على مدى أكثر من عِقد، شهدت العديد من الدول العربية تحولات داخلية لا تبدو هينة ما زالت ارتداداتها قائمة حتى الآن، على غرار ما يحدث في ليبيا وسوريا واليمن. ورغم أن ثمة أسباباً داخلية عديدة كان لها دور في حدوث هذه التحولات، إلا أن ذلك لا ينفي أن الأدوار الإقليمية التي قامت بها بعض دول الجوار، وتحديداً تركيا وإسرائيل وإيران، أسهمت بدورها في تعميقها واستمرارها حتى الآن.
وتبدو حالة سوريا واضحة في هذا السياق، حيث تحولت الأخيرة – حسب ما أشارت أدبيات عديدة – من "لاعب" إلى "ملاعب"، بفعل تزاحم النفوذ وتقاطع المصالح بين تلك الدول الثلاث، التي تسعى إما إلى تعزيز حضورها أو تحييد حضور الآخرين.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن هذه الدول الثلاث التي كانت صاحبة دور بارز في هذه التحولات، باتت تشهد بدورها تحولات داخلية لا تبدو هينة. إذ تواجه تركيا أزمات صعبة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعد وقوع الزلزال في 6 فبراير الماضي، قبل نحو ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي سوف تجرى في 14 مايو 2023.
وما زالت أسباب الاحتجاجات الداخلية في كل من إيران وإسرائيل قائمة رغم خفوتها على الأقل حالياً، حيث نجحت الأولى في احتواءها دون معالجة أسبابها الحقيقية بعد وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا اميني، فيما اتجهت الثانية إلى تأجيل أسبابها لمرحلة أخرى بعد قرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتأجيل مشروع تعديل قانون الإصلاح القضائي الذي كان العنوان الرئيسي لهذه الاحتجاجات.
وكان لافتاً في هذا السياق ظهور مفردات جديدة لم تكن معهودة في بعض تلك الدول، على غرار تزايد الحديث عن تكوين مليشيات، مثل مليشيا الحرس الوطني، واندلاع حرب أهلية وتماسك المؤسسة العسكرية في إسرائيل. فهذه المفردات تحديداً كانت قاصرة حصراً على دول الأزمات في المنطقة.
والمفارقة هنا، أن المسألة لم تنته عند هذا الحد. بل إن هذه الأزمات الداخلية التي تواجهها الدول الثلاث باتت تفرض تداعيات مباشرة على السياسات الخارجية لكل منها. إذ وجّهت إيران ضربات عسكرية أكثر من مرة ضد جماعات كردية إيرانية مسلحة في شمال العراق بحجة تهريبها للأسلحة إلى داخل أراضيها كان آخرها 14 في نوفمبر 2022.
كما نفذت تركيا ضربات مماثلة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، كان آخرها في 8 أبريل الجاري، حيث استهدفت اغتيال قائد مليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" السورية مظلوم عبدي خلال وجوده في مطار السليمانية. في حين تواصل إسرائيل حتى كتابة هذه السطور ضرباتها العسكرية داخل سوريا ضد المواقع التابعة لإيران والمليشيات الموالية لها، توازت مع تصعيد مع الفصائل الفلسطينية واحتكاكات مع حزب الله اللبناني، بعد اقتحام المسجد الأقصى.
دلالات رئيسية
هذه التحولات في مجملها تطرح بدورها دلالات رئيسية ثلاث تتمثل في:
1- اللجوء إلى تسكين الأزمات دون حسمها: وهو ما يبدو جلياً في حالتي إيران وإسرائيل. ففي الأخيرة، نجح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مؤقتاً، في احتواء الاحتجاجات الداخلية التي اندلعت في 4 يناير 2023 بفعل الحملة التي شنتها قوى المعارضة ضد مشروع تعديل قانون الإصلاح القضائي الذي ضغطت قوى عديدة في الائتلاف الحكومي من أجل تمريره، بعد ستة أيام فقط من منح الثقة للحكومة الجديدة. وقد نزع نتنياهو فتيل الأزمة، مؤقتاً، عندما أعلن، في 27 مارس 2023، عن تعليق المشروع مؤقتاً حتى الدورة البرلمانية المقبلة، داعياً إلى الانخراط في حوار مع قوى المعارضة حول هذا المشروع في المرحلة المقبلة.
وربما لا يمثل ذلك تراجعاً كبيراً من جانب نتنياهو، وإنما هو أقرب إلى خطوة تكتيكية بغرض توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامه في التعامل مع ضغوط حلفائه قبل خصومه. ويبدو أنه ينتظر ظروفاً أكثر نضوجاً لطرح المشروع مجدداً، وربما يُعوِّل على إضعاف المعارضة أو إحداث انقسام فيما بينها أو تليين بعض مواقف حلفائه بشكل يمكن أن يساعده في النهاية في تمرير المشروع.
