الأزمة في إسرائيل: تهدئة لا تضمن حلاً نهائياً
2023-3-28

سعيد عكاشة
* خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بعد أكثر من شهرين على الأزمة التي عاشتها إسرائيل على وقع المواجهات حول خطة الحكومة لإجراء إصلاحات في الجهاز القضائي، والتي وصلت للشارع واقتربت من حرب أهلية على حد وصف رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ، وافق رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على تعليق الإصلاحات مؤقتاً، أو على حد قوله "سيتم وقف عملية تشريع القوانين المنظمة لعمل الهيئات القضائية مؤقتاً، والدخول في حوار مع المعارضة لتحقيق أوسع توافق بين الطرفين حول حدود هذه الإصلاحات".

القراءة الدقيقة لبيان نتنياهو يعني أن الأزمة قد تم تبريدها وليس حلها بشكل نهائي، وبالتالي قد تنفجر مجدداً في أي لحظة إذا لم يصل الحوار بين المعارضة والحكومة إلى التوافق المنتظر.

كيف أدار نتنياهو الأزمة؟

منذ تشكيل الائتلاف الحاكم في إسرائيل في نهاية ديسمبر الماضي، وقع نتنياهو تحت ضغط من جبهتين: جبهة حلفائه في الائتلاف (أحزاب الصهيونية الدينية، والأحزاب الحريدية) والتي ضغطت بقوة للإسراع في تقديم خطة إصلاح القضاء، وإعادة التوازن بين السلطة القضائية والسلطتين التشريعية والتنفيذية، وجبهة المعارضة التي سعت لإسقاط الائتلاف عبر زرع الفتن من داخله، سواء في حزب الليكود نفسه، أو بين أحزاب الائتلاف وبعضها البعض.

ركز نتنياهو كل جهده على الحفاظ على الائتلاف، متجاهلاً تحركات المعارضة التي استمرت في حشد الشارع ضده، وظل حتى اللحظة الأخيرة مؤيداً لعملية تمرير خطة الإصلاح بالتصويت على جزء من بنودها لإرضاء حلفائه وإفشال مسعى المعارضة لتفكيك الائتلاف من الداخل.

ومن المؤكد أنه كان على دراية كاملة بأن المعارضة لن تكتفي بحشد الشارع وتحريض بعض أعضاء الائتلاف ضده، وأنها ستسعى أيضاً إلى تجنيد العديد من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني جنباً إلى جنب مع استدعاء ضغوط أمريكية وأوروبية ضده. ولكن خبرته الطويلة في العمل السياسي جعلته ينظر إلى كل هذه الضغوط على أنها - بالرغم من ذلك - تحتوي على جانب إيجابي، يتمثل في تحويلها إلى وسيلة لترويض حلفائه خاصة الأكثر تشدداً مثل ايتمار بن غفير وزير الأمن القومي وزعيم حزب عوتسماه يهوديت، والذي أعلن مراراً أنه على استعداد لمغادرة الائتلاف إذا ما أوقف نتنياهو خطة الإصلاح.

وبالفعل، أعلن بن غفير أنه حتى لو استقال من منصبه الوزاري سيظل هو وحزبه مؤيدين للائتلاف من الخارج، بما يعني تفويت الفرصة على المعارضة لإسقاط الحكومة، ولاحقاً أعلن عن بقائه في الائتلاف رغم تعليق نتنياهو خطة الإصلاح.

أيضاً نجح نتنياهو في ممارسة لعبة "حافة الهاوية" التي تجعل من طرفي الأزمة أكثر استعداداً للقبول بالحلول الوسط، ونقل الانقسام الذي كانت تخطط المعارضة لإحداثه في صفوف الائتلاف إلى جبهة المعارضة نفسها، التي انقسمت بين تيارين أحدهما كان ولا يزال يطالب بإلغاء خطة الإصلاح وليس تجميدها أو تأجيلها، فيما قبِل التيار الآخر بالتجميد والدخول في حوار مع الحكومة برعاية رئيس الدولة.

إن نجاح نتنياهو في تمرير فكرة تجميد خطة الإصلاح والتفاوض مع المعارضة حولها يعني أيضاً تخفيف حدة الضغوط الخارجية التي كانت تنادي بإجراء مثل هذا الحوار، كما مثّل التجميد وليس الإلغاء نوعاً من الاعتراف الضمني من جانب تيار من تيارات المعارضة بأن هناك حاجة فعلية لإجراء إصلاحات قضائية، وإلا ما وافق على فكرة الحوار من الأصل.

لكن على الجانب الآخر، خسر نتنياهو نسبياً داخل حزبه الليكود، حيث فاجئه موقف واحد من أقرب حلفائه وهو وزير الدفاع يؤاف جالانت الذي سبق وأن دعا بشكل منفرد إلى تجميد خطة الإصلاح من دون التشاور معه، وهو ما كان يوحي بوجود انقسام داخل الليكود حول كيفية معالجة الأزمة، وازداد الوضع تفاقماً مع تداول أنباء عن قيام نتنياهو بإقالة جالانت من منصبه، وانحياز بعض أعضاء الليكود والائتلاف الحاكم لجالانت ورفض قرار إقالته.

ورغم أن جالانت قد صرح بأنه لم يبلغ رسمياً بالقرار، إلا أن نتنياهو أكد وجود هذا القرار بشكل غير مباشر، عندما أعلن استعداده لإعادة جالانت إلى منصبه بشرط تقديم استقالته من الكنيست.

وتعد المواجهة الحالية بين نتنياهو وجالانت هي الأكثر خطورة، فوزير الدفاع "المُقال" أعلن عن رفضه الاستقالة من الكنيست. وحل هذه المعضلة ربما يكمن في استجابة نتنياهو لإعادة جالانت إلى منصبه وإسقاط شرط استقالته من الكنيست لتمرير الأزمة مؤقتاً، ثم الالتفات لاحقاً لمحاولة تهميشه - أي جالانت - سواء في الليكود أو في الائتلاف عقاباً له على موقفه المنفرد، على أمل أن يبادر جالانت نفسه بالاستقاله مستقبلاً احتجاجاً على محاولات تهميشه.

مأزق المعارضة

رغم ما يبدو أنه نجاح للمعارضة، بعد إجبارها نتنياهو على تجميد خطة الإصلاح، إلا أن هذه الجبهة الواسعة من أحزابها غير المتوافقة أيديولوجياً أو سياسياً ستتعرض في المدى المتطور لتحديات عديدة على رأسها:

1- احتمال تصاعد الخلاف بين مكوناتها، وخاصة بين تيارين: التيار الذي يريد الامتناع عن الدخول في حوار مع الحكومة قبل إلغاء الخطة بكاملها وليس تعليقها مؤقتاً، وهو ما عبرت عنه ميراف ميخائيلي زعيمة حزب العمل، والتيار الذي رحب بتعليق الخطة وبدء حوار حولها ويمثله بيني جانتس زعيم حزب الوحدة الوطنية.

2- مع قيام العديد من مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني بوقف الإضرابات التي كانت قد بدأت في أوج اشتعال الأزمة، تكتسب فكرة الحوار بين الحكومة والمعارضة قوة أكبر، ويمكن أن تشكل هذه المؤسسات أدوات ضغط على أحزاب المعارضة نفسها للقبول بحل وسط، يؤدي إلى مزيد من الانقسام في صفوفها.

3- تفتقر المعارضة لأي خطة بديلة في المرحلة المقبلة، حيث استثمرت كل جهودها في عملية رفض الإصلاحات القضائية، ولم تستمع إلى أصوات العديد من الخبراء في إسرائيل التي تؤيد إجراء إصلاحات متفق عليها بين الحكومة والمعارضة. وبالتالي فهي تدخل الحوار اعتماداً على موقف غير عملي وهو الرفض وفقط. وعاجلاً أم آجلاً سيطالبها الجمهور الذي وقف معها قبل تجميد الأزمة بأن تقدم خطتها الخاصة لمعالجة الأزمة.

4- ما تزال الأحزاب الصهيونية التي تعارض الإصلاحات وتريد إلغائها غير قادرة على جذب الأحزاب العربية إلى صفوفها، وهو ما تسبب في ضعف قدرتها على الحشد في المدن المختلطة (التي تضم سكاناً عرباً ويهوداً)، ويبدو أن هذا الوضع مرشح للاستمرار مستقبلاً، خاصة أن الأحزاب الصهيونية على اختلافها لم تبد أي استعداد للاهتمام بقضايا الوسط العربي خاصة المرتبطة بأوضاعه الاقتصادية، ناهيك عن تأييد معظم الأحزاب الصهيونية لسياسة التمييز ضد العرب، وضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.

5- من المتوقع أن يقوم اليمين الإسرائيلي بهجوم مضاد على جبهة المعارضة عبر تضخيم الاتهامات الموجهة لها بالضعف، بعد فشلها في إلغاء خطة التعديلات القضائية، وعدم الولاء الوطني، بعد استعانتها بالضغوط الخارجية على نتنياهو وحكومته.

6- تسبب تركيز المعارضة على مدح موقف وزير الدفاع المُقال يؤاف جالانت وإظهاره كسياسي وطني في زيادة شعبيته، وفي حالة ما إذا تمكن نتنياهو من احتواء أزمته مع جالانت سواء بالصيغة الالتفافية المشار إليها سابقاً، أو باستعادة الثقة المفقودة بشكل حقيقي بين الرجلين، فإن جالانت يمكن أن يتحول إلى سلاح ضد جبهة المعارضة، حيث من المعروف أنه لم يرفض خطة الإصلاح، بل كان يطالب بتأجيل طرحها والتحاور حولها، كما أن العديد من تصريحاته على مدى الأزمة كانت تدين المعارضة بوضوح، حيث رفض جالانت تحريض المعارضة للجنود والضباط على رفض الخدمة في الجيش، أو بمعنى آخر قد يستغل الليكود زيادة الشعبية التي حققها جالانت بمعاونة المعارضة لكي يحولها إلى أداة لصالحه في مواجهتها.

نهاية الأزمة ليست واردة

أحدثت خطة نتنياهو لإجراء التعديلات القضائية شرخاً يصعب رأبه مستقبلاً، رغم الهدوء المؤقت حالياً، فالانقسام في الدولة والمجتمع الإسرائيليين لم يكن سياسياً، بل اجتماعي وأيديولوجي، كما أنه ليس انقساماً بين أنصار الديمقراطية والمعادين لها كما تصور المعارضة، بل صراع محتدم حول مصالح متباينة لفئات اجتماعية مختلفة، وبالتالي فإن المفاوضات المنتظرة بين الحكومة والمعارضة لن تكون يسيرة، خاصة أن وفد الحكومة في الحوار أو جلسات التفاوض سيضم ممثلين لأحزاب الائتلاف جميعاً، وبعضهم مثل حزب الصهيونية الدينية وحزب عوتسماه يهوديت لن يتخلى عن مطالبه، خاصة فيما يتعلق بصلاحيات المحكمة العليا، وبالتالي فإن الفترة المقبلة حتى قرب نهاية شهر أبريل القادم ربما لن تعدو كونها مرحلة التقاط الأنفاس، استعداداً لجولة ربما تكون أكثر عنفاً بين الجانبين، أو إسقاط حكومة نتنياهو بواسطة حلفائه أنفسهم ودخول إسرائيل في دائرة مفرغة جديدة من عدم الاستقرار السياسي، ما لم تحدث مفاجآت مثل إدانة نتنياهو في القضايا التي يحاكم بسببها منذ عام 2019.


رابط دائم: