهى تختلف عن رؤية وفلسفة المواطنة الرقمية التى تساعد على تعزيز المشاركة كمواطن فاعل فى المجتمع ككل من خلال وسائل التواصل واستخدام الإنترنت. فالمواطن الافتراضى هنا يكون منعزلًا ومحددًا لأنماط مشاركته ودرجة تفاعله وأوقاتها داخل الفقاعة التى يختارها سواء كانت معبرة عن قضية عامة أو خاصة. كما أن اهتماماته تنصب على أولوياته ودوائر انتمائه، بالقدر الذى يساهم فى زيادة الاستقطاب والتجذر حول الولاءات الأولوية والأيديولوجيات بعيدًا عن متطلبات تعزيز الاستقرار الاجتماعى والتوافق على منظومة القيم وبناء أطر المشاركة. لاسيما مع زخم التطورات الثقافية والقيمية الوافدة على مجتمعاتنا، وما تحدثه من اختلالات مجتمعية تفقد معها بوصلة حركة المجتمع. فالعزلة والانتقائية التى تحدد نمط المشاركة والمسئولية للمواطنة الافتراضية تتجلى بوضوح فيما تعكسه وسائل التواصل الاجتماعى من استقطاب، فعلى سبيل المثال، نجد أن الموقف من الحرية وإطلاق حدودها تعبر عن إحدى تلك الإشكاليات المجتمعية الكبرى المثيرة للجدل، والتى تتزايد حدتها وتذهب إلى مساحات لم تطرقها من قبل مثل الهوية الجنسية واختيار النوع الاجتماعى. فالجدل المجتمعى ـ وليس الحوار هو الحاكم حول حدود الحرية ومن يحددها وما هى المرجعية، تمثل أحد التحديات التى تطرحها قضية المواطنة الافتراضية عبر وسائل التواصل الاجتماعى، الأمر الذى يدفع بضرورة الاهتمام بقضية المواطنة وترسيخها فى الوعى والوجدان حتى يمكن أن تمثل ركيزة بناء وليس أداة تفكيك. ونكون أمام مفهوم واحد للمواطنة وليس أمام مفاهيم ومسميات متعددة لها كما يحدث الآن لمفهوم الهوية والحديث عن هويات متعددة داخل المجتمع بهدف التفكيك.
4- المواطن والوعى بالمواطنة: تشكل التحولات والتطورات التكنولوجية التى ترتبط بفلسفة وجود الإنسان ودوره فى الحياة والإعمار، وعلاقته بالمجتمع العالمى والمواطنة العالمية، ورؤيته للمستقبل والتمازج بين العالم الافتراضى والواقعى، جميعها تحولات وظواهر جديدة سوف تفرض واقعًا جديدًا يتعلق بطبيعة دور الإنسان ومسئولياته تجاه مجتمعه ودولته. وسوف تمس منظور المواطنة وحدود التماسك والاندماج المجتمعى، لاسيما مع تنامى المعايير المادية وتراجع المشاعر الإنسانية. وبالتالى ستمتد التأثيرات –وإن كانت بدرجات متباينة– إلى العديد من التفاعلات والعلاقات الأساسية المرتبطة بكون المواطنة قيمة عليا، ومن ثم، تتعدد أنماط المشاركة، والتى سوف يغلب عليها الطابع الانتقائى، والانحياز الفكرى والعقائدي، وليس التكامل والاندماج والتضامن. وهى مهددات للنسيج الاجتماعى وروح المواطنة. وبالتالي، نكون أمام مواطنة افتراضية تتوافق والمزج القائم بين العالم الافتراضى والواقعى، ومواطنة تستند إلى منظور وفلسفة أجيال رقمية، وهى بكل الأحوال سوف تقوم على رؤية أجيال تتوافق مع عصرها، ولكنها ستواجه فى نفس الوقت تحدى الواقع المجتمعى ذا الأفكار التقليدية والممارسات المعبرة عن درجة تطوره وقوة بنيانه المجتمعى وتعدده الثقافى والقيمى والجيلي.
ثانيًا: الفقاعات مرآة المجتمع
هل تعدد الفقاعات وتنوعها يعكس حالة خاصة ترتبط بالفرد أو الجماعات المشاركة، وهل تعبر عن حقيقة المجتمع وطبيعة بنيته وتفاعلاته، أم أنها مجرد مسايرة لواقع جديد ورغبة فى التفاعل مع أدوات العصر والاستفادة من ثمارها فى تحسين سبل المعيشة؟. أم أنها مزيج من الحالتين؟، فطبيعة التحولات لا يسعنا معها التأمل بأكثر من نتائج انطباعية حول درجة التماسك المجتمعى والخصوصية الثقافية والتمسك بالهوية الوطنية. لاسيما فى المجتمعات النامية ومنها مصر التى تحتاج إلى دراسات ميدانية وقياس لتوجهات الرأى العام للوقوف على حجم وعمق التغيير، وسبل تشكيل الواقع الاجتماعي، لاسيما مع استمرار مشاركتنا كمستهلكين ومستخدمين لمخرجات الثورة التكنولوجية وما تحدثه من تشوه لواقعنا المعاش. الأمر الذى ينعكس على مشاركة المواطن وارتباطه بالمجتمع والدولة، وقدرته على تحويل مشاعره وإدراكاته من كونه أحد رعايا الدولة إلى كونه مواطنًا كامل الأهلية قادرًا على التفاعل الإيجابى وتحمل المسئولية عن وعى ومعرفة بحجم التحديات والفرص المتاحة للمحافظة على الهوية. وعدم الانسياق لما نشهده من تنامٍ لمجتمع الفقاعات وما يحكمه من فلسفة تقوم على الانتقاء والاختيار والعزلة استنادًا إلى التعدد الثقافى والفكرى والطبقى والسيولة السياسية، مما يسفر فى النهاية عن تكون الكثير من المجتمعات المغلقة داخل المجتمع الكبير، تمارس فيها المواطنة بمنظور هذا التعدد القاصر عن رؤية المجتمع ككل.
فالملاحظ أن النقاش حول قضايا المواطنة فى مجتمعاتنا العربية ومنها مصر، لا يزال يعتصره الكثير من الاتجاهات ذات المرجعيات المختلفة، وأن تأثير وإدراك المواطنة لا يزال قاصرًا لدى العديد من الفئات والشرائح نتيجة العديد من الأسباب والمرجعيات الفكرية والدينية. وأن العقد الاجتماعى بين الدولة والمواطن يحتاج إلى إعادة التأكيد على طبيعة المسئوليات والأدوار، وأن تأثيرات البيئة الدولية والإقليمية الدافعة لعدم الاستقرار وإعادة هندسة المجتمعات على أسس طائفية وعرقية ومذهبية. فضلا عن تعثر عملية التنمية مازالت تلقى بتبعاتها وتداعياتها على العديد من القضايا ذات التأثير السلبى على تماسك المجتمعات، وفى مقدمتها المواطنة.
صحيح أن معادلة البناء والتفكيك التى يشهدها العديد من المجتمعات العربية، ومحاولات إعادة صياغة مرتكزاتها وتفاعلاتها الداخلية تنم عن الكثير من مظاهر التعقيد والتشابك والتغير فى قواعد البنية الاجتماعية. ولكن من الصحيح أيضًا أن هناك قفزات وتطورات تشير إلى آفاق بناء ومواكبة لروح العصر مع مقاومة لـ «تسامٍ» ثقافى وأيديولوجى يتم من خلال وسائل التواصل الاجتماعى والمنصات الرقمية، وتوظيف من قبل القوى الدولية.
فاستهداف الأفراد وقدرة الأشخاص على المقاومة وترشيد التفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم الاستسلام لعزلة الفقاعات، والاستفادة من فرص وإيجابيات هذه الفقاعات فى تفعيل دورهم كمواطنين، يتجاوزون الانحياز والتعصب. تتطلب تجنب العديد من المخاطر التى تحيط بفكر الفقاعات وفلسفتها الداعمة للتجذر والتقوقع. وبالتالى البعد عن الإحساس بمخاطر التباعد وما يترتب عليها من انحيازات فى المشاركة والرؤية للمسئولية المجتمعية.
لذا، من الضرورى الأخذ فى الاعتبار، وسط هذه التحولات الكبرى ماهية المجتمعات التى يغلب عليها الطابع التقليدى مثل مجتمعنا المصرى، والتى يتزايد فيها الشعور والإحساس بأزمة المتغيرات والتطورات وخطورتها على بنية تلك المجتمعات، وتظهرها التفاعلات الاجتماعية، وما تحمله من تغيير فى السلوكيات وفى المنظور القيمى والديني. الأمر الذى يشير بوضوح وبعمق إلى أزمة التحولات أو الانتقال من أنماط وأسلوب حياة إلى أخرى فرضت بدون توافر الوعى والإدراك الكافى لتأثيراتها السلبية.
وهو ما يتطلب فى المقابل تنامى إدراك المواطن بمواطنته وحاجته للمحافظة على الخصوصية الثقافية وتأكيد الهوية، ويتطلب أيضًا تطوير البيئة الحاكمة والعوامل المحفزة والدافعة على ترسخ قيمة المواطنة من خلال ربط محددات البناء السياسى والاجتماعى والاقتصادى بحوكمة إدارة الدولة وقوة بنية المجتمع. ويتطلب كذلك التمسك بمبادئ المواطنة عبر تحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير العيش الكريم، وتعزيز روابط الانتماء للوطن، ومواجهة ظواهر مثل: تراجع قيم التسامح، والميل إلى الانغلاق الفكرى، وتنامى الشعور باللامبالاة والذاتية والأنانية.