وهنا، فإن ذلك معناه أن أسباب الأزمة ما زالت قائمة وأنها قد تتجدد مرة أخرى في حالة ما إذا أخطأ نتنياهو في حساباته لتوازنات القوى بين ائتلافه الحكومي وقوى المعارضة. فضلاً عن أن هذا التكتيك لا يكتسب مصداقية واسعة لدى الأطراف المناوئة للمشروع التي ما زالت تتظاهر ضده حتى الآن.
وفي إيران، تمكن النظام من احتواء الاحتجاجات التي اندلعت منذ منتصف سبتمبر 2022 اعتراضاً على وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا اميني بعد توقيفها من قبل شرطة الأخلاق بحجة عدم التزامها بقواعد ارتداء الحجاب. ورغم أن استمرار الاحتجاجات لأكثر من خمسة أشهر فاجأ النظام، إلى جانب القوى المعنية بما يحدث داخل إيران، إلا أنه في النهاية نجح في تقليص حدتها، وساعدته في ذلك عوامل أخرى مثل برودة الطقس في شهور الشتاء إلى جانب حملة الاعتقالات الواسعة التي شنها. لكن هذا الاحتواء يبدو مؤقتاً، بانتظار نضوج ظروف أخرى تكون مواتية لتتجدد الاحتجاجات مرة أخرى.
2- تبني سياسة الهروب إلى الأمام: كان لافتاً أن الدول الثلاث اتجهت في خضم هذه التحولات إلى التصعيد في الخارج. ورغم أنها استندت في هذا السياق إلى مبررات عديدة منها تصاعد حدة التهديدات التي تواجهها من جانب أطراف مناوئة لها، فإن ذلك لم يقلص من وجاهة الاتهامات التي تعرضت لها من جانب قوى داخلية اعتبرت أن هذا التصعيد هو محاولة للهروب إلى الأمام من أجل توجيه الانتباه بعيداً عن التحولات الداخلية وتعزيز القاعدة الشعبية الداخلية.
ففي إسرائيل، وجّه قادة الاحتجاجات انتقادات قوية لنتنياهو، اتهموه فيها بتأجيج التصعيد مع الفصائل الفلسطينية عبر عملية اقتحام المسجد الأقصى من أجل تقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها بسبب الاحتجاجات الداخلية، وأشاروا إلى أن أحد أهداف هذا التصعيد يتمثل في تغيير المزاج العام في الداخل بشكل يمكن أن ينتج ظروفاً مختلفة أو يساهم في تغيير التوازنات على نحو يساعد نتنياهو لاحقاً في تمرير ما يصبو إليه.
وفي تركيا، واجه الرئيس رجب طيب أردوغان اتهامات عديدة من جانب قوى المعارضة - التي تحشد من أجل تعزيز فرص مرشحها الرئاسي رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلوا - بمحاولة استغلال التصعيد في الخارج لتعزيز فرصه في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى بالتوازي مع الانتخابات البرلمانية في 14 مايو القادم، وهى الاتهامات نفسها التي تبناها رئيس مليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية السورية مظلوم عبدي، الذي قال أن محاولة اغتياله، في 7 أبريل الجاري، عبر عملية استهداف مطار السليمانية الذي كان يتواجد فيه، كانت بهدف تعزيز حظوظ أردوغان في كسب الانتخابات وخلط الأوراق.
وفي إيران، واجه النظام بدوره اتهامات أيضاً من جانب قوى المعارضة والمحتجين بمحاولة تأجيج أزمات خارجية، عبر الهجوم على مناطق في شمال العراق أكثر من مرة، أولاً لتقليص حدة الأزمة الداخلية التي فرضتها الاحتجاجات، وثانياً لإضفاء وجاهة خاصة على المقاربة التقليدية التي تبناها منذ بداية الاحتجاجات وتقوم على وصفها بأنها "محاولة من جانب قوى خارجية لتقويض دعائمه ونشر الفوضى في إيران بدعم من جانب أطراف محلية".
3- تزايد الجدل حول "تكلفة المغامرات الخارجية": جاءت هذه التحولات في خضم تزايد الجدل على المستوى الداخلي في الدول الثلاث حول ما يسمى بـ"تكلفة المغامرات الخارجية". ففي تركيا، تعرض الرئيس أردوغان، منذ فترة ليست قصيرة، لانتقادات قوية من جانب قوى المعارضة بسبب السياسة الخارجية التي يتبناها والتي فرضت، في رؤيتها، تداعيات سلبية على المصالح التركية، وكان لها دور في تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية التي تزايدت حدتها عقب وقوع زلزال 6 فبراير الماضي.
ففضلاً عن أن هذه السياسة لم تثبت نجاحها في التعامل مع الأزمات الإقليمية الرئيسية، ولا سيما الأزمتين السورية والليبية، فإنها أدت إلى تصاعد حدة التوتر في العلاقات بين تركيا والعديد من القوى الإقليمية، وتحول العنوان الرئيسي لهذه السياسة من "تصفير المشكلات" إلى "تأجيج الأزمات". وقد كان ذلك أحد المتغيرات التي أدت إلى حدوث الانعطافة الملحوظة في هذه السياسة تجاه تلك القوى خلال العامين الماضيين.
أما في إسرائيل، فقد بدا لافتاً أن بعض القوى تحاول توظيف ما يحدث الآن لتعزيز موقعها في التوازنات الداخلية استعداداً لاستحقاقات سياسية محتملة في المرحلة القادمة، على غرار تفكك الائتلاف الحاكم وحل الكنيست والذهاب إلى انتخابات برلمانية جديدة. وحرصت تلك القوى على الإشارة إلى أن قسماً من أسباب ما يحدث يعود إلى الفشل في التعامل مع الأزمات الخارجية.
ففي هذا السياق، وجّه رئيس الحكومة السابق زعيم المعارضة حالياً رئيس حزب "هناك مستقبل" يائير لابيد انتقادات حادة لنتنياهو، معتبراً أنه "تسلم إدارة البلاد قبل مائة يوم والمبادرة الأمنية في يدها والحدود هادئة والعلاقات الدولية في أحسن مستوى". ومن دون شك، فإن لابيد يحاول الإشارة هنا إلى أن إسرائيل تواجه حالياً تصعيداً خارجياً على أكثر من جبهة في وقت واحد، في سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية.
لكن ذلك لا ينفي أن توظيف التطورات الخارجية في خدمة الحسابات الداخلية لم يكن وليد اللحظة أو بمعنى أدق لم يكن مرتبطاً بالاحتجاجات الأخيرة وما يتصل بها من صراع محموم حول الائتلاف الحاكم بين محاولة تحصينه من جانب نتنياهو ومساعي تفكيكه من قبل خصومه. فقد سبق أن شن نتنياهو نفسه حملة ضد لابيد – وقبله نفتالي بينيت - بسبب فشلهما، حسب رؤيته، في التعامل مع تطورات الملف الإيراني على سبيل المثال، لا سيما فيما يتعلق باستمرار إيران في تطوير أنشطتها النووية، وتعزيز حضورها في سوريا.
وفي إيران، برزت اتجاهات عديدة في الفترة الماضية، لاسيما منذ توقيع اتفاقيات لتأسيس علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، تُحمِّل السلطة الحاكمة قسماً من المسئولية عن ذلك. واستندت تلك الاتجاهات إلى أن التدخلات الإيرانية في الشئون الداخلية لبعض دول المنطقة، والإصرار على تطوير البرنامجين النووي والصاروخي، والتهديدات المتتالية لحرية الملاحة في الخليج العربي، كل ذلك كان له دور في الترويج لما يسمى بـ"الإيرانوفوبيا".
وبمعنى أدق، فإن تلك الاتجاهات اعتبرت أن السياسة الخارجية التي اتبعتها إيران منحت خصومها الفرصة للتأسيس لهذه الظاهرة، ومحاولة استثمارها لتكوين حشد إقليمي مناوئ لها، وهى محاولة لم تنجح في النهاية، لا سيما في ظل عزوف الكثير من دول المنطقة عن التماهي معها لاعتبارات خاصة بمحددات واضحة تفرضها مصالحها الوطنية في المقام الأول.
هذه المقاربة بدت جلية أيضاً خلال فترة الاحتجاجات الأخيرة. فرغم أن عنوانها الرئيسي كان الاعتراض على وفاة مهسا اميني، فإنها لم تكن بعيدة عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها إيران، والتي تعود، في قسم منها، إلى السياسة الخارجية التي تتبعها الدولة، على المستويين الإقليمي والدولي، والتي أدت إلى تصاعد حدة العقوبات الغربية، لا سيما الأمريكية، بشكل كان له دور في تقليص مستوى الصادرات النفطية الإيرانية وخروج الاستثمارات الأجنبية وارتفاع مستويات البطالة والتضخم والفقر وانهيار العملة الوطنية.
وقد كان لهذه التحولات الداخلية في إيران دور في التطورات الأخيرة التي طرأت على صعيد علاقاتها مع بعض الدول العربية، مثل السعودية التي وقعت معها اتفاقاً برعاية الصين في 10 مارس الفائت لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بعد فترة قطيعة بلغت سبع سنوات.
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن منطقة الشرق الأوسط تبدو مقبلة على استحقاقات استراتيجية عديدة، ليس فقط بسبب ما تفرضه الأزمات الإقليمية المختلفة من معطيات جديدة، ولكن أيضاً بسبب ما سوف تنتجه التحولات الداخلية في دول الجوار من تأثيرات مباشرة على سياساتها الخارجية وأنماط تفاعلاتها مع تلك الأزمات